كانت إحدى أبرز ذكريات طفولتي، عندما كنت في زيارة لجيراننا في المنزل المقابل، ومن شرفة منزلهم حصلت على إطلالة مختلفة لبيتنا، فوجئت بأن بيتنا لم يكن مميزًا في شيء. يشبه أي بناية أخرى في الشارع، كما أن مساحته لم تكن كبيرة كما كنت أشعر بها في الداخل، بل كانت الحدود واضحة بالمباني المجاورة والنوافذ.

تعلمت منذ تلك اللحظة أحد أهم دروس حياتي، أن أحاول جاهدًا تغيير زاوية الصورة التي أنظر اليها، وأن أضع نفسي في الجهة المقابلة، حتى يتسنى لي أن أعرف كيف يرى الآخرون ما أدعيه.

كنت أغضب حين يخبرني أبناء الجيران بأن منزلهم أكبر أو أفضل، كنت أدافع باستماتة، وأعمل جاهدًا لإثبات انحيازي لبيتي، لم أكن حتى قد زرت بيتهم حتى يمكنني الحكم، ولم أكن بالطبع قد نظرت إلى بيتنا من زاوية أوسع لكي أختبر وجهة نظرهم.

في النهاية، توصلت إلى أن بيتنا لا يختلف عن بيتهم أو أي من البيوت المجاورة، المساحات متقاربة، والأثاث متشابه لدرجة التطابق، زاوية النظر والانحياز المسبق وحدهما يحددان وجهة النظر.

أتعجب كثيرًا حين أجد عددًا من المتصدرين للشأن العام، سواء من جانب السلطة أو المعارضة، لا يزالون يقفون موقف الصغار، حيث الدفاع عن وجهة النظر باستماتة، والتمسك بزاوية واحدة لفحص وتحليل وبناء المواقف، بالإضافة إلى الانحياز المسبق مع أو ضد أشخاص آخرين.

خلال فترة السجن كانت لدي فرصة أطول لمراجعة المواقف، والتوقف عند كل لحظة، من أجل فحص الجوانب الأخرى من الصورة. كان ذلك ينطبق على المواقف السياسية والحياتية السابقة، بالإضافة إلى المواقف الجديدة داخل أسوار السجن.

كان أمرًا غير مفهوم لزملائي أن أضع نفسي أحيانًا مكان السجان. الانحياز الشديد يدفع البعض إلى اعتبار أي محاولة لرؤية الأمور من الجهة المقابلة، وكأنها خيانة أو تبرير للطرف الآخر.

كان موقف السجان أيا كانت رتبته مفهومًا بالنسبة لي، هو مجرد موظف ينفذ التعليمات، ليس مسئولًا عن دخول أفراد إلى السجن أو خروجهم منه، لا يهمه حقيقة أسباب اعتقالهم، إلا لو كانت قد تنعكس على تصرفاتهم خلال مدة مكوثهم عنده، يحصل على امتيازات عديدة مقابل تنفيذه التعليمات، دون استفسار أو تفكير.

ما لم أستطع فهمه أو تفسيره هو وجهة نظر صاحب قرارات الاعتقال، على الأقل خلال السنوات الخمس الأخيرة، فمن الممكن استيعاب رغبة أصحاب القرار في السيطرة على الشارع، بعد حراك جماهيري واسع خلال الفترة من 2013 وحتى عام 2018، ولكن لماذا تستمر حتى الآن؟

بدأت حملات الاعتقال بالقبض على العشرات من المتظاهرين، ضمن التجمعات التي نظمتها جماعة الاإخوان، كان يتم إخلاء سبيل العديد منهم وحبس آخرين، بعدها بدأت الدولة في القبض على من ثبت وجوده في إحدى التظاهرات، ولو كان الإثبات هو مجرد تحريات من أفراد الأمن.

كانت القاعدة حينئذ أن كل من يخرج إلى الشارع سوف يتم القبض عليه، وكانت قاعدة واضحة ومفهومة في ظل رغبة السلطة في وقف تحركات الإخوان على مستوى الجمهورية.

بعد إصدار قانون الإرهاب تم نسف تلك القاعدة، لم يعد الأمن يحتاج إلى واقعة لاعتقال أشخاص، مجرد تحريات بالانتماء إلى جماعة الإخوان سوف تكون كافية لفتح قضية وإصدار قرارات الحبس الاحتياطي.

في الحقيقة، لم تعد هناك أي قاعدة، أي اشتباك مع السلطة أو أي من ممثليها، قد يجعلك هدفًا في وجه قانون الإرهاب، وفي ظل الأزمات التي يعيشها المواطنون لا يمكن أن تنعزل عن السلطة، أو تتجاهل وجودها، بينما تصدر قرارات يومية تؤثر مباشرة على حياتك.

رغم نجاح السلطة في تحقيق ما طمحت إليه من سيطرة كاملة على الشارع، إلا أن حركة القبض لا تزال مستمرة حتى الآن. تضاءلت أسباب الاعتقال من التظاهر إلى الانتماء حتى وصلنا إلى مرحلة أن الجهر بمعارضة السلطة وانتقاد تصرفاتها يقودك إلى السجن.

أحاول دائمًا رؤية المشهد من منظور السلطة، لماذا تتوسع  الاعتقالات لتشمل أشخاصًا ليس لهم أي انتماء سياسي، أو خصومة مع السلطة، كل ما ارتكبوه هو مجرد منشور على مواقع التواصل الاجتماعي. قابلت شبابًا سجنوا بسبب منشور عن ازدحام المستشفيات خلال أزمة كورونا، وآخرين بسبب منشورات عن أزمات في البنية التحتية، وصل الأمر إلى مجرد فيديو تمثيلي ساخر على “تيك توك” ظهر فيه ممثل يرتدي زي سجان، في مشهد مشابه لعشرات غيره من الأعمال الفنية التي أنتجتها الدولة بنفسها.

بعد محاولات متكررة لفهم مبررات السلطة، صرت أقرب إلى أن الاعتقالات الأخيرة لا تحمل أي وجهة نظر، السبب الوحيد لاستمرار الحملات هو الاعتقال في حد ذاته.

ليست الاعتقالات بهدف الردع العام، فقد تحقق بالفعل ما يمكن أن يتحقق، ولا مجال لتحقيق أكثر من ذلك، ما وصلنا إليه هو أقصى ما يمكن أن نصل إليه، خاصة في ظل سهولة التواصل والتعبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

أخشى أن تكون الاعتقالات قد تحولت إلى “تارجت” -target وهي كلمة انجليزية شائعة تعني هدفا ينبغي الوصول إليه- لوظيفة ما داخل الدولة، وأحد الموظفين مرتبط بعدد من المعتقلين سنويًا لإثبات كفاءته وحرصه على استقرار النظام، أن تبقى السجون ممتلئة لإظهار أن الخطر لا يزال يحيط بالنظام، وأن القبضة يجب أن تبقى مشدودة.

من الممكن إسكات الإعلام والنخبة والسياسيين وأصحاب الرأي، ولكن لا يمكن إسكات الجميع، سوف يتكلم الناس ما دام لديهم الفرصة لذلك، وبالتالي سوف تستمر السلطة في القبض عليهم.

إذا كانت هذه هي الحقيقة فلا يمكن أن تحل أزمة المعتقلين عبر لجان أو نداءات، ولن يكون الحل هو خروج العشرات ودخول آخرين غيرهم. الحل الوحيد أن تتخذ السلطة قراراها بوقف تلك العملية، أن يتم تعطيل تلك الماكينة التي تبحث يوميًا عن موارد تبرر عملها وتفسر ما تستهلكه من طاقة.