عندما أصدر الأستاذ محمد حسنين هيكل كتابه “خريف الغضب” عن الرئيس محمد أنور السادات، تراوحت ردود الفعل وفقًا للموقف السياسي من توجهات ومواقف الرئيس السادات ما بين مُرحِبٍ بما ورد بالكتاب بالكُلية المطلقة، ورافضٍ له بالقطع الجازم، لكن أحدًا لم يقدم نقدًا لمنهج إعداد “خريف الغضب” على نحو ما فعل الدكتور فؤاد زكريا حين أصدر كتابه “كَمْ عُمْرُ الغضب” في 1984.
وقد كان الدكتور فؤاد -بالمناسبة- واحدًا من كبار معارضي سياسات الرئيس السادات عليه رحمة الله. ينقسم الكتاب إلى مقدمةٍ وعشرة فصول لكلٍ منها حكاية تستحق مقالًا مُنفردًا لكنني سأقتصر فيما أعرضه الآن للقارئ الكريم على ما أورده الدكتور فؤاد زكريا بمقدمة “كَمْ عُمْرُ الغضب” من تشخيصٍ لأزمة العقل العربي مُتخذًا من ردود الأفعال المتباينة على كتاب الأستاذ هيكل مثالًا، ثم أنتقلُ إلى عرض لما جاء بالفصل السادس الذى وضع له الدكتور فؤاد زكريا عنوانًا مثيرًا….”وَرَّثَه مصر، ونسى”.
يقول الدكتور فؤاد في المقدمة التي أستميح القارئ الكريم عذرًا أن أنقل منها نصًا لأهميتها في إبراز أصول منهج الدكتور فؤاد النقدي مُكتفيًا بذلك دون تعليقٍ مِن جانبي: “قبل أن يظهر كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل الأشهر “خريف الغضب” في الأسواق، نُشر على هيئة سلسلة من المقالات في صحيفة الوطن الكويتية.
وطوال الوقت الذي كانت تنشر فيه هذه المقالات، كانت سلسلة أخرى من الأفكار تتفاعل في ذهني وتتبلور يومًا بعد يوم. كان كتاب هيكل بغير شك هو السبب المباشر في إثارة هذه الأفكار، ومع ذلك فقد كانت أصولها أبعد من ذلك وأعمق بكثير، إذ كانت في نهاية المطاف تأملات في تلك الأزمة العقلية الشاملة التي شوهت تفكيرنا، حكاما ومحكومين، في النصف الثاني من القرن العشرين.
وحين إطلعت على ردود الأفعال التي أثارها كتاب هيكل، أو ما نشر منه، في الأوساط الرسمية والإعلامية والثقافية المصرية، والطريقة التي استجاب بها الناس له، ما بين موافق ومخالف، ازدادت الأمور في ذهني وضوحا، وتبين لي أن المناخ السائد، الذي تولدت عنه هذه الأزمة العقلية، يلف الجميع، من مؤيدين ومعارضين، مهما بدا من اختلاف ردود أفعالهم في الظاهر. وكانت المهمة التي أخذتها على عاتقي هي أن أحدد أبعاد هذه الأزمة، وأثبت أن المشكلة ليست مشكلة هيكل وحده، أو مشكلة التضاد بين هيكل وتلك القوى التي وقفت تحتج وتعترض عليه، وإنما هي أوسع من ذلك وأخطر.
أعود فأقول أن ردود الأفعال هذه كانت دليلا آخر على صحة التشخيص الذي قمت به في هذا الكتاب للتشويه الذي لحق بعقولنا بعد سنوات طويلة من الممارسات الملتوية المقيدة بألف قيد. فقد ظهر لي بوضوح كامل أن عددا لا يستهان به من مثقفينا ما زالوا يصرون على تصنيف المفكرين السياسيين في إطار تلك الثنائية المحدودة: الناصرية أو الساداتية. فأنت في نظرهم لا بد أن تكون هذا أو ذاك، وإذا انتقدت أحدهما فلابد -في رأيهم- أن يكون هذا النقد لحساب الآخر.
أما أن يتخذ المفكر لنفسه موقعًا خارج نطاق هذه الثنائية، ويقف من الطرفين معًا موقفًا ناقدًا متحررا، كما حاولت أن أفعل في هذا الكتاب، فهذا ما يعجزون عن تصوره أو استيعابه.”
يعرض الدكتور فؤاد زكريا بالفصل السادس من “كم عُمْرُ الغضب” قصة اختيار الرئيس جمال عبد الناصر للسيد أنور السادات كنائب له في ديسمبر 1969 وفقًا لما ورد بكتاب الأستاذ هيكل حسبما قال له الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان متوجهًا حينها لحضور مؤتمر القمة العربي بالمملكة المغربية، وكانت بعض التقارير تشير إلى أن هناك مؤامرة لاغتياله بالمؤتمر، “كان أنور السادات سيمر علىَّ لكي يصحبني إلى المطار، وطلبت منه أن يجئ معه بمصحفه.
ولم يفهم ماذا عنيت بهذا الطلب، وعندما جاء فقد جعلته يقسم اليمين ليكون نائبًا لرئيس الجمهورية في غيابي. ثم أضاف عبد الناصر أن الآخرين جميعًا واتتهم الفرصة ليكونوا نوابًا لرئيس الجمهورية إلا أنور..ولعله دوره الآن*، “من مؤتمر الرباط إلى زيارة موسكو السرية إلى استمرار حرب الاستنزاف إلى مبادرة روجرز إلى المواجهة بين الملك حسين والثورة الفلسطينية في الأردن فإن وَضْع أنور السادات كنائب للرئيس كان قضية مَنسية حتى وإن خطر للبعض بما فيهم عبد الناصر نفسه أن الأمر قابل لإعادة النظر فيه”**.
توقف الدكتور فؤاد عند نقطتين مفصليتين وصفهما بالكارثتين في حديث الأستاذ هيكل وهما: معيار الاختيار (لعله دوره الآن)، وأن الرئيس ناصر قد تركه في منصبه لأنه نَسى (قضية مَنسية).
قدم الدكتور فؤاد تفسيرًا لهذا الاختيار يختلف عما ذهب إليه الأستاذ هيكل، ففسر الأمر باعتبارات تتعلق بنمط ومسار اتخاذ القرار في مصر وقتذاك، وقد كانت هناك ملاحظة أخرى ذات صلة بحكاية “الدور والنسيان” صاغها الدكتور فؤاد زكريا بحِدة بالغة بالفصل السابع من “كم عُمْرُ الغضب” وكانت تتعلق بموقف الأستاذ هيكل نفسه حين قرر أن يدعم الرئيس السادات ضد من أطلق هو (الأستاذ هيكل) عليهم وصف “مراكز القوى” في الصراع الذي حسمه الرئيس السادات في مايو 1971.
فكيف تسنى للأستاذ هيكل أن يدعم الرئيس السادات ويرَوِج له ثم يدير حملته الانتخابية في 1971 وهو يعلم عنه أمورًا يرفضها بل ويتناقض معها مبدئيًا وفقًا لما أورده في “خريف الغضب” الذي لم يترك فيه نقيصة من النقائص إلا وقد ألصقها بالرئيس السادات؟ يضعنا الدكتور فؤاد أمام احتمالٍ من اثنين: إما أن الرئيس ناصر قد اختار السيد أنور السادات كنائب له لأنه كان مقتنعًا به وعندئذ تكون قصة “الدور والنسيان” هي قصة مُلفقة (حسب وصف الدكتور فؤاد)*** أو أنه كان قد اختاره بصورة مؤقتة ولم يكن ينتوي الاحتفاظ به للنهاية حيث فاجأه الموت قبل أن يعدل عن رأيه وفي هذه الحالة يكون الأستاذ هيكل قد أدار حملة الرئيس السادات على أساس عملية غِشٍ كبرى (حسب وصف الدكتور فؤاد)*** موجهة ضد الجماهير البريئة الذاهبة إلى صناديق الاستفتاء.
فيما لا يتناقض مع ما توصل إليه الدكتور فؤاد وفي امتدادٍ له، أظن أن تفسيرًا منطقيًا آخر يمكن النظر فيه لمحاولة فهم تفاصيل حكاية “الدور” على أرضيةٍ مختلفة تنفي عن الرئيس جمال عبد الناصر ما قد يرد على ذهن القارئ الكريم من انطباع عن بساطة تفكير لم تكن بالتأكيد من ضمن صفاته.
كان الرئيس عبد الناصر قد بدأ فعليًا بإعادة النظر في سياسات نظامه العامة -لا في نمط ومسار اتخاذ القرار ولا في استراتيجياته العليا- بعد كارثة 1967 التي أثبتت فشل الكثيرين ممن أتيحت لهم فرصة لعب “دور” نائب الرئيس، فأراد تغييرًا أكثر مرونة وواقعية يتيح مساحة أكبر للمناورة لا يستطيع أن يعاونه فيه سوى واحد يمتلك رؤية وعلاقات إقليمية ودولية كالتي توافرت للسيد أنور السادات آنذاك، وعلى هذا فقد يمكننا فهم مصطلح “الدور” بكونه دورًا تنفيذيًا يبحث عمن تتوافر فيه مؤهلات شَغْلِهِ لا بكونه دورًا تراتُبيًا يناله الشخص وفقًا لتسلسل ميكانيكي الطابع حسب الأقدمية مثلًا.
كتب الكثيرون تفسيرات متعددة لأحداث ومواقف الرئيس جمال عبد الناصر التي جرت في الفترة ما بين يونيو 1967 إلى سبتمبر 1970 إلا واحدًا كنا بحاجة لقراءة تفسيراته حتى تكتمل الرؤية من الداخل….الرئيس جمال عبد الناصر ذاته عليه وعلى الجميع رحمة الله.
نناقش معركة الدكتور فؤاد زكريا في تفكيك البِنية الفكرية لحركة الإسلام السياسي بالجزء الأخير من هذا المقال في الأسبوع القادم إن كان في العُمر بقية.
*الصفحة 92 من “خريف الغضب”- الطبعة الثالثة عشر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ببيروت.
**الصفحة 97 من المصدر السابق.
***الصفحة 84 من “كَم عُمْرُ الغضب”- طبعة 1991 عن دار مصر للطباعة.