وفقا للواقعية السياسية في مجال السياسة الكبرى وحتمية تحقيق المصالح الوطنية والقومية، فإن الصين هي أكبر المستفيدين من الحرب الروسية- الأوكرانية، ومن أي تحولات في النظام العالمي القائم.
وبعيدا عن البروباجندا التي أحاطت بها روسيا زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينج إلى موسكو، فإن الاتفاقيات الـ 14 التي تم توقيعها، لا تعكس مستقبل العلاقات الصينية الروسية على أرض الواقع، وإنما تعكس بدرجات ما “الآمال الروسية” من جهة، و”الواقعية السياسية الصينية” من جهة أخرى.
أما استعراض نتائج مباحثات الرئيسين الصيني ونظيره الروسي فكان مجرد تعبير عن “آمال” و”نوايا”. كما أن البيان الختامي الذي لخص الوثيقتين الرئيسيتين (الأولى “حول تعميق الشراكة والتفاعل الاستراتيجي بما يتواءم مع الدخول إلى حقبة جديدة”. والثانية حول “خطة التنمية للمجالات الرئيسية للتعاون الاقتصادي لعام 2030”) اللتين تم توقيعهما، فلم يكن فيه أي جديد على مستوى الطرح، وإنما كرر كل التصريحات الروسية والصينية منذ أيام الحرب الباردة.
اقرأ أيضا: اتفاق بكين| المصالحة السعودية الإيرانية.. أبعد من مجرد اتفاق ثنائي
روسيا والصين.. من بين مخالب الآخر؟!
كل الشواهد تشير إلى أن روسيا في الوقت الراهن وقعت بين مخالب الصين، وأصبحت بالفعل شريكة صغرى لها. أي أن دور روسيا وحجمها السياسي والجيوسياسي تراجعا تماما، بصرف النظر عن البروباجندا والحملات الدعائية والأوهام الذهنية التي يجري تداولها في وسائل الإعلام وفي التقديرات النظرية. وبالتالي، فعرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيادة توريد موارد الطاقة “وبالذات النفط والغاز” للصين، وحتى وإن كانت بربع أسعارها في الأسواق، ليس ذلك العرض المغري لبكين التي تفكر بهدوء وبشكل استراتيجي. فإحدى أهم ركائز الصين لاستقلال قرارها عموما، وعدم وقوعها في فخ الابتزاز الروسي على وجه الخصوص، هي اعتمادها سياسة تنويع موارد الطاقة، وبالذات من دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وقطر، وبعض الدول الأخرى ذات التوجهات والوجهات السياسية المختلفة. وبالتالي، من المستبعد أن تعتمد بكين اعتمادا كليا على موارد الطاقة الروسية، لكيلا تكرر كارثة دولة الاتحاد الأوروبي التي استيقظت في آخر لحظة لتكتشف أن رقبتها كانت بين يدي موسكو. وفي الواقع فعرض الرئيس بوتين بزيادة إمدادات الغاز الروسي للصين لم تلق ترحيبا واضحا من نظيره الصيني. وردا على عدم ترحيب شي جين بينج بالعرض، قال الكرملين إن مشروع مد الأنبوب المتعلق بذلك من روسيا إلى الصين عبر منغوليا لا يزال في طور المباحثات، وان العرض قيد البحث.
من جهة أخرى، كل ما يهم الصين حاليا، هو استغلال كل التناقضات لمليء خزاناتها وصوامعها بالطاقة والحبوب والمواد الغذائية الاستراتيجية وكل ما يوفر لها الضمانات الكافية للأمن الغذائي وأمن الطاقة والحدود المعقولة لحياة رغيدة بأسعار زهيدة للغاية لمليار ونصف المليار نسمة. وفي الواقع، بكين مطمئنة حاليا إلى وجودها كقوة ثانية في العالم، ولديها الإمكانيات الكافية للتفاهم مع الغرب، وقيادة الدول “الأصغر”، ومن بينها روسيا. وربما يساعد ذلك بكين في المستقبل على القيام بمهام كانت تقوم بها روسيا لخدمة الغرب، ومن ضمن ذلك الضغط على موسكو في توقيت محدد للجلوس إلى طاولة المفاوضات، بعيدا عن البروباجندا المتعلقة “بالقضاء على روسيا وهزيمتها هزيمة استراتيجية” و”العالم متعدد القطبية”، وهي السرديات الهشة وغير المقنعة التي يجري تداولها والترويج لها لإخفاء أهداف أخرى تماما تدخل ضمن نطاق “السياسة الكبرى” و”الصراع على تقسيم العالم”.
إن هذا الكلام لا يعني إطلاقا أن الصين ستكون خاضعة للرغبات والإملاءات الغربية، بقدر ما ستكون شريكا ومنافسا قابلا للتنبؤ ووفق قواعد معينة بين الأطراف الكبرى في العالم. وفي الواقع، فروسيا تحاول قدر الإمكان صناعة واقع سياسي وجيوسياسي جديد يجمع بينها وبين الصين، وبالذات في تهويل تداعيات كل من مجموعتي “أوكوس” (الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا)، و”كواد” (الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا) وخطورتهما على منطقة المحيط الهادي وشرق وجنوب آسيا وبحر الصين. أي أن موسكو تسعى ببساطة إلى فرض نفسها على بكين بشكل لم يعد يتلاءم مع موازين القوي في العامين الأخيرين، وتأسيس أمر واقع جديد في منطقة المحيط الهادي. لكن بكين متيقظة تماما وتعمل بهدوء وفق مصالحها حصرا. وهذا لا يمنعها من الاستعانة بخدمات موسكو وقت الحاجة فقط، وليس لأهداف روسية. وهو ما يبدو واضحا من ردود الأفعال الصينية الحذرة على العروض الروسية “السخية”.
مبادرة السلام الصينية وحدود الممكن
تبدو المبادرة الصينية لتسوية الأزمة الأوكرانية، منفصلة تماما عن الواقع، وكأن الرئيس الصيني شي جين بينج كان يعيش في عالم آخر عندما طرحها. وربما تكون هذه هي فكرة الصين التي تنطلق من تحقيق مصالحها حصرا، ووفق أفكارها وآلياتها حول تمرير سياستها الخارجية. فالغرب وأوكرانيا يرفضان وقف إطلاق النار. وروسيا ترفض مبدأ وحدة أراضي الدول وسيادتها. والمبادرة الصينية خالية من فكرة “انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية وبدء مفاوضات التسوية”. كما أن كل الأطراف رحبت ترحيبا “دبلوماسيا” و”بروتوكوليا” بالمبادرة الصينية التي ولدت ميتة بسبب انفصالها عن الواقع، وفي الوقت نفسه، لم يعلن أي طرف عن قبول المبادرة أو استعداده لبحثها ضمن صيغ جماعية تضم الأطراف المتصارعة.
لقد أشار الرئيس الصيني إلى أن بلاده تتمسك بموقف موضوعي غير متحيز بشأن الأزمة الأوكرانية، وتعمل على تعزيز المصالحة واستئناف المفاوضات لحلها. وتطرق إلى مبادرته بشأن أوكرانيا، مشيرا إلى أن بكين تسترشد بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ووحدة أراضي الدول واستقلالها، وموقفها يقوم على أساس جوهر القضية والحقيقة، وهي دائما مع السلام والحوار. بينما قال الرئيس الروسي بوتين “إننا نعتقد أن العديد من بنود خطة السلام الصينية يتوافق مع النهج الروسي ويمكن اتخاذه أساسا للتسوية فيما بعد، عندما يكون الغرب وأوكرانيا مستعدين لذلك”. هذان التوجهان يعكسان اتساع الهوة بين موسكو وبكين حيال تسوية الأزمة الأوكرانية، وخاصة في ظل إصرار نخبة الكرملين على شرط قبول أوكرانيا والغرب الأمر الواقع والتغيرات الجيوسياسية في أوكرانيا. وفي الحقيقة، فالغرب وأوكرانيا لا يثقان لا في بكين ولا في موسكو. ويرى الغرب أن موقف الصين غير كافي، في محاولة لدفعها إلى إقناع روسيا بوقف عملياتها العسكرية وسحب قواتها من أوكرانيا. ومن الواضح أيضا أن هناك انعدام ثقة بين موسكو وبكين في هذا الملف. ولن نذهب بعيدا إذا كررنا تصريح الكرملين قبيل ساعات من مغادرة الرئيس الصيني موسكو، حيث أعلن بأن “الرئيس فلاديمير بوتين لم يناقش مبادرة السلام الأوكرانية مع الرئيس الصيني شي جين بينج، وكان هناك فقط تبادل لوجهات النظر حول المبادرة والبنود التي تضمنتها”، وألقى بالكرة في ملعب الصين وأوكرانيا، مشيرا إلى أن ذلك يتعلق بالمباحثات المقبلة بين بكين وكييف. وذلك في إشارة إلى الاتصال المرتقب عبر الفيديو بين الرئيسين الصيني شي جين بينج والأوكراني فلاديمير زيلينسكي. ولا يمكن استبعاد إجراء اتصال بطريقة ما بين الرئيسين الصيني والأمريكي بهذا الصدد، وبشأن بنود أخرى تخص البلدين.
إن الاتصالات المتوقعة بين الرئيس الصيني وبين كل من الرئيس الأوكراني ونظيرهما الأوكراني، ستكون أول اختبار لوزن الصين الجديد في الأزمة الأوكرانية، وفي المجال الجديد الذي استحدثته بكين وبدأته بالوساطة في الأزمة بين إيران والمملكة العربية السعودية. وسيكون أيضا اختبارا للثقة، ونقطة انطلاق بين الصين والغرب.
اقرأ أيضا: “شي” في موسكو.. الأماني الروسية والواقعية الصينية
سردية التعددية القطبية و”الديانة” الروسية الجديدة
إن فكرة “التعددية القطبية” التي تطرحها موسكو وتروِّج لها على نطاقات واسعة بين الأحزاب والتنظيمات القريبة منها، وبين بعض الدول التي تعيش في سياقات تاريخية ماضوية، تعتبر صيغة هشة ولا ترقى حتى إلى مستوى “سردية- أيديولوجية” يمكن الالتفاف حولها، لأن العالم متعدد الأقطاب موجود بالفعل وبدرجة لم تكن موجودة في أي وقت سابق. لكن هذه الفكرة، تخفي في طياتها رغبة روسيا والصين في تحسين شروط وجودهما ومضاعفة حجم حصصهما في المنظومة النيوليبرالية وفي أي صيغ جديدة لنظام عالمي مستحدث في المستقبل.
ومن الواضح أن الصين تمتلك كل الأوراق والمقومات لتحسين شروط وجودها في أي منظومة أو عملية عالمية حالية أو مستقبلية. ولكن روسيا لا تمتلك الأوراق والمقومات الكافية لتحقيق ذلك. كما أن مغامرة أوكرانيا قلصت من فرص استكمال روسيا لامتلاك هذه الأوراق والمقومات. ومن الواضح أنها لن تتمكن من استكمالها أو امتلاكها، لأن الصراع بينها وبين الغرب ارتقى إلى مستوى نوعي خطير. ولكنه لن يصل إلى مواجهات مباشرة أو حرب نووية، إلا إذا نفذت روسيا تهديداتها باستخدام الأسلحة النووية. هنا سيكون الكلام مختلفا تماما والتقديرات مغايرة لما يجري الآن.
غير أن المهم في هذا المقام، هو أن روسيا لا تزال تحاول جر الصين ولو حتى إلى واحدة من “سردياتها الجديدة”. ويبدو أنها نجحت بدرجات ما في ذلك، حيث تطلق الصين تصريحات “نارية” بشأن التعددية القطبية والديمقراطية بين الدول. ومع ذلك فنظرة الصين للتعددية القطبية تختلف تماما عن نظرة روسيا، لأن البلدين في هذه النقطة متنافسان أو خصمان وليسا حليفين كما يبدو للوهلة الأولى وعلى المدى القصير جدا، وأيضا على عكس ما تحاول روسيا زرعه في رأس القيادة الصينية أو الترويج له إعلاميا، مستغلة في ذلك التناقضات بين الصين والغرب.
استمرار الحرب الروسية- الأوكرانية
قبيل مغادرة الرئيس الصيني موسكو، وفي اليوم الثالث والأخير للزيارة، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن أفادتها اليومية بنتائج العمليات العسكرية، وأكدت أن قواتها تحاصر بلدة “باخموت” الأوكرانية في دونيتسك من جميع الجهات. بينما أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية عن هجوم على شبه جزيرة القرم وتكبيد القوات الروسية بعض الخسائر. وهذه خطوة جديدة من جانب كييف تشير إلى أن الأسلحة والدعم المالي والاقتصادي الغربيين يسفران عن نتائج مهمة وخطيرة في سياق العمليات القتالية بين الطرفين المتنازعين. وهذا يعني فيما يعني أن الحرب الروسية- الأوكرانية مستمرة ومتواصلة، وتتطور بوتيرة سريعة، بعيدا عن أي مقاربات للتفاوض، سواء بين موسكو وكييف، أو بين روسيا والغرب. إذ يواصل كل طرف من هذه الأطراف المضي قدما في سياساته وتجهيز دفاعاته وتحقيق خططه.
ربما يكون سقوط بلدة “باخموت” الأوكرانية قريبا من أكبر المؤشرات على استمرار الحرب وليس على انتصار روسيا وهزيمة أوكرانيا. فهذه البلدة لم تعد بتلك الأهمية الاستراتيجية التي يتم الترويج لها إعلاميا لتحويلها إلى رمز عسكري و”سردية” تاريخية في المستقبل. وفي الواقع، فإن روسيا قادرة على احتلال هذه البلدة. وتأجيل السيطرة عليها ليس بسبب ضعف القوات الروسية أو قوة القوات الأوكرانية. هناك أسباب أخرى عسكرية وسياسية تجعل روسيا تؤجل السيطرة على هذه البلدة. لكن في نهاية المطاف، ستسيطر روسيا عليها ما سيتبقى منها بعد أن تحولت خلال الأشهر الأخيرة إلى أطلال مرعبة ليس لها أي قيمة.
الموقف الآن يبدو على النحو التالي: روسيا تستهدف تركيع الغرب تماما، وإجباره بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة على قبول شروطها. والرئيس الروسي مصمم تماما على المضي قدما في هذا الطريق، ولا توجد أي آفاق لأي مفاوضات أو مقاربات في ظل وجود نخبة الكرملين الحالية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين. ومن جهة أخرى، يواصل الغرب كل خطواته وإجراءاته، بل ويضاعفها، من أجل دعم أوكرانيا على كافة المسارات والجبهات مع عدم التورط المباشر في الحرب. والغرب يفترض أن هذا الدعم الواسع واللا محدود يهدف ليس فقط لاستنزاف روسيا أو لتعديل موازين القوى بين روسيا الكبيرة وأوكرانيا الصغيرة، بل وأيضا إلى ضمان أمن أوكرانيا في المستقبل حتى وإن لم يتم قبولها في حلف الناتو بشكله الحالي، وعدم تكرار ما حدث معها في دول أوروبية أو غير أوروبية أخرى. لكنه في كل الأحوال لا يريد إلحاق أي هزائم استراتيجية بروسيا، وإنما وقف أي مغامرات محتملة من جانبها في المستقبل.