منذ عدة أسابيع، وتحديدًا منذ الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي، وما تلاه من خفض القيمة العملة المحلية (الجنيه)، ونحن في حالة صراع غير طبيعي بين المواطن وغلاء الأسعار. قامت السلطة باتخاذ إجراءات عديدة للحد من هذا الغلاء، وقد اتسمت تلك المواقف بالتدرج، ولم تصدر كحزمة واحدة. وقد كانت هناك عدة مواقف اتخذتها السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الدولة أو الحكومية.
أولًا: جهود الدولة لمواجهة الغلاء
1- سعت الدولة لوضع سعر استرشادي، وقد تم ذلك لنحو 13 سلعة، في مسعى واضح للسيطرة على انفلات الأسعار، وقد شكلت الحكومة لجنة عليا للأسعار، بعضوية كلا من وزارة التموين، واتحاد الصناعات، واتحاد الغرف التجارية وحماية المستهلك، وذلك لوضع سعر عادل للسلع الاستراتيجية كالزيت، والسكر، والدقيق، والعدس، والفول، والمسلي، والشاي، بحيث تعلن تلك اللجنة عن حد أدنى وأقصى لكل سلعة.
ويحق للجنة إضافة سلع أخرى، وهو ما فعلته مع الأرز، حينما أصدر رئيس الوزراء قرارًا بتحديد أسعار الأرز، من 12 جنيهًا للكيلو السائب، و15 جنيهًا للكيلو المعبأ، و18 جنيهًا للكيلو الفاخر، وذلك لمدة 3 أشهر.
2- قام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة، وذلك استدراكًا لرفع الاحتياطي الأمريكي أسعار الفائدة عدة مرات في الأونة الأخيرة، ما أدى إلى قيام مصر برفع أسعار الفائدة. وكان أبرز ما قامت به في هذا الشأن، هو تقرير شهادات ذات عائد سنوي يصرف في نهاية المدة قدره 25%، و22% حال صرف العائد شهريًا.
3- أعلن رئيس الدولة في 2 مارس 2022، عن تحسين دخول الموظفين الرسميين بالدولة، وأصحاب المعاشات، والكادرات الخاصة، لمجابهة الغلاء في البلاد، وذلك اعتبارًا من أول إبريل المقبل، بحيث يزداد بموجب ذلك دخل الموظف بحد أدنى 1000 جنيه شهريًا، وزيادة المعاشات المنصرفة لأصحابها والمستفيدين عنهم بنسبة 15%، ورفع حد الإعفاء الضريبي على الدخل السنوي من 24 ألف جنيه ليكون بقيمة 30 ألف جنيه سنويًا، وزيادة الفئات المالية الممنوحة للمستفيدين من برامج (تكافل وكرامة) بنسبة 25%.
جدير بالذكر، أنه في أكتوبر الماضي، وافق مجلس الوزراء على إقرار حزمة حماية اجتماعية تشمل إقرار علاوة استثنائية لمجابهة الغلاء لجميع العاملين بالجهاز الإداري للدولة والشركات التابعة للدولة وأصحاب المعاشات بمبلغ 300 جنيه شهريًا.
وقبل ذلك وفي يوليو الماضي، أصدر رئيس الدولة مجموعة قرارات تضمنت ضم مليون أسرة إلى برنامج (تكافل وكرامة)، ليتجاوز حجم المستفيدين من البرنامج 20 مليون مواطن على مستوى ربوع البلاد، وصرف مساعدات استثنائية لعدد 9 ملايين أسرة لمدة 6 أشهر، بتكلفة إجمالية تقدَّر بنحو مليار جنيه شهريًا، تُصرف للأسر الأكثر احتياجًا.
4- تقرير رجال الأعمال وبضغط من الدولة مبادرة “كتف بكتف”، لإنقاذ قطاع من المصريين من العوز، وهم على شفى قدوم شهر رمضان، وقد تم ذلك بإعداد مئات الآلاف من “الكراتين” معبأة ببعض السلع الاستهلاكية، توزع على المحتاجين، احتفالًا بقدوم شهر الصوم.
على أن تلك المواقف وغيرها رغم جديتها وتنفيذها على الأرض إلا أن مردودها كان محدودًا للغاية على العامة الذين أصابهم الفقر الشديد بسبب خفض قيمة العملة المحلية إلى أكثر من 50% عقب الاتفاق مع صندوق النقد الدولي -على قرض جديد- على تعويم الجنيه، ما جعل أية إجراءات تنفيذية سواء رئاسية أو حكومية محدودة الجدوى، لأنها في الواقع ابتلعت قدرة الطبقتين الدنيا والمتوسطة على الصمود.
جدير بالذكر أن بحث الدخل والإنفاق الذي يعده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشكل دوري، قد رصد أن نسبة الفقر في مصر تقدر بـ 29.7% عام 2019-2020، وأن الفقر المدقع وصلت نسبته 4.5%، وهي أرقام يبدو أنها تحركت بالزيادة بنسبة 4% على أقل تقدير خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ما جعلها الأعلى على الإطلاق في مصر. وفي هذا الصدد نرصد مظاهر الأزمة.
ثانيًا: مظاهر أزمة الغلاء الراهن
1- كانت مبادرة الحكومة لوضع أسعار استرشادية قد أخذت زخمًا مهمًا في البداية، لكنه سرعان ما فترت همم وعزيمة القائمين على الرقابة على الأسواق. جدير بالذكر أن رفض الدولة وضع تسعير جبري، كان رغبة منها في عدم خرق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يدعو كسياسة عامة لتحرير أسعار السلع والخدمات، بذات الكيفية التي يدعو بها لتحرير أسعار الصرف.
وعامة، فقد أدى فتور الحكومة في ذلك إلى ارتفاع غير طبيعي لأسعار السلع كافة، بما فيها السلع التي حددتها لضبط سعرها. وكان أكثر ردود فعل ذلك وطأه هو أزمة الأرز التي لا زالت مستمرة. إذ بعد أن قررت الحكومة في 16نوفمبر الماضى ولمدة 3 أشهر اعتباره ضمن السلع الاستراتيجية وفق قانون 181لسنة 2018.
ارتفع سعر الأرز بنسب فاقت الـ80%، ما شكل أزمة كبيرة حتى في طبق الغذاء المصري الشعبي الأرخص، وهو طبق “الكشرى” الذي يعتمد بالأساس على الأرز. حتى أن أكشاك الدولة وضعت حدًا لشراء الأرز بها. وبذلك كانت قرارات الحكومة بمصادرة السلع والحبس والغرامة للتجار المحتكرين، أثرًا بعد عين.
2- زيادة أزمة الأعلاف، فبعد أن تكدست أكوامًا كبيرة منه في المواني، انتظارًا لإنهاء مشكلة توافر الدولار، ورغم الإفراج الجزئي عن بعض تلك الكميات، وقيام بعض المستفيدين من الأزمة باستيراد دواجن مجمدة من البرازيل، إلا أن هذا الأمر لم يحل دون بقاء الأزمة، ممثلة في استمرار ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن والبيض والألبان بأسعار تتراوح بين 40-80%، ما ينذر بأزمة خطيرة، ليس فقط ونحن على أبواب شهر رمضان. بل قد تستمر الأزمة حتى عيد الأضحى ممثلة في ارتفاع كيلو الذبائح القائمة لتصل إلى 125جنيه للأبقار، و160جنيه للخراف.
المؤكد أن الحرب الروسية الأوكرانية التي يحتج بها كثيرًا لتبرير النواكب هي بريئة من تلك المشكلة، إذ أن الاتفاق التركي الأممي لفك الحصار لتصدير الحبوب الأوكرانية جدد أكثر من مرة أخرها الأسبوع الحالي، بل أن أسعار بعض السلع كالقمح والذرة انخفض عالميًا عما كان عليه الأمر عند بدء الحرب. هنا من المهم أن نشير أن طن الذرة الصفراء، وهو المصدر الرئيس للأعلاف، ونتيجة السياسات الداخلية سالفة الذكر، قد ارتفع منذ مارس 2022 حتى مارس 2023 من 5 آلاف جنيه إلى 20 ألف جنيه للطن.
3- بموازاة ارتفاع أسعار الغذاء، ارتفعت أسعار منتجات كثيرة، كما ارتفعت أسعار عديد الخدمات، وذلك ليس فقط بسبب عدم توافر العملة الأجنبية، بل وأيضًا بسبب ارتفاع أسعار الطاقة اللازمة أحيانًا كثيرة للإنتاج بعضًا من تلك السلع. خذ على سبيل المثال رد فعل كل ذلك في ارتفاع أسعار مواد البناء، وعلى رأسها حديد التسليح والأسمنت، بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والبنزين، والتي ارتفعت من مارس 2022 إلى مارس 2023 بالنسبة للحديد من 15400 جنيه إلى 27500 جنيه للطن، وبالنسبة للأسمنت من 1250 جنيهًا إلى 1700 جنيه للطن.
ثالثًا: إجراءات لوقف تفاقم أزمة الغلاء
وهكذا يتبين أن هناك مشكلة حقيقية تواجه البسطاء من الطبقتين الدنيا والوسطى، وهؤلاء يناهز عددهم غالبية الشعب المصري. ومن ثم فإن هناك عديد الإجراءات التي يتحتم تفعيلها، قبل أن يصل الغليان مداه، وتحدث مشكلات كثيرة، ربما تضر بالاستقرار.
1- أن غياب الرقابة على الأسواق أصبحت سمة غالبة لدى كافة أجهزة الرقابة المعنية، ما يجعل هناك حاجة ماسة إلى تفعيلها، واتباع آليات جديدة من أجل سيطرتها على الموقف المشتعل والمتفاقم. من هنا، فإن كافة الأجهزة الشرطية وبعض الوزارات ذات الضبطيات القضائية، يتحتم أن تقف بالمرصاد وتضرب بيد من حديد على كل مستغل أو جشع أو محتكر.
2- إن دور مؤسسات المجتمع المدني مهم للغاية في تلك الأوقات العصيبة، هنا مهم أن تمنح تلك المؤسسات الحرية الكاملة، وترفع الحكومة يدها عن تكبيلها الذي مردت عليه، وذلك حتى يتاح لها القيام بعملين إيجابي وسلبي. إيجابي، بمعنى إقامة المعارض التي تعرض المنتجات المختلفة بأسعار تنافس القائم في الأسواق. وسلبي، بمعنى الدعوة المستمرة لمقاطعة السلع التي ترى أن هناك استغلال في بيعها للمواطنين. كذلك، فإن تلك المؤسسات عليها دور جوهري في الإبلاغ عن أية تجاوزات من قبل تجار الجملة والتجزئة، حتى تسهل على أجهزة الرقابة عملها، لتقديم هؤلاء للعدالة.
3- يرتبط بما سبق، ضرورة قيام رجال الأعمال بلعب دور مهم في مواجهة تلك الموجه من الغلاء. هنا يجب أن نتوقف على مبادرة “كتف بكتف”، وهي على جودتها، فإن ما ينقصها، أولًا: ضرورة إبعادها عن كل ما يمتهن كرامة المواطن المحتاج، من خلال عرض الإعلام لصور تعبر عن استذلال الناس، واستغلال عوزهم. ثانيًا: منع وسائل الإعلام من تصوير تلك الأعمال، ومنع التركيز على أنها هبة من شخص أو موظف أو مسئول، لأن ذلك يجافى الحقيقة، ناهيك عن أن التباهي والعلن في المنح يغرس في نفوس المتبرع الرياء والمنة والكبر والتعالي والغرور، وفي نفوس مستلم المساعدة النفاق والذل والأحتقار والقضاء على عزة النفس.
ثالثًا: كان من المهم إلى جانب منح مساعدة الناس عبر الدعم السلعي، أن تقوم الجهات المانحة بخلق وظائف تقي الناس العوز، وتعلمهم قيمة العمل والإنتاج والاعتماد على النفس، بدلًا من الاستهلاك.
4- الاهتمام بالصناعة والزراعة، بغرض زيادة الإنتاج، ومن ثم رفع العبء الناتج عن الاستيراد الذي يحتاج على الدوام إلى توافر عملات أجنبية، ناهيك عن أن هذا الاهتمام يفضي إلى دعم الصادرات السلعية، وزيادة الحصيلة الدولارية. هنا من المهم أن نعود لأهمية دعم سياسة تحديد أولويات الإنفاق، حتى لا يتحول الصرف على أمور أقل أهمية إلى نوع من الترف، وهذا الأمر يفضي إلى الاستدانة بسبب الإنفاق على الإستيراد بغرض الاستهلاك. هنا، نشير إلى إنفاق 2 ترليون جنيه على خدمات الطرق وبعض وسائل المواصلات، ما يعنى نحو 67 مليار دولار، وهي تقريبًا أكثر من نصف المديونية الخارجية للبلاد، التي هي في أشد الحاجة للإنفاق على أمور أخرى تبدو أكثر أهمية.
5- العمل الدوؤب على مواجهة الفساد المتمثل بشكل خاص في التهرب الضريبي، لما في ذلك من نقوص في توجيه تلك الحصيلة الضريبية بغرض دعم الفقراء والمحتاجين عبر إيجاد آليات توظيف، ودعم الأسر الفقيرة بالمسكن والعلاج وتعليم الأبناء وغيرها من الوسائل التي بدأت الدولة بالفعل تقوم بها في عديد المشاريع القومية.