اتفقت الآراء على أن التفاهمات السعودية الإيرانية كانت مفاجأة كبيرة، لا ينتقص منها ما جرى من جلسات حوار فاتر بين الجانبين خلال العامين الماضيين، لأنها جاءت على خلاف الاتجاه العام لسياسة أطرافه، وبوجه خاص السعودية، التي ناصبت الجمهورية الإسلامية خصومة استراتيجية عميقة، وحرصت على أن يفرض عليها أقصى قدر من الحصار والضغط حتى تغير سياساتها الإقليمية، حتى أنها اختلفت علنا مع الولايات المتحدة بعد الاتفاق النووى مع إيران، واعتبرته طعنة في ظهر المملكة، وضربة للتحالف السعودى الأمريكى الذى كان محور العقيدة الأمنية السعودية على مدى عقود طويلة.

كما اتفقت الآراء على أن الحكم على هذه التفاهمات يتوقف على ما ستسير إليه الأمور في تنفيذها، ومدى اقتناع الأطراف أنها تحقق ما كانت تسعى إليه من ورائها، بل وهناك من يدعو إلى التحفظ في الخروج باستنتاجات كبيرة في مواجهة مثل هذه التحولات المفاجئة، لأنها قد لا تعبر بالضرورة عن توجهات عميقة ومدروسة، بل وقد لا تتعدى أن تكون مناورات تكتيكية لأهداف محددة.

وأخيرا، هناك اتفاق على أن أهم المستفيدين من هذه التفاهمات هم إيران طبعا، لأنها تمثل خطوة مهمة لكسر طوق العزلة المضروب حولها، قد تفتح لها بعد ذلك أبوابا أوسع؛ وكذلك الصين، التي فاجأت العالم بنجاحها في إنجاز مثل هذه الخطوة الكبيرة، وفي منطقة كانت خارج دوائر النفوذ الصيني. هذا إلى جانب السعودية، التي تأمل أن يساعدها ذلك في التخلص من أعباء المواجهة مع إيران عبر الإقليم، وخاصة فى اليمن.

في المقابل، فإن التفاهمات تمثل ضربة موجعة لسياسة إسرائيل ورئيس وزرائها في عزل إيران وبناء تحالف إسرائيلي عربي مضاد لها، كما أنها تمثل إحراجًا غير مسبوق للولايات المتحدة ومكانتها الإقليمية، وتعمق أزمة الثقة القائمة بين واشنطن والرياض، فضلًا عن أنها تربك حسابات العديد من الأطراف الإقليمية التي أقامت سياساتها على هذه المواجهة.

***

شاركت مصر السعودية موقفها السلبي من الجمهورية الإسلامية منذ تأسيسها، عندما استضافت شاه إيران المخلوع، واتخذت موقفا مناهضا للثورة الإيرانية ولما اعتبرته مساع إيرانية لتصدير الثورة إلى دول المنطقة، حتى أن العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران قطعت في أيام الثورة الإيرانية الأولى، في حين ظلت قائمة بين الرياض وطهران، ولم تقطع إلا عام 2016 عندما هاجم متظاهرون إيرانيون بعثات السعودية الدبلوماسية احتجاجًا على إعدام رجل دين شيعي سعودي.

ورغم محاولات متفرقة لإجراء حوار بين إيران ومصر لطي صفحة الخصومة وإعادة العلاقات بينهما، ظلت هذه العلاقات تراوح مكانها، واستمرت مصر على تحفظاتها على سياسات إيران في الدول العربية، وبوجه خاص لبنان وسوريا ثم العراق واليمن، وما يمكن أن تمثله من تهديد لأمن دول الخليج. أضافت مصر إلى ما سبق سببين آخرين للخلاف هما استضافة إيران لعناصر اعتبرتها مصر تهديدا لأمنها القومي، وتسمية أحد شوارع طهران باسم خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس الأسبق أنور السادات.

ورغم أن المبادرة بقطع العلاقات جاءت من إيران اعتراضا على مساندة الرئيس الأسبق السادات لشاه إيران واستضافته في مصر عندما أسقطته الثورة، وعلاقات مصر بالولايات المتحدة وإبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، اللذين اعتبرتهما حكومة الثورة الإيرانية عدوين رئيسيين، فإن القطيعة بين البلدين بعد الثورة الإيرانية واستمرارها إلى اليوم كانا اختيارا مصريا في الأساس.

في المقابل، فقد عملت إيران على تغير لغتها تجاه مصر بعد تولى الرئيس الأسبق حسنى مبارك الحكم، ودأبت على التعبير عن احترامها الكبير لمصر وحضارتها ودورها الإقليمى والدولى، وكررت رغبتها فى استعادة العلاقات، الأمر الذى تبنت مصر منه موقفا متحفظا، وإن لم يمنع ذلك من إعادة التمثيل الدبلوماسى، ولو على مستوى أقل من مستوى السفراء، ثم التقاء الرئيسين مبارك وخاتمي عام 2003، وهو اللقاء الذى سبقته وتبعته لقاءات على مستوى وزراء الخارجية، لم تفضِ إلى تغير جوهري في طبيعة العلاقات، وصولا إلى قيام الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بحضور قمة عدم الانحياز في طهران في أغسطس 2012، ثم حضور الرئيس الإيراني السابق أحمدي-نجاد القمة الإسلامية في القاهرة في أبريل 2013.

من الهام الإشارة هنا إلى أن نهج الخصومة تجاه إيران لم يكن محل توافق عام في مصر. فمن اليوم الأول لاتخاذ الحكومة المصرية موقفا مناهضا للثورة الإيرانية، وطوال سنوات القطيعة والبرود والتحفظ، كان هناك قطاع عريض من الخبراء والسياسيين والدبلوماسيين السابقين المصريين، بل ومن العاملين داخل مؤسسات الدولة، يرى أن مساحة الخلاف مع إيران لا تبرر هذا القدر من التباعد، بل أن مصالح مصر ومكانتها الإقليمية والدولية، وحتى القضايا محل الخلاف مع إيران، تستدعى أن تحافظ على حوار نشط معها يقوم على الندية، والتناول المباشر والصريح للمصالح والرؤى الإقليمية والقضايا الخلافية، بما يسمح بالعمل على معالجتها أو على الأقل محاصرتها، وبحيث لا تجد إيران في مجالها الإقليمي مساحة لجمع أوراق المساومة مع القوى الدولية، وإنما شركاء يمكن أن تجعل من احترامهم والتعاون معهم حماية لها من المخاطر التي تخشاها.

***

واليوم، تجد مصر نفسها أمام سؤالين: الأول هو، ما هي انعكاسات التفاهمات السعودية الإيرانية عليها؟ والثاني هو كيف ستتعامل مع هذا التطور الإقليمي الكبير، الذي يفتح الباب لتغيير طبيعة علاقات إيران بكل دول الخليج، ومن ثم الأوضاع في المنطقة كلها؟

والحقيقة أن إجابة السؤال الأول تعتمد إلى حد كبير على إجابة السؤال الثانى، بمعنى أن تعامل مصر مع هذه التفاهمات، وما سترسمه لنفسها من سياسات إزاءها، سيحدد إلى حد بعيد انعكاساتها عليها، وهذا -بالمناسبة- هو الحال في مختلف القضايا الخارجية.

وعمليا، فأمام مصر خيارين أساسيين، الأول هو أن تستمر في سياستها الحالية تجاه إيران، باعتبار أن الخطوة السعودية اختيار سعودي، اتخذته حسب ظروفها وحساباتها التي لا تعبر بالضرورة عن ظروف وحسابات مصر، وهو خيار يحفظ لمصر حرية حركتها وصورتها المستقلة. إلا أنه يعني أيضا أنها تُعَرِّض نفسها للبقاء خارج تفاعلات بالغة الأهمية ستشهدها المنطقة في أحد ملفاتها الرئيسية، وهو علاقات وسياسات إيران الإقليمية، وأن تظل الدولة الوحيدة في المنطقة التي أبقت على الخصومة تجاه إيران، بخلاف عدوتها اللدود إسرائيل. بل أن استمرار مصر على خصومتها مع إيران بينما تتطور علاقات إيران بباقي دول المنطقة سيقلل من قيمة أي قرار مصري مستقبلي بالانفتاح على إيران.

أما الخيار الثاني فهو اعتبار أن الخطوة السعودية فرصة سانحة لتدارك خطأ تاريخى جسيم في سياسة مصر الإقليمية امتد لأكثر من أربعة عقود، وهو توارث هذه الخصومة مع إيران عبر العقود رغم ثبوت عدم جدواها، وحرمان مصر والمنطقة من الفوائد المتزايدة لوجود قنوات تحاور فعالة ونشطة بين البلدين. صحيح أن هذا سيبدو كما لو كان اقتداء بالخطوة السعودية، بصورة توحي بعدم استقلالية القرار المصري، إلا أن هذا الانطباع لن يكون أكثر من ملحوظة مؤقتة، من شأن تطور الأحداث مستقبلاُ بشكل كاشف لاستقلالية القرار المصري، إثبات عدم صحتها.

والحقيقة أن انفراج علاقات إيران بدول الخليج يرفع عن مصر الحرج الذي كان قائمًا طوال السنوات الماضية، والذي أصبح مع الوقت السبب الأهم لاستمرار خصومتها مع إيران، عندما اختارت تقديم نفسها باعتبارها العمق الاستراتيجي لدول الخليج التي يدعمها في مواجهة أي تهديد إيراني. كما أن الواقع الجديد سيفرغ دعاوى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى عزل إيران من مضمونها، وبالتالي سيخفف من أي ضغوط على مصر عندما تقرر إنهاء خصومتها مع إيران.

وهذا الخيار، رغم ما يبدو عليه من مجاراة للتحرك السعودي، فإنه يمكن أن يكون فرصة لإنهاء ارتباط سياسة مصر تجاه إيران بسياسة السعودية، الأمر الذي بادرت إليه السعودية نفسها بهذه الخطوة. فحتى لو فشلت محاولات إنهاء الخصومة السعودية الإيرانية، وهو احتمال وارد، ستكون مصر قد فتحت صفحة جديدة في علاقاتها مع إيران، تتسم بوضوح الرؤية وطول النفس، تحكمها رؤيتها للإقليم ودورها فيه بغض النظر عن حسابات ومواقف غيرها من دول المنطقة.

تنفيذ هذه الخطوة من جانب مصر يحتاج إلى آلية لتحريك الأمور بطبيعة الحال، على غرار دور الوساطة العراقية العمانية الصينية في حالة السعودية، وتصور متكامل لشكل ومضمون المرحلة الأولى من حوار البلدين. إلا أن المؤسسات المصرية المعنية بالأمن القومي، وتحديدًا وزارة الخارجية والمخابرات العامة، لديهما من الوسائل ما يكفي لوضع الخطة اللازمة لذلك، والتي تضمن أن يخرج بالشكل والطريقة والنتائج التي تليق بمصر وتحفظ لها قيمتها ومكانتها ومصالحها.