تجري بعثات صندوق النقد الدولي جولات مكثفة، حاليًا، لحسم ملفات التمويل للعديد من الدول طالبة التمويل، قبل اجتماعات الربيع التي تجمع الصندوق والبنك الدوليين في إبريل/ نيسان المقبل. ورغم اتساع الرقعة الجغرافية بين تلك الدول إلا أن مشكلات واحدة تجمعها، تتلخص في العملة الصعبة وتقلبات عنيفة بسعر الصرف، وارتفاع كبير بالديون، وتتعلق آمالها على قروض من المؤسسة التمويلية القابعة في واشنطن.
العواصم التي تطرق بابها بعثات الصندوق حاليًا تتبع دولًا مضغوطة اقتصاديًا منذ جائحة كورونا، والتي عززت الاقتراض وإنفاق الأموال لتعزيز استجابتها للصحة العامة، قبل أن تتعرض لهزة جديدة بالحرب الروسية الأوكرانية، وموجات التضخم العالمية، وسياسة رفع الفائدة التي جذبت الأموال الساخنة للخارج، وفرضت ضغطًا على العملة الصعبة بهذه الاقتصاديات الناشئة.
خلال العام الحالي، تواصل تلك الدول الكفاح من أجل تمويل ديونها. حيث من المرجح أن تظل أسعار الفائدة العالمية مرتفعة، وأن يواجه سكانها مرة أخرى آثار التضخم المرتفع، ومن ثم، فإن اقتصادياتها معرضة لتحديات التوقعات الاقتصادية العالمية، التي ستكون راكدة بأحسن الأحوال أو في حالة ركود.
روشتة واحدة لمأزومي آسيا
في آسيا، تكافح باكستان لإقناع الصندوق بالحصول على تمويل في ظل حاجتها لسداد نحو 3 مليارات دولار من الديون بحلول يونيو/ حزيران. بينما يُتوقع تأجيل سداد 4 مليارات دولار. ويُغطي الاحتياطي النقدي أقل من شهر من الواردات.
تُعتبر عملة باكستان “الروبية” حاليًا واحدة، من أضعف العملات أداء بالقارة، بعدما انخفضت قيمتها بنحو 65% في الأشهر الـ 12 الماضية. ومُتوقع أن يصل معدل التضخم بباكستان إلى 33% خلال الأشهر المقبلة.
يُطبق صندوق النقد طريقته المعتادة. إذ يريد من دول صديقة أن تفي بالتزاماتها تجاه باكستان، بتقديم دعم مالي إلى إسلام أباد، قبل أن يوقّع المقرض متعدد الأطراف معها، وحزمة إنقاذ مالي بقيمة 6.5 مليار دولار.
اقرأ أيضًا: تقرير: أزمة أوكرانيا كشفت ضعف أسس مصر الاقتصادية
باكستان في حاجة ماسة إلى تدفقات مستمرة من الدولار الأمريكي لتجنب التخلف عن سداد قروض دولية تقارب 80 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث والنصف القادمة. وتمتلك الدولة حاليًا 3 مليارات دولار فقط من احتياطيات النقد الأجنبي.
في سريلانكا، التي طلبت دعمًا من الصندوق، تعطلت المستشفيات وأصيب قطاع النقل بالشلل وألغت المدارس الاختبارات الفصلية، قبل أيام مع احتجاجات نظمتها النقابات العمالية، بسبب مضاعفة الضرائب استعداداً لخطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي .
مع تبني الصندوق مبدأ ضرورة حدوث الدول على دعم من الدول الصديقة أعلن رئيس سريلانكا أن الصين وافقت على إعادة هيكلة قروضها، في خطوة من شأنها إزالة العقبة الأخيرة أمام الإفراج عن خطة إنقاذ الصندوق بقيمة 2.9 مليار دولار. ذلك بعدما تخلّفت سريلانكا عن سداد ديونها الخارجية البالغة 46 مليار دولار في إبريل/ نيسان الماضي، خلال أزمتها الاقتصادية.
مشكلات الدول الناشئة
بنجلاديش، كانت أسعد حالًا بعدما وافق صندوق النقد الدولي على حزمة بقيمة 4.7 مليار دولار لدعم اقتصادها، بعد تراجع احتياطي النقد الأجنبي إلى 39.79 مليار دولار يكفي فقط لتغطية نحو أربعة أشهر من الواردات. ذلك فضلًا عن تعرضها لثلاث سنوات أخرى من انقطاع التيار الكهربائي التدريجي نتيجة لمعاناتها في تأمين الإمدادات طويلة المدى من الغاز الطبيعي، الذي يتم تسعيره خارج الأسواق الفورية.
الوضع في لبنان، لا يختلف كثيرًا لكن شروط بعثة الصندوق متشابهة من ضرورة تحسين المالية العامة وتخفيض الدين العام من خلال تدابير لتوليد الإيرادات والإصلاح الإداري بهدف ضمان توزيع العبء الضريبي بصورة أكثر عدالة وشفافية. مع إضافة بنود أخرى تتضمن إعادة هيكلة البنوك، والتدقيق في وضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان.
بدأت المحادثات بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي في مايو/ أيار 2020 وتوصلت إلى اتفاق على مستوى الموظفين في وقت سابق من هذا العام في إبريل/ نيسان. لكن الصندوق يرى أن بيروت متباطئة في تنفيذ شروطه والتي سيكون لها تبعات سياسية في مجتمع مأزوم سياسيًا في المقام الأول.
يؤدي التدخل المعتاد لصندوق النقد الدولي بتطبيق سياسيات تضبط أوضاع المالية العامة وتخفيض قيمة العملة المحلية وتقليص القطاع العام وإلغاء الدعم عن الطاقة والبنزين والقمح، إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والتسبب ومزيد من الفقر. وربما يؤدي إلى توترات اجتماعية مدمّرة. كما أن هاجس ضبط أوضاع المالية العامة استجابة للعجز المالي ستكون له آثار ضارة على التنمية الاقتصادية، على المدى المتوسط والطويل.
إفريقيا.. قفزة في الدين وأزمة سيولة
من آسيا إلى إفريقيا لا يختلف الحالي، فتونس تخوض محادثات شاقة مع صندوق النقد، بعدما سجل الدين العام نحو 36.8 مليار دولار بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022، ليمثل 79.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات لوزارة المالية التونسية نقلتها وكالة الأنباء الرسمية.
تعاني تونس من أزمة سيولة، دفعتها للاقتراض، فيما تترقب اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل بنحو 1.9 مليار دولار يدعم ميزانيتها. ويمثل الدين الداخلي نحو 42.1% من إجمالي الدين بتونس. فيما 57.9% الباقية هي ديون خارجية، حسب وزارة المالية.
يتعلق بالدين الخارجي الذي بلغ بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 66.5 مليار دينار، يتركز 60.3% منها من خلال جهات متعددة الأطراف مثل مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد والبنوك الأخرى المانحة. بينما أعلن البنك المركزي تراجع احتياطي البلاد من العملات الأجنبية ليبلغ 7.04 مليار دولار، أي ما يعادل 95 يوم توريد بمقارنة سنوية، مقابل ما يكفي لـ 127 يوم توريد في 16 مارس/ آذار.
وقدمت المغرب، طلبًا، هي الأخرى للصندوق للحصول على خط ائتمان مرن على مدار سنتين بقيمة 5 مليارات دولار. لكنها تسعى في الوقت ذاته لتجنب الشروط القاسية التي يفرضها الصندوق، خصوصًا فيما يتعلق بتخفيض سعر صرف العملة، وفقًا لموازنة 2023. وتعتزم المغرب استدانة حوالي 5.5 مليار دولار من مصادر خارجية، لتغطية العجز البالغ 4.5% من الناتج المحلّي.
الدول الصديقة.. مأزق جديد
أحد المشكلات التي تواجه الدول في اتفاقها مع الصندوق حاليًا، التزامات الدول الصديقة لمنح التمويل إضافي. وهو أمر أصبح محل شك. فالسعودية قررت رفض تقديم أي عمليات إنقاذ أخرى أو قروض بدون فوائد لباكستان. ما دفع وزير المالية للشكوى من أنه حتى الدول الصديقة ليست حريصة على مساعدة إسلام أباد في الخروج من حالة الطوارئ الاقتصادية.
السعودية اشترطت قروضًا واستثمارات جديدة بفائدة على باكستان لتنفيذ إصلاحات نقدية ومالية صارمة، إلى جانب خفض كبير في عجز الحساب الجاري. وهي شروط مماثلة لتلك التي وضعها صندوق النقد الدولي.
في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس خلال يناير، كشف وزير المالية السعودي محمد الجدعان عن سياسة جديدة للمملكة بشكل واضح للغاية. قال: “كنا نعطي المنح والودائع المباشرة دون قيود ونحن نغير ذلك، نحن نعمل مع مؤسسات متعددة الأطراف ونحتاج لرؤية الإصلاحات، ونحن نفرض ضرائب على الشعب، ونتوقع أيضًا من الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه، ليبذلوا جهودهم، نريد مساعدتك ولكننا نريدك أيضًا أن تقوم بدورك”.
ماذا عن مصر؟
تترقب مصر الحصول على الشريحة الثانية من قرض صندوق النقد الدولي خلال الشهر الجاري مع انتهاء المراجعة الأولى لبعثة صندوق النقد في 15 مارس/ آذار. ذلك بعدما حصلت على الشريحة الأولى من القرض والبالغة نحو 347 مليون دولار خلال ديسمبر الماضي. ومن المقرر أن تبلغ قيمة الشريحة الثانية للقرض ذات قيمة الشريحة الأولى وهي 347 مليون دولار، من أصل 3 مليارات دولار على 48 شهرًا في نهاية العام الماضي.
جاءت المراجعة الثانية، وسط التزام حكومي بتعهدات الشريحة الأولى خصوصًا فيما يتعلق بتخارج الحكومة ومؤسساتها من الاقتصاد، والإعلان عن عزم الحكومة المصرية طرح 32 شركة في البورصة أو بيع حصص منها لمستثمرين رئيسيين، على مدار عام يبدأ من الربع الأول من هذا العام وحتى الربع الأول من العام 2024.
كما نفذت الحكومة تعهدًا آخر يتعلق برفع أسعار الوقود بمقدار 0.75 جنيه للبنزين 80 وجنيه للبنزين 92 و0.75 جنيه للبنزين 95، لتصبح 8.75 جنيه للتر البنزين 80 و10.25 جنيه للتر البنزين 92 و11.50 جنيه للتر البنزين 95″.
لكن يظل سعر صرف الجنيه محل جدال في المراجعة الثاني. إذ توقع بنك “سوسيتيه جنرال” أن تخفض مصر قيمة الجنيه مرة أخرى في المستقبل القريب رغم فقدان الجنيه 50% خلال العام الماضي. ورجح أن يُنهي الجنيه الربع الحالي دون مستوياته الحالية بنحو 10%. حيث ستحتاج مصر إلى عملة أرخص نظراً لكبر حجم عجز الحساب الجاري ونقص الدولار، على حد تقدير البنك.
كما تظل معدلات التضخم المرتفعة مشكلة ستطلب بعثة صندوق النقد الدولي من الحكومة التعامل معها في اجتماعها نهاية الشهر الحالي. خاصة بعد ارتفاع معدل التضخم الأساسي، الذي يقيسه البنك المركزي إلى 40.3% بنهاية فبراير الماضي.
اقرأ أيضًا: مصر وصندوق النقد.. شروط قاسية وشعب يدفع الثمن
ويمثل الجنيه أحد العوائق التي تقف دون حصول مصر على دعم من الخليج حتى الآن. إذ يريد أولًا التأكد أولا من إجراء مصر إصلاحات اقتصادية عميقة وخطوات جادة بشأن الإصلاحات التي وعدت بها صندوق النقد الدولي، لتأمين الحصول على حزمة تمويل بقيمة 3 مليارات دولار، بحسب وكالة بلومبرج.
ترى حنان رمسيس، محللة أسواق المال، إن سعر صرف الدولار لن ينخفض 10% دفعة واحدة في ظل مرونة سعر الصرف. ولكن سيتراجع بقروش على مدار فترات، خصوصًا في ظل توجه الدولة لتعزيز التصدير لزيادة الموارد الدولارية، كتصدير الفوسفات مُصنعًا بدلاً من مادة خام وتصدير مشغولات ذهبية. ذلك إلى جانب بيع حصص بالعديد من الشركات لمستثمر استراتيجي.
وبالنسبة لمطالب الصندوق برفع الفائدة لاستهداف التضخم، ترى رمسيس إن قرار لجنة السياسية النقدية بمصر سيأخذ في اعتباره قرار لجنة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الذي ربما يخفف من نسب رفع الفائدة بعد أزمة إفلاس ثلاثة بنوك أخيرًا. ما يعني استقرار سعر صرف الدولار عالميًا، وترجح أن يميل المركزي المصري للتثبيت.