تبدأ اليوم الاثنين زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى روسيا. وهي زيارة دولة معلنة ومقررة، تأتي في ظل، وعلى خلفية، أحداث عالمية وإقليمية نوعية من العيار الثقيل، على رأسها دخول الغزو الروسي لأوكرانيا عامه الثاني، وتشديد الغرب عقوباته ليس فقط على موسكو، بل وبدء فرض عقوبات على دول ثالثة تتعاون مع الكرملين. وهي الخطوة الحادة والصارمة التي كان الغرب يعد لها طوال العام الأول من الغزو الروسي لأوكرانيا.
كذلك، تأتي الزيارة بعد إسقاط الولايات المتحدة المنطاد الصيني، وسقوط المُسيرة الأمريكية في البحر الأسود، بعد احتكاك مع مقاتلات روسية. والأهم من ذلك كله، هو دور الصين في التقريب بين إيران والمملكة العربية السعودية، ومبادرة الرئيس الصيني للأمن العالمي، التي تضم أيضًا مبادئ أولية فضفاضة لتسوية الأزمة الأوكرانية.
وعلى الرغم من محاولات روسيا جر الصين إلى الصراع العسكري -الجيو سياسي- المباشر بين موسكو والغرب. إلا أن بكين لا تزال تلتزم بموقف محايد (موضوعي) يخدم أهدافها الاقتصادية والتنموية والأمنية على الترتيب. ومع ذلك، فإن وسائل الإعلام الروسية تواصل محاولاتها توريط الصين ودق الأسافين بينها وبين الغرب، إضافة إلى التصريحات الرسمية الروسية “الملتوية” التي تعطي انطباعات متناقضة.
الأمر الآخر الذي يمتلك أهمية خاصة واستثنائية، هو أن الزيارة تأتي بعد أيام قليلة من إعلان المحكمة الجنائية الدولية عن مذكرتها بتوقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطوة خطيرة، وإن كانت تنطوي على جانب آخر دعائي يتعلق بهدم “الصورة النمطية” للرئيس الروسي، ووضعه ضمن “القادة المنبوذين”. وهي في الحقيقة خطوة أثارت غضب الكرملين، ودفعته إلى تصريحات ومواقف حادة للغاية.
اقرأ أيضًا: الصدام المباشر بين روسيا والغرب هو الطريق الوحيد للمفاوضات
وهذه الخطوة الأخيرة تجرح “الكبرياء السياسي-القومي” لنخبة الكرملين، وتهز الصورة “البطولية” التي تسعى موسكو لترويجها عن نفسها، وعن سرديتها الجديدة بشأن دفاعها عن شعوب العالم وعن “الديمقراطية” في العلاقات الدولية.
وبطبيعة الحال، أعلن الكرملين أن هذا الإعلان لا قيمة له، لأن روسيا ليست عضوًا في هذه المحكمة ولم تصادق على الاتفاقية ذات الصلة. غير أن الواقع شيء آخر تمامًا، فقد أضافت موسكو شرطًا “نوعيًا” جديدًا لشروطها بشأن تسوية الأزمة الأوكرانية. وأعلنت وزارة الخارجية الروسية أن إلغاء جميع العقوبات على روسيا والدعاوى المرفوعة ضدها في المؤسسات القضائية الدولية يعتبر جزءًا أساسيًا من أي تسوية قادمة للأزمة. ثم كررت بقية شروطها الأخرى بشأن تحقيق سلام مستدام بين روسيا وأوكرانيا يقتضي “ضرورة” وقف توريد الأسلحة لكييف، وإعلان أوكرانيا دولة محايدة، والاعتراف الدولي بضم الأراضي الأوكرانية لروسيا، ونزع سلاح أوكرانيا، وتأمين وضعها كدولة خالية من الأسلحة النووية، وضمان حقوق السكان الناطقين بالروسية فيها”.
وهذا يعني إضافة المزيد من تعقيد الأمور أكثر فأكثر، ليس فقط حول الأزمة الأوكرانية، ولكن أيضًا فيما يتعلق بتحركات بكين نحو أي تسوية أوكرانية.
في الواقع، روسيا ليست متفقة بنسبة كبيرة مع مبادرة الرئيس الصيني بشأن التسوية في أوكرانيا. ولكنها من جهة أخرى لا تستطيع رفض المبادرة بشكل واضح ومباشر. خاصة وأن الصين لم تعترف بضم القرم أو أي من المناطق الأوكرانية الأخرى إلى قوام روسيا الاتحادية. بل وتكرر موقفها الصارم بشأن وحدة أراضي الدول وسيادتها. وهو ما يتعارض تمامًا مع تحركات روسيا في أوكرانيا. فهل سيؤثر إعلان المحكمة الجنائية الدولية في موازين القوى بين تشي وبوتين؟! وهل يمكن لتشي أن يستغل الموقف بحنكة ودبلوماسية في تمرير بعض أفكار مبادرته التي لا تروق للكرملين؟!
أجندة الصين المعلنة
وفقًا لوزير الخارجية الصيني تشين قانج، فإن “العلاقات الروسية الصينية ليست موجهة ضد أطراف ثالثة ولا تشكل تهديدا للدول الأخرى. فهي تتميز بعدم الانحياز وعدم المواجهة وعدم توجيهها ضد أي أطراف ثالثة، ولا تشكل خطرا على أي دولة في العالم، ولا تتسامح مع تدخلات واستفزازات أطراف ثالثة”.
حرصت وزارة الخارجية الصينية على تأكيد مبدأ مهم للغاية، حيث أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “وانج ون بين” أن “زيارة الرئيس شي جين بينج لروسيا سلمية، وأن الجانبين سيناقشان “التعددية الحقيقية على أساس مبادئ عدم الانحياز” و”عدم استهداف أطراف ثالثة”، و”إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية”، و”بناء عالم متعدد الأقطاب”، وتحسين الحوكمة العالمية من خلال المساهمة في التنمية العالمية”، و”التزام الصين بشدة بموقف موضوعي وعادل بشأن الأزمة الأوكرانية ولعب دور بناء في دفع محادثات السلام قدمًا”.
على الجانب الآخر، قالت الخارجية الصينية أيضًا إن “روسيا والصين منخرطتان في تعاون مفتوح لا يقبل التدخل أو الإكراه من قبل أطراف ثالثة”.
اقرأ أيضًا: دروس الصين الاقتصادية من حرب أوكرانيا
وأكدت أن هذا “التعاون نزيه وعادل ومنفتح، ويفيد شعبي البلدين ويعزز التنمية العالمية، ولا يخضع للتدخل والتهديد والإكراه من أي طرف ثالث”، وأن “الصين تتخذ على الدوام موقفًا مسئولًا فيما يتعلق بتصدير المنتجات العسكرية، وسيطرت دائمًا على تصدير السلع ذات الاستخدام المزدوج وفقًا للقوانين واللوائح”. وهي “دائمًا تتعاون تجاريًا واقتصاديًا بشكل طبيعي مع جميع دول العالم، بما في ذلك روسيا، على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة”.
كان أهم ما في هذه الرسالة تشديد بكين على أن “الصين وروسيا ملتزمتان دائمًا بنوع جديد من العلاقات بين القوى الكبرى، يتضمن الشراكة بدلًا من الانضمام إلى الكتل، والحوار بدلًا من المواجهة. وهو ما يفرض الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المتبادل”، وأن “تصريحات بعض السياسيين بأن العلاقات بين روسيا والصين هي تحد للنظام العالمي ليست سوى مظهر من مظاهر عقلية الحرب الباردة”.
ما أعلنه الكرملين
عن الزيارة المقررة اليوم، قال الكرملين (مقر الرئيس الروسي) إن “الطرفين (بوتين وشي) سيناقشان قضايا الساعة المتعلقة بمواصلة تطوير الشراكة الشاملة والتفاعل الاستراتيجي بين البلدين. معلنًا عن التوقيع على عدد من الوثائق المهمة عقب محادثات الرئيسين، وكذلك الاتفاق على تعميق التعاون الروسي الصيني على الساحة الدولية”.
وفي تصريحات أخرى صدرت عن الكرملين، تم التأكيد على أن “جزءًا كبيرًا من تقييم الصين للأوضاع في أوكرانيا يتوافق مع الرؤية الروسية”، وأن بوتين سيناقش مع الرئيس الصيني الصراع في أوكرانيا”، وأن “موسكو تقدر موقف الصين المتوازن بشأن الأزمة الأوكرانية”، وأن “الرئيسين سيناقشان التعاون العسكري بين البلدين”.
الموقفان الروسي والصيني
من الواضح أن موقفي وأجندتي موسكو وبكين بهما الكثير من التناقضات والتوافقات. فبكين تنظر بعين إلى مصالحها مع الغرب، وبعين أخرى على مساحة نفوذها الإقليمي والدولي، وتدخل روسيا ضمن النظرة الثانية لبكين باعتبارها “الدجاجة التي تبيض ذهبًا” في الوقت الراهن ويجب استثمارها جيدًا. بينما موسكو تنظر بعين إلى صراعها العسكري-الجيو سياسي مع الغرب، وبعين أخرى إلى عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
وفي خلفية ذلك، تسعى روسيا بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة إلى جر الصين إلى جانبها، أو على الأقل تحييدها في بعض المسارات التي يمكن أن تضعف مواقف الطرف الروسي. وبالتالي، فمن المتوقع ألا يخرج لقاء الرئيسين الروسي والصيني عن إطار موقفي البلدين المعلن، بصرف النظر عما يمكن أن يتناثر هنا أو هناك من تصريحات ساخنة تهم وسائل الإعلام أكثر من كونها تصريحات واقعية قابلة للتحقيق. إذ أن مشاكل روسيا مع الغرب تختلف تمامًا عن مشاكل الصين.
من المتوقع أن يتم توقيع بعض الاتفاقيات بين البلدين، ومن ضمنها اتفاقيتان اقتصاديتان حتى عام 2030 (وفق التوقعات الرسمية الروسية). ولكن مضمون هاتين الاتفاقيتين غير معروف بالتفصيل. والأهم بالنسبة لبكين أن يظل ضخ النفط الروسي بتلك الأسعار الزهيدة، التي على الرغم من ضآلتها الملموسة ساهمت في رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين بعدة عشرات من مليارات الدولارات.
وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 180- 190 مليار دولار. وقد زاد حجم الصادرات الصينية إلى روسيا، من المنتجات عالية التقنية بنسبة 51%، والسيارات وقطع الغيار بنسبة 45%. إضافة إلى زيادة إمدادات المنتجات الزراعية بنسبة 43%. وكذلك زيادة حصة التسويات بالعملات الوطنية. والأهم هنا هو توسيع التعاون في مجالات اتصالات الجيل الخامس والتجارة عبر الإنترنت والاقتصاد الرقمي.
ولكن من جهة أخرى، لا يمكن مقارنة حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين بمثيله بين الأخيرة والغرب مجتمعًا. حيث يصل إلى ترليون ونصف الترليون دولار سنويًا. وبالتالي، من الصعب المبالغة في نتائج هذه القمة بين الرئيس بوتين ونظيره جين بينج. أما من ناحية الافتراضات النظرية والعصف الذهني، فمن الممكن مد كل الخطوط على استقاماتها لنصل إلى تحالف استراتيجي بين بكين وموسكو، وإلى مواجهة بين الاثنتين من جهة وبين الغرب من جهة أخرى. وهو في الحقيقة ما لا تفكر فيه بكين. وحتى إذا فكرت فيه، فإنها ستنفذه بطريقتها ووفق مصالحها التي تدخل فيها روسيا كمنطقة نفوذ وكدولة من الدول “الأقل” التي يجب أن تستثمرها الصين جيدا، وتستخدمها كورقة للمساومة.
الصين وأوكرانيا والخليج
المفاجأة الأخرى، قد تكون في انتظار الغرب وروسيا لدور صيني أكثر وضوحًا وتحديدًا و”التزامًا” لتسوية الأزمة الأوكرانية.
وبطبيعة الحال، فتوريط الصين في هذا الدور مفيد للطرفين الغربي والروسي. ولكن بكين منتبهة تمامًا لعدم الوقوع في فخ الالتزامات الصارمة تجاه أي من الطرفين. وهذا يمنحها مساحة أكبر للمناورة، وإمكانية للحفاظ على مصالحها، وقدرة على ضبط الأمور في الداخل الصيني المليء بالمشاكل والأزمات، وخاصة خلال السنوات المقبلة التي ستبدأ فيها بكين بالتفكير في ممارسة دور القوة الثانية عسكريًا وجيو سياسيًا، والتي ستكون فيها روسيا ضمن مناطق نفوذ الصين. وهو الأمر الذي تظهر بعض مؤشراته حاليًا.
في نهاية المطاف، تشعر بكين بحرية حركة غير مسبوقة. وتلعب حاليًا دورًا إقليميًا ودوليًا مهما، تعززت ركائزه بعد إسهامها في التقريب بين طهران والرياض. ولكن من المشكوك فيه أن يتكرر ذلك في الأزمة الأوكرانية بين موسكو وكييف، لأسباب تتعلق بطبيعة الصراع في الأزمتين. وإذا أردنا الدقة، فالولايات المتحدة وأوروبا لديهما مقاربة مهمة للغاية في مسألة التقارب بين إيران والسعودية، ودور الصين. إذ كان تعليق واشنطن على تصريحات وزير المال السعودي محمد الجدعان بشأن “ضخ الاستثمارات السعودية في إيران”، أنه “ما دام تم الالتزام بالحقوق السيادية لكل دولة، فلا مشاكل”.
وقال منسق الاتصالات الاستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي في هذا الصدد، إن “إيران طرف مزعزع للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة، سواء كانت بالطريقة التي يعاملون بها شعبهم، أو بدعم جماعات كحماس وحزب الله وأنصار الله أو الهجمات على الشحن البحري.. إذا كان الاتفاق بين السعودية وإيران سيقلل التوترات، أو يمكن أن يساعدنا في إنهاء الحرب في اليمن، وإذا كان بإمكانه جعل الأشخاص الذين يعيشون في السعودية أكثر أمانا، بما في ذلك 70 ألف أمريكي، فإن كل شيء لصالحنا ونحن ندعم ذلك”.
هذا الكلام “البراجماتي” المهم، قد ينطبق بدرجات كبيرة على تسوية الأزمة الأوكرانية بوساطة الصين وعلى دور بكين فيها. وفي الوقت نفسه هناك مسافة كبيرة بين طبيعة كل من الأزمتين الأوكرانية والخليجية. والسؤال هو “كيف ستتصرف بكين في تجاوز هذه المسافة، وما هي تجليات ذلك على أرض الواقع بعيدًا عن التهويمات النظرية؟! أما مبادرة الرئيس الصيني بشأن الأمن العالمي، فهي لا تلقى أي تجاوب حقيقي وواقعي على الأرض، لا من جانب موسكو ولا من جانب واشنطن اللتين تكتفيان بالترحيبات “الدبلوماسية” إلى الآن.