“عندما انكشف الواقع، اتضح لنا أن هذا الديكتاتور (جوون) لا يريد أن يرحل، وأنه مشغول حقيقة بتحويل نفسه إلى ديكتاتور مدى الحياة، وهو يقوم فعلًا بتبديد موارد الدولة”.

المتحدث بهذه الكلمات هو وول سوينكا، الروائي والشاعر النيجيري، أول إفريقي يحصل على نوبل في الآداب عام 1986، قبل نجيب محفوظ بعامين، وقد اقتبست هذه الكلمات من ص 18 من تقديم كتبه الأستاذ نسيم مجلي، وهو يعرف بالروائي والشاعر العظيم في مقدمة ترجمته للرواية ذائعة الصيت “الرجل مات: مذكرات سجين”، يحكي فيها وول سوينكا تجربته في سجون الديكتاتورية العسكرية في نيجيريا، والتي قرر فيها خلاصة حكمته حين قال في ص 34 “يموت الإنسان داخل كل قلب يقف صاحبه صامتًا في وجه الطغيان”.

عنوان الرواية ينقسم نصفين، النصف الأول مكون من كلمتين “الرجل مات”، ثم النصف الثاني كذلك مكون من كلمتين “مذكرات سجين”. السجين هو الشاعر والروائي وول سوينكا نفسه، أما الرجل الذي مات فهو كاتب صحفي اعتقله عسكر نيجيريا، ثم في السجن ضربوه بوحشية، الضرب تسبب في إصابات بالغة، حيث أُصيب بغرغرينة في الساق يلزم بترها، تدخلت جهات دولية لتسهيل علاجه خارج نيجيريا، سافر للعلاج لكن الموت كان أسبق من الشفاء، فمات.

ثم لا حظ وول سوينكا أن موت الصحفي من جراء الاعتقال الظالم ثم من جراء التعذيب الوحشي قد مر مرور الكرام، مر كأن شيئًا لم يكن، مر دون اعتبار لروح إنسانية ذهبت ظلمًا، واعتبر سوينكا أن هذه الحالة، حالة اللا مبالاة بروح الإنسان وعدم التوقف عندها والاستعداد للصمت وغض النظر عن إزهاقها ، اعتبر هذه الحالة هي: الشرط الاجتماعي للطغيان، التي إذا توفرت فلا حاجز يقف أمام الطغيان يصده أو يوقفه، عندما يتقبل المجتمع مبدأ هوان النفس الإنسانية، وعندما يقبل المجتمع الصمت عن انتهاك الكرامة، ففي هذه اللحظة ينفتح ثم ينفسح الطريق واسعًا أمام الطغيان يفعل ما يشاء. يقول سوينكا في ص 34 – في الطبعة الصادرة عن المركز القومي للترجمة عام 2013 ” يبدو لي حقيقةً أن هذا هو الشرط الاجتماعي للطغيان : الرجل مات، الكلب مات، الموضوع مات “. ” الكلب في هذه الميتة كان صحفياً، اسمه ” سيجن سويميمو”، تم ضربه بوحشية، هو وزملاء آخرين، بواسطة بعض العسكر، وذلك بناءً على أوامر الحاكم العسكري، ولكنه كان محظوظًا، إذ تدخلت جهات أجبرت الحاكم العسكري أن يرسله للعلاج في الخارج، ليس على نفقة من عذبوه، لكن على نفقة المواطنين المقهورين، أي من المال العام، لقد تابعت حالته، وطلبت من أحد الزملاء موافاتي بأخباره، فجاءت البرقية تقول “الرجل مات”.

أما الديكتاتور جوون فهو الجنرال يعقوب جوون Yakubu Gowon ، هو ضابط بالجيش النيجيري قاد انقلابًا عسكريًا 1966، بعد ست سنوات من استقلال نيجيريا عن الاستعمار البريطاني، وحكم البلاد بالحديد والنار، وخاض حربًا أهلية تسببت في مقتل مليون شخص، واستمر في موقعه حتى مات 1975، وقد أصدر أوامر باعتقال الشاعر وول سوينكا لمدة عامين لأنه كان يرفض الديكتاتورية كما كان يرفض الحرب الأهلية، كما اختلف عن غيره من مثقفين كثيرين في العالم من حيث أنه اعتبر نفسه مكلفًا -أخلاقيًا وإنسانيًا ووجوديًا- بواجب الدفاع عمن قهرتهم السلطة العسكرية، وكان يسميها ” السلطة السادية “، فهو كسجين سياسي يكون عليه أولًا واجب الصمود أمام ما يتعرض له من إعدام بطيء لقواه الروحية والعقلية وراء أسوار السجون، ثم حين يستعيد حريته “يظل يلح عليه شعور بأن عليه عهدًا وواجبًا، لكل ضحايا السلطة السادية، في داخل وطنه وخارجه”.

يلفت سوينكا إلى دور العقل المثقف في مواجهة مخاطر السجن الانفرادي، مستشهدًا بتجربة سجين آخر هو الروائي اليوناني جورج مانجاكس، من حيث أن السجن الانفرادي هو جريمة تعذيب تمارس على العقل الإنساني، هو نوع من التنكيل غير الطبيعي، فالروائي اليوناني – تحت السجن الانفرادي – لم يجد من سبيل للمقاومة غير الكتابة حتى يتمكن من وضع عقله تحت سيطرته لا تحت سيطرة ردود الفعل على التنكيل الوحشي، يقول جورج مانجاكس “الدفاع عن النفس هو الحافز الذي يدفعني للكتابة، وهو الذي مكنني من الاحتفاظ  بعقلي تحت السيطرة، فلو تركته طليقًا دون سند من إطار الفكرة المكتوبة، فإنه يتوحش، وقد يتخذ مسارات فرعية شريرة، وينتهي به الحال أن يلد وحوشًا”. ويعقب وول سوينكا على تجربة جورج مانجاكس بالقول “إنني شاهد على المسارات الفرعية الشريرة والغريبة للعقل البشري الناتجة من احتجازه في السجن الانفرادي، أنا شاهد على الوحوش الغريبة التي يلدها العقل”.

وإذ يتحدث وول سوينكا عن ” أولئك الذين لم يُحقنوا قبل ولادتهم بهرمون الخنوع والاستسلام الذليل للعبودية ” فإنه ينقل عن جورج مانجاكس قوله ” عندما تُفرض الديكتاتورية على بلدك، فإن أول ما تشعر به، في اليوم الأول، هو الشعور بالإذلال، وهو شعور تلقائي ومباشر تمامًا، وبعيد عن كل تصورات العقل. إذ يتم حرمانك من اعتبار نفسك جديرًا بحمل المسئولية عن حياتك ومصيرك، وهذا الشعور بالإذلال ينمو يومًا بعد يوم، بفضل جهود الطغاة التي لا تتوقف عن إجبار عقلك على القبول بكل أشكال السوقية والابتذال، التي تشكل عالم الديكتاتور العقلي، فتشعر أن عقلك ووضعك الإنساني يتعرضان للإهانة الشديدة في كل يوم، ثم تأتي محاولة أن يفرضوا عليك -بالتخويف والترهيب- قبول أفعالهم البربرية التي يرتكبونها فعلًا ضد إخوانك في الإنسانية، فتبدأ تعيش يوميًا في إذلال الخوف، ثم تبدأ تكره نفسك، حينئذ تحس بجرح عميق في ضميرك كمواطن، فتبدأ الإحساس بالتضامن مع الناس الذين ننتمي إليهم”.

ثم يشرح وول سوينكا تجربته فيقول “إنني أعيش تجربة التضامن مع هؤلاء الناس الذين يشاركونني الإحساس بالإذلال الذي يمارسه الطغاة على حياتنا، فمهما كانت العوامل التي تجعل من الديكتاتوريات قدرًا محتومًا، فإن تلك العوامل لم يعد لها مايبرر وجودها الآن، فالديكتاتورية الراهنة هي استيلاء على السلطة يحط من كرامة الإنسان، فهي إذلال إضافي، لأنها تجاوزت في غطرستها الوحشية كل الحدود في القمع وفي الفساد وفي إحداث انقلاب منهجي ضد كل الأغراض الثورية الأصيلة “. ص 36 من مقدمة الرواية وهي بقلم المترجم نسيم مجلي.

ثم يختم سوينكا بهذا البيان القوي: ” إنني أوجه هذا الكتاب -يقصد الرواية- إلى الناس الذين أنتمي إليهم، ليس إلى النخبة، وليس إلى المنتفعين بالامتيازات الذين يمسحون بلاط القصور التي يسكنها الطغاة “. ثم يقول “يموت الإنسان في أي شعب يخضع بإرادته إلى إذلال الخوف اليومي”. ص 37.

لم يرحل الديكتاتور العسكري، وظلت نيجيريا – البلد الأكبر في إفريقيا من حيث عدد السكان -يتداول عليها حكم مدني ضعيف لفترات قصيرة تجهز عليه انقلابات عسكرية تؤسس ديكتاتوريات قاسية فاسدة- حتى نهاية التسعينيات من القرن العشرين.

***

بعد استقلالها 1945 عاشت إندونيسيا – أكبر بلد إسلامي وثالث قوة سكانية في آسيا بعد الصين والهند – ديكتاتوريتين مستقرتين، ديكتاتورية مدنية أسسها بطل الاستقلال أحمد سوكارنو وقد حكم من 1945 حتى 1967، ثم ديكتاتورية عسكرية أسسها رئيس أركان سوكارنو وقائد جيشه محمد سوهارتو وقد حكم من 1967 حتى 1998، أي حتى انفجرت الأزمة المالية الآسيوية 1997. نيجيريا تحولت للحكم المدني في التوقيت ذاته الذي تحولت فيه إندونيسيا. وإذا كان انقلاب 1966م في نيجيريا وما أعقبه من حرب أهليه فكذلك شهدت إندونيسيا مجازر مروعة أودت هي الأخرى بحياة مليون شخص بعد انقلاب 30 سبتمبر الفاشل عام 1965، فقد تصدى رئيس الأركان سوهارتو للانقلاب وأفشله، ثم بدأ -بالتحالف مع الإسلاميين- عمليات تصفية دموية للشيوعيين، إذا كانت إندونيسيا فيها أكبر ثالث حزب شيوعي في العالم بعد الحزب الشيوعي السوفييتي والحزب الشيوعي الصيني، ومثلما كانت ديكتاتوريات نيجيريا تنال رضا القوى الغربية العظمى وما يترتب على ذلك من صمت الغرب إزاء ما ترتكبه الديكتاتوريات في نيجيريا من موبقات وفساد واسع النطاق، فكذلك كان الحال في إندونيسيا، بل كان أشد وطأة، إذ كانت القوى الغربية الكبرى تقف وراء ديكتاتورية سوهارتو العسكرية وجرائم حلفائه من القوى الإسلامية ما دام كان ذلك بهدف تصفية الشيوعيين وإخلاء إندونيسيا من النفوذين السوفيتي والصيني، ديكتاتوريات العالم الثالث سواء مدنية أو عسكرية لم تكن بعيدة عن تركيبة النظام الدولي ولم تكن بعيدة عن تحقيق مصالح القوى الاستعمارية.

“براموديا أنانتا توير ” أشهر روائي إندونيسي عاش بين 1925 و 2006، ناضل ضد الاستعمار الهولندي وتم اعتقاله في معسكر للأشغال الشاقة خلال الفترة بين 1947 و1949، ثم ناضل ضد الاحتلال الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية ثم ناضل ضد ديكتاتورية ما بعد الاستقلال، ثم تعرض للسجن الطويل من بعد انقلاب 1965 حتى أطلقت منظمة العفو الدولية حملة عالمية لإطلاق سراحه، فخرج من السجن عام 1979م بعد خمسة عشر عاماً متواصلة، ولكن الإفراج عنه كان مشروطًا بخضوعه لرقابة الشرطة بصفة يومية، والشيء الذي استفاده من الإفراج كان السماح له بالكتابة.

عندما مات براموديا أنانتا توير في عام 2006 كتب عنه المفكر البريطاني من أصل باكستاني طارق علي مقالًا مهمًا نشره في كتابه “بروتوكولات حكماء سدوم”، قال فيه “لو كان براموديا منشقًا سوفيتيًا لكان حصل على جائزة نوبل، لكن تبقى مكانته إحدى العلامات الأدبية البارزة في العالم” ص 320 من طبعة المركز القومي للترجمة. ومعنى كلام طارق علي، فيه إشارة إلى الطابع المسيس لجائزة نوبل، فمن الطبيعي أن يحصل عليها من يقاوم عدوهم السوفييتي أو ينشق عنه أو ينقلب عليه، لكن من غير الوارد أن يحصل عليها من يقاوم ديكتاتورية عسكرية متحالفة مع القوى الاسلامية وبرضا القوى الغربية التي لها مصلحة في مكافحة الشيوعية في بلد إسلامي مهم مثل إندونيسيا، فإذا كان براموديا أنانتا توير شيوعيًا فليس له إلا السجون من الديكتاتورية العسكرية في الداخل والتجاهل ممن يملكون مفاتيح الجوائز الأدبية الكبرى في الغرب، رغم أنه أشهر روائي إندونيسي، ثم كان ينشر معظم رواياته في الولايات المتحدة الأمريكية. لم يجرؤ الجنرالات على قتله ولا على إعدامه، كانوا يراهنون على الموت البطيء رهن الاعتقال.

في ص 316 من كتاب “بروتوكولات حكماء سدوم” يقول طارق علي “كانت إندونيسيا وهي أكبر الدول الإسلامية في العالم تضم في يوم من الأيام أكبر حزب شيوعي خارج الكتلة الشيوعية في العالم، وفي عام 1965 استولى الجيش على الحكم في البلاد وحولها إلى حمامات دم، حيث ارتكب مذابح مات فيها على الأقل مليون شخص، معظم الضحايا من الشيوعيين، ثم ممن كانوا متعاطفين معهم، وقد تعاون قادة الجيش الموالون للغرب مع ميليشيات الإسلاميين الذين ساعدوهم في الإجهاز على من تبقى، ثم ينقل طارق علي شهادة تصف بعض ما قد جرى “كان من الصعب التعرف على ملامح الجثث، جثث مقطوعة الرأس، جثث مفتوحة البطون، وروائح عفنة لا يمكن تخيلها، كانت الجثث تُربط بعصى من البامبو أو توضع على الخازوق حتى لا تغوص في الماء، ثم كانت الجثث عند ترحيلها تُربط في بعضها ثم تُحمل على مراكب نهرية، يرفرف عليها علم الحزب الشيوعي الباكستاني من باب النكاية والاستهزاء، وبمجرد أن بدأت عمليات التخلص من الشيوعيين – في مدينو بالي – لم يعد زبائن المتعة الجنسية يتوافدون على المدينة، كان الزبائن مرعوبين، وكانت الغانيات مرعوبات، لأن عددًا كبيرًا من الأعضاء التناسلية لرجال ينتمون للحزب الشيوعي كان الجيش يعلقها على أبواب بيوت الدعارة مثل عناقيد الموز المعلقة في محلات بيع الفاكهة.

مثلما كان النيجيري وول سوينكا يعاني احتمالات الجنون في الحبس الانفرادي في سجون عسكر نيجيريا، كان براموديا أنانتا توير يعاني الخطر ذاته في سجون عسكر إندونيسيا، وربما في التوقيت ذاته، في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، مع فارق أن سوينكا لبث في السجن النيجيري عامين فقط، في حين أن توير لبث خمسة عشر عامًا. يقول طارق علي “تم القبض على توير بعد وقوع انقلاب عسكري في جاكرتا 1965، ثم أرسله العسكر إلى جزيرة “يورو” وهي معسكر اعتقال قسري استوائي يموت الناس فيه جراء الإرهاق الشديد أو الأشغال الشاقة أو الجوع، لكن الروائي لم يمت، وحكى لنا فيما بعد، عن مجابهته للعنف والمرض والجنون الذي كان يتسلل إلى عقله كل ليلة، فقد قضى في هذا المعسكر ثلاثة آلاف ليلة، مايزيد على تسع سنوات، وكانت مقاومته تتلخص في أن يحكي القصص والحكايات على زملائه من نزلاء السجن، كانت القصص تحافظ على بقاء الأمل داخله وداخلهم، وبينما كان السجناء يستمعون إلى حكاياته وقصصه، كانوا ينسون لبرهة من الوقت لماذا هم في السجن؟ ومن الذي اعتقلهم في السجن؟.

كان براموديا أنانتا توير يقارن تجربته في سجون الاستعمار الهولندي أثناء الاحتلال مع تجربته في سجون الديكتاتورية العسكرية بعد الاستقلال، فلم تكن سجون الاستعمار تمنعه من الكتابة كما فعلت سجون الديكتاتورية العسكرية التي رفعت شعار الوطنية، كتب روايته الأولى في سجون الاستعمار عام 1950، رواية الهارب The Fugitive، تتكون الرواية من 170 صفحة وتفوق في تركيبها ومحتواها روايات ألبير كامو الذي كان بعض النقاد الغربيين يقارنونه به.

ثم في عام 1995 كتب براموديا أنانتا توير رواية تحكي تجربته في سجون الديكتاتورية العسكرية التي أسسها سوهارتو وحكمت إندونيسيا أكثر من ثلاثين عامًا حيث وصف القسوة المؤسسية لديكتاتورية سوهارتو، وكان يتساءل: هل سوهارتو والنظام الجديد امتداد للحكم الاستعماري ؟!.

العجيب أن الديكتاتورية العسكرية كانت تحافظ على الامتثال لشعائر الدين في السجون، فكانت في رمضان من كل عام ترسل لهم من رجال الدين من يدعوهم لفضائل الصيام والجوع والزهد والإمساك عن الرغبات، في حين أن الديكتاتورية كانت تفرض عليهم الجوع طوال شهور السنة حتى كانوا يضطرون لأكل فئران المجاري والعشب المتعفن الذي ينمو حولها.

***

لم يرحل الديكتاتور يعقوب جوون في نيجيريا بل توالت الديكتاتوريات العسكرية على حكمها حتى خاتمة القرن العشرين، وهو ما حدث كذلك في إندونيسيا، كما حدث في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.

فقط ترحل الديكتاتوريات العسكرية عندما تختفي الظروف الداخلية والخارجية التي جعلت منها ضرورة واقعة وربما لا مفر منها في لحظة ما من لحظات التطور القومي لشعب ما.

السؤال الآن: متى يأتي العسكريون إلى السلطة؟

ثم كيف ومتى يخرجون منها؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.