ظلت النخبة الحاكمة السعودية مستقرة لعقود، وبالكاد تظهر بها صراعات. هذا الاستقرار جاء نتيجة لحفاظ العائلة المالكة على توازنات بين مكونات الطبقة الحاكمة. فبني هذا الاستقرار على ترابط عائلة آل سعود، والحفاظ على العلاقات مع المؤسسة الوهابية، وتقديم المزايا لرجال الأعمال السعوديين. ولكن كل هذا تغير عقب صعود محمد بن سلمان. صعد الشاب الثلاثيني إلى قمة السلطة، ثم بدأ بإطاحة جميع الأعمدة التي بُني عليها النظام نفسه.

الأمير والحرس القديم

يجادل مايكل هيرب، الأستاذ بجامعة ولاية جورجيا، في كتابه الصادر عام 1999، بأن استقرار الأنظمة الحاكمة في الخليج يرجع إلى سيطرة العائلات المالكة على بيروقراطية الدولة عن طريق توزيع المناصب الهامة والسيادية على أفراد العائلة.

وهو نظام يقوم على المفاوضات والاتفاق والشورى بين أعضاء العائلة، بالإضافة إلى احترام قواعد الوراثة المتفق عليها، أينما يكون الحاكم يكون مسئولًا أمام أفراد العائلة.

هذا الشكل من النظم الملكية يحد من الخلافات والصراعات داخل النخبة الحاكمة. وهو ما يرى هيرب في مقالته عام 2022 أنه تغير عقب صعود محمد بن سلمان للسلطة، حيث استبدل بحكم العائلة حكمه الأوتوقراطي الفردي.

أطلق محمد بن سلمان حملة على رجال من العائلة المالكة ورجال أعمال سعوديين بارزين، تحت مسمى مكافحة الفساد مرة  والتدبير لانقلاب مرة أخرى. فاعتقل واحتجز وتحفظ على أموال العديد منهم، أمثال محمد بن نايف وأحمد بن عبد العزيز ومتعب بن عبد الله بن عبد العزيز والوليد بن طلال. لاحقًا، أفرج عنهم، لكن بعد دفع تسويات مالية.

فندق ريتز كارلتون في الرياض، حيث تم اعتقال شخصيات سعودية بارزة بينهم أمراء ورجال أعمال (وكالات)
فندق ريتز كارلتون في الرياض، حيث تم اعتقال شخصيات سعودية بارزة بينهم أمراء ورجال أعمال (وكالات)

غضب الحرس القديم ضد بن سلمان كان ظاهرًا بوضوح وقتها -قبل قمعهم- أحد التقارير لرويترز أشار إلى أن شخصيات بارزة من العائلة المالكة ونخبة رجال الأعمال السعوديين ليسوا راضين عن أداء محمد بن سلمان بسبب فشله في حماية المنشآت النفطية التابعة لأرامكو، فضلًا عن اهتمامه الشديد بالاستحواذ على السلطة، واستبدال أشخاص ذوي ثقة تنقصهم الخبرة بأشخاص ذوي خبرة، على حد تعبيرهم.

اقرأ أيضًا: أموال النفط السعودي.. وقود مركز السلطوية والسرديات الطائفية

يتفق تحليل “هارب” مع ما يراه الباحث النرويجي ستيج ستينسلي، من كون محمد بن سلمان يزعزع الاستقرار الذي كان يحافظ على بقاء العائلة المالكة في السعودية. فسيطرة الأمير الشاب على الحكم يجعل المملكة تتحول تدريجيًا من نظام مبني على العائلة المالكة إلى دكتاتورية فردية قد تهدد بقاء النظام كله. خاصة وأنه لا يحظى بدعم العائلة، والنظام السياسي نفسه أصبح معتمدًا على شخصه بشكل رئيسي. ما يعني فراغ السلطة في حال غياب ولي العهد لأي سبب. ومن ثم الفوضى.

أيضًا، لم تكن العائلة المالكة النخبة الوحيدة التي أغضبها بن سلمان. فالوفاق بين العائلة المالكة السعودية والمؤسسة الوهابية في السنوات السابقة لتولي الأمير الشاب، حافظ على استقرار الطبقة الحاكمة بالبلاد لعقود. وليس أبرز دليل على ذلك من واقعة الحرم المكي في 1979، عندما استولى مسلحون متطرفون على الحرم. وقتها بدأ التقارب يتزايد بين الملك خالد بن عبد العزيز والوهابيين الذين منحوا مناصب بالدولة لاحتواء العناصر المتطرفة.

اتخذ الأمير العديد من القرارات التي أزعجت المؤسسة الوهابية، بتخفيف القيود الدينية في الأماكن العامة، والسماح بالاختلاط في السينمات والحفلات ثم بالاعتقالات.
اتخذ الأمير العديد من القرارات التي أزعجت المؤسسة الوهابية، بتخفيف القيود الدينية في الأماكن العامة، والسماح بالاختلاط في السينمات والحفلات ثم بالاعتقالات.

لكن مع وصول بن سلمان تغيرت تلك العلاقة. وقد اتخذ الأمير العديد من القرارات التي أزعجت المؤسسة الوهابية، بتخفيف القيود الدينية في الأماكن العامة، والسماح بالاختلاط في السينمات والحفلات. فضلًا عن إلقاء القبض على رجال دين لهم تأثير واسع مثل سلمان العودة وعوض القرني، الذين ارتبطوا بتيار الصحوة.

ورغم أن المفتي العام عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ من داعمي بن سلمان، ويشدد على طاعة ولي الأمر. لكنه عبر عن رفضه سابقًا للحفلات والسينما، ووصفها بالفساد.

بيزنس الأمير

تشابكت العلاقة بين العائلات الملكية ورجال الأعمال بشكل وثيق في دول الخليج. وهي كما علاقة الشعب بالعائلات المالكة، تحكمها قواعد العقد الاجتماعي الريعي المرتبط بتوزيع الدولة ثروات النفط، في شكل عقود ومشروعات يحققون منها الأرباح. هذا بالإضافة إلى علاقات الزواج أحيانًا، والتي تزيد هذه العلاقة تشابكًا، يؤثر عليه كذلك امتلاك العديد من أفراد العائلات المالكة لشركات ضخمة ومؤثرة.

توزيع العقود هذا مرتبط بشبكات تعتمد على الزبونية، حيث يحصل رجال الأعمال القريبون شخصيًا من العائلة المالكة على العقود من الدولة، التي تحمي مصالح هذه الطبقة بسياسات حمائية، تتمثل في وضع قيود على نسبة امتلاك الأجانب للشركات.

وقد تغير ذلك أيضًا، بعد حملة بن سلمان على الحرس القديم من رجال العائلة المالكة ورجال الأعمال التابعين لهم. تقول الباحثة انستازيا نوزوفا إن هؤلاء بدأوا يفقدون المزايا التي كانوا يحصلون عليها سابقًا.

اقرأ أيضًا: صوت صاحب السمو يعلو على الخبير والشعب.. في تناقضات البيروقراطية والأوتوقراطية بالسعودية

وقد فاقم وضع رجال الأعمال المحليين وتراجع دورهم أكثر لعدة أسباب، منها انخفاض أسعار النفط”قبل الحرب الروسية”، وتأثير وباء كوفيد الذي جعل السعودية تخفض الإنفاق، وتوقف العمل بمشاريع إنشاء ضخمة كانت يستفيد منها شركات سعودية هامة مثل مجموعة سعودي بن لادن وسعودي اوجيه وشركة أبناء عبد الله عبد المحسن الخضري.

كما ظهرت قيادات جديدة تسعى لتعزيز سلطتها. بما ساهم في مزيد من تحجيم العلاقات الزبونبة القديمة. بينما أجبر التنافس الخليجي على الاستثمارات الأجنبية هذه الدول على تخفيف السياسات الحمائية التي كان يستفيد منها رجال الأعمال المحليون، فاستُحدِث مثلًا نظام الإقامة المميزة.

استغل حادثة سقوط الرافعة التابعة لمجموعة سعودي بن لادن بالحرم المكي، لمصادرة عقود الشركة ومنعها من تولي مشروعات جديدة تحت مظلة مكافحة الفساد
استغل حادثة سقوط الرافعة التابعة لمجموعة سعودي بن لادن بالحرم المكي، لمصادرة عقود الشركة ومنعها من تولي مشروعات جديدة تحت مظلة مكافحة الفساد

الحرس الجديد.. ولاء بلا خبرة

منذ وصول بن سلمان للحكم نحى جانبًا أو أقال عددًا من رجال النخبة القديمة، وأحل مكانهم مجموعة من الرجال المقربين إليه. فعين أخاه خالد بن سلمان وزيرًا للدفاع، وعبد العزيز بن سعود بن نايف للداخلية، وعبد الله بن بندر للحرس الوطني السعودي.

يلاحظ هذا الباحث دوجلاس لندن، وهو يرى أن تلك النخبة الشابة لا تنقصها الخبرة فقط، ولكن الثقل والتأثير أيضًا داخل المؤسسات السعودية. ذلك لأن معيار اختيار بن سلمان لهم كان الولاء له ومدى القرب منه. في حين أثبتت التجارب محدودية خبراتهم.

يوضح “لندن” أن سياسة الاستبدال هذه جزء أصيل من خطة محمد بن سلمان للسيطرة على الحكم. فقد عمل على تنحية النخبة الوهابية القديمة ووضع مكانها نخبة دينيه جديدة أكثر انفتاحًا كمحمد بن عبد الكريم العيسى. مع خلق نخبة جديدة في مجالات الأعمال والترفيه والفنون، وإنشاء مؤسسات جديدة مثل مؤسسة محمد بن سلمان.

كما اتبع بن سلمان النهج نفسه فيما يتعلق برجال الأعمال. فاستغل حادثة سقوط الرافعة التابعة لمجموعة سعودي بن لادن بالحرم المكي، لمصادرة عقود الشركة ومنعها من تولي مشروعات جديدة تحت مظلة مكافحة الفساد -رغم أن التحقيقات أظهرت أن الحادثة وقعت بشكل أساسي نتيجة الطقس- ثم كلف شركات تتبع له ولأبيه بالعمل على المشروعات الضخمة بمكة والمدينة.

رغم ذلك، فمن المفارقات أنه في الوقت الذي يحارب فيه بن سلمان النخبة القديمة بتهم الفساد ويخفض إنفاق الدولة على الدعم المقدم للشعب السعودي، يشتري مقتنيات باهظة بملايين الدولارات، مثل أكبر يخت، وأغلى قصر بالعالم، ولوحة المسيح لليوناردو دافنشي.

أحلام الأمير الأوتوقراطية

أحد التقارير الدعائية بجريدة سعودي جازيت السعودية الصادرة باللغة الإنجليزية، أطلقت على بن سلمان “القائد الحالم“. ربما قد يكون بن سلمان حالمًا بالفعل، لكنه يحلم بإحكام قبضته على الحكم وتعزيز سلطاته. “أطمح أن أكون الاسكندر الأكبر القادم“؛ أحد زملاء بن سلمان السابقين بالجامعة نقل على عهدته هذا عنه.

كل هذه المقدمات تقول إن النظام السلطوي الملكي التقليدي في السعودية لا يرضي طموح بن سلمان. وهو لا يريد مشاركة السلطة مع أحد وإن كانت العائلة المالكة نفسها. بل يرغب في التحول إلى “حاكم أوتوقراطي أوحد”. وهذه الأحلام تدفعه إلى بعض القرارات المتهورة، التي ربما أخطرها إلى الآن تحطيم أعمدة بيت الحكم السعودي، الذي أبقى الحكم السلطوي في المملكة مستقرًا لعقود.

حتى وعود الأمير بالانفتاح والتجديد ومحاولة رسم صورة الحاكم الجديد المنفتح والمتجدد تصطدم بحقيقة استمرار انتهاك حقوق الإنسان باعتقال النشطاء المدافعين عن حرية الرأي والديمقراطية والحكم عليهم بسنوات سجن طويلة تصل لعقود، فضلًا عن إطلاق حملات لاعتقال الناشطات المدافعات عن حقوق المرأة.

والحقيقة، إن ادعاءات الأمير محمد بالتجديد والانفتاح في جوهرها تهدف لتعزيز سلطاته في مواجهة النخبة القديمة، كما تهدف لإضفاء مظهر زائف على ولي العهد كشاب منفتح ومجدد.