منذ ما يقرب من عشر سنوات، دعاني لحضور ندوة تديرها المرحومة الدكتورة شهيدة الباز لعرض كتاب للدكتور حمدي عبد الرحمن بعنوان “جيفارا الأفريقي” عن الزعيم البوركينافي الراحل توماس سانكارا الذي كان يدعو إلى إسقاط ديون أفريقيا. كان الدكتور حمدي يناديه أثناء الندوة قائلًا “يا مواليمو” ولم تُثِر تلك الكلمة فضول أحد سواى لجهلي وحيدًا، فسألت في براءة عن معناها. أوضحت لي الدكتورة شهيدة أن الكلمة تعني “مُعَلمِي” باللغة السواحيلية، ومنذ ذلك الحين صار “مواليمو شعراوي” هو النداء.

دعاني مواليمو شعراوي منذ سنتين إلى حفل استقبال “بمركز البحوث العربية والأفريقية” الذي كان من مؤسسيه وأشرف على إدارته لسنواتٍ عديدة أثرى من خلالها المكتبة العربية بأعمال وأبحاث لمفكرين عرب وأفارقة.

كان هذا الحفل استقبالًا لصديقه الأفريقي العظيم الرئيس الناميبي سام نجوما الذي كان في زيارة لمصر وأصر شخصيًا على الحضور لمقر المركز الذي يشغل شقة متواضعة بالطابق الأرضى إلى جوار النيل العجوز بالجيزة.

تحدثت خلال الحفل للرجل الذي يلقبونه في ناميبيا بأبو الأمة Father of the nation عن مبادرة كنت قد إقترحتها في حفل تكريم لمواليمو عقده المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان “حلمي شعراوي حارس الثقافات الأفريقية في شتاء 2018 طالبت فيها بإنشاء “نادي القاهرة” لإسقاط ديون القارة الأفريقية استلهامًا لتجربة الرئيس توماس سانكارا وهي مبادرة مازلت أدعو إليها وأظن أن ظروف العالم الحالية مؤهلة لاستقبالها بِحُكم الأزمة الإقتصادية العالمية، فأثنى أبو الأمة على ما قلت لكن شيئًا لم يتم تطويره.

كان يعرف جيدًا مدى تعلقي وحبي وتقديري لصديق عمره ورفيق نضاله المرحوم الدكتور سمير أمين الذي كان تعبير “كبيرُنا الذي عَلمنا” يسبق ذِكر إسمه كلما تحدثت أو كتبت عنه. والدكتور سمير، الذي كان يعيش خارج مصر، لم يكن مُدرسًا لي بقاعات الجامعة ولم أكن قد التقيته يومًا لكنني لم أغفل حرفًا واحدًا مما كتب، قرأت أغلب مقالاته وكُتبِه التي أصدرها بالعربية.

في سبتمبر 2014 دعوت “مواليمو شعراوي” لحضور مؤتمر كنا نعقده بأحد فنادق القاهرة فقال لي أنه سيأتي وسيحضر لي مفاجأة سارة، تأخر مواليمو عن اللحاق ببداية المؤتمر فقمت بالاتصال به وأبلغني بأنه قد وصل فقلت له أنني سأنتظره أمام باب المصعد في الطابق الذي يعقد به المؤتمر.

ثوان وإنفتح باب المصعد لأجده إلى جوار صاحب الشعر الطويل الأبيض الذي يرتدى دومًا قميصًا أفريقيًا مُزركشًا وينتعل صَندلًا بسيطًا وفي يده حقيبة جلدية بنية اللون مُستهلكة.

كانت مفاجأة مواليمو لي هي أنه احضر معه “كبيرُنا الذي علمنا”، فإحتضنت كل منهما ودعوت الكبير إلى إلقاء كلمة بالمؤتمر لم تكن مدرجة بجدول الأعمال ولم يكن هو مستعدًا لها لكنه تألق كنجم فتوارينا جميعًا ننصت في خشوع.

كان مواليمو شعراوي صاحب فضل كبير علينا بتعريفنا بالثقافات الأفريقية وكان صاحب فضل لا ينكره الرفاق بأفريقيا حيث كان مُعلِمًا كبيرًا لهم بحق. أقام مواليمو في بداية ثمانينات القرن الماضي في جوبا بجنوب السودان مُدرسًا للعلوم السياسية بالجامعة ثم عاد إلى القاهرة.

حدثتني السيدة الفاضلة الأستاذة توحيدة توفيق زوجة مواليمو أنها حين كانت تصحبه في زيارات لاحقة للسودان أنها كانت تسمع الناس بشوارع جوبا (بالشوارع لا بمنتديات النُخب) يتهامسون “ها قد جاء المصري حلمي شعراوي”.

كان مواليمو حريصًا على فَهْمِ الناس فَهُم الذين يصنعون الثقافة بوحى من الحكايا والقصص والفنون والنضالات والتاريخ والجغرافيا، لذا فقد جاءت أعماله الفكرية عن الثقافات الأفريقية أكثر تعبيرًا وصدقًا عما نجهله منها فأوصلها لنا وأوصلنا لهم بأعمق الطرق وأبسطها وأكثرها مُباشَرة.

كان كتابه “الثقافة والمثقفون في أفريقيا” واحدًا من أهم الوثائق التاريخية في مجال البحث والتبصير بجانب بالغ الأهمية لشركاء الأرض إلى جانب أعمال أخرى أتمها بسيرته الذاتية التي أصدرها منذ سنوات في كتاب “حلمي شعراوي- سيرة مصرية أفريقية” الذي أهداني نسخة منه بتوقيعه الكريم أضعها -فخورًا- بصدر مكتبتي المتواضعة.

شخصيًا، وقف مواليمو شعراوي والسيدة الفاضلة زوجته إلى جواري في أزمة العُمر وقفة مصري أصيل فكان صاحب فضل لا يُنسى أبًا رؤوفًا وأستاذًا جليلًا ومُعلِمًا قليلًا ما يجود الزمان بمثله.

حزينٌ أنا اليوم ومصر أيضًا وأفريقيا كذلك.