بعد أن تم تطبيق تجديد الحبس الاحتياطي عن بعد، عن طريق الشبكات الإلكترونية، بات هناك فصل غير منصوص عليه ما بين المتهم ومحاميه، وهو الأمر الذي كان يقتضي بدايًة أن يكون هناك تعديل تشريعي يتواكب مع الحداثة الإلكترونية من ناحية أولية، كما يضمن حقوق المتهم ودفاعه من ناحية أخرى، فأذكر أن أحد المحامين، الأسبوع الماضي، في محكمة بدر الجديدة، قد تبادل الحديث مع المتهم من خلال وسائل التواصل المسموح بها داخل المحكمة ومجمع السجون في ذات الوقت، وطمأنه على ذويه، ثم  اكتفى بقوله أرجو من المحكمة أن تراجع ملف المتهم، وذلك على حسب ما نشره المحامي الحقوقي الأستاذ / محسن البهنسي عبر صفحته على الفيس بوك.

وهو الأمر الذي يدفعنا إلى تناول المحاكمات الإلكترونية وضمان المحاكمة العادلة والمنصفة، وقد عرف العالم التقاضي الإلكتروني لأول مرة عام 1993 وكانت البداية في سنغافورة، وتبعتها بلدان أخرى، فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة في ذات العام بإنشاء مشروع في كلية وليم وماري للقانون في فرجينيا، أُطلق عليه فيما بعد “مركز التكنولوجيا القانونية والمحكمة”، وكان ذلك بهدف تحسين الأنظمة القانونية والتقاضي عن بعد.

وإذا كان لنظام التقاضي الإلكتروني العديد من المزايا، أهمها توفير الوقت والجهد والحفاظ على الأوراق، والسداد الإلكتروني، وسرعة الإجراءات بشكل عام، لكنه من حيث الأصل يجب أن يختلف عن التقاضي التقليدي فيما يتضمنه من ضمانات أو حقوق للمتقاضين بشكل عام، وإن كان أمر الحداثة لا بد منه فعليًا مع التطورات العديدة التي تجتاح المجتمعات، إلا أن أمر التقاضي الإلكتروني يصطدم  فيما يخص التقاضي الجنائي بقواعد فقهية ومبادئ دستورية وقانونية أهمها العلانية والشفوية والمواجهة والذي يصعب تحقيقه دون اتصال فعلي ما بين المحكمة والدفاع والمتهم، وبشكل خاص في حالة عدم وجود نصوص حديثة تتبنى تلك التحديثات الجديدة، وهذا ما دفع بالعديد من التشريعات إلى استصدار تعديلات قانونية تبيح استخدام التقاضي الإلكتروني منها على سبيل المثال قانون الإجراءات الجزائية الأردني، والذي قام بتعديل المادة 158 من ذلك القانون حتى تشرع لاستخدام التقنية الحديثة في مجال التقاضي.

وإذ أننا مع فكرة الأخذ بما يتوصل إليه العلم في المجالات كافة، وذلك بما يفي بالاحتياجات البشرية نرى بأن علانية المحاكمة وفقًا لتقنية الاتصال عن بعد لا تحقق الفائدة المرجوة والإنتاجية المطلوبة في إجراءات التقاضي كما هو الحال عند ممارستها بالشكل التقليدي وجاهًة أمام القضاة، لأسباب منها أن البعض من المحامين قد يترافعون في قضاياهم من مكاتبهم الخاصة أو من بعض الأماكن الخاصة، كما أن عدم إنتاجية علانية المحاكمة بالشكل الإلكتروني مرده ضعف القناعة الشخصية لدى العامة في التقاضي الإلكتروني،  لكن من الممكن أن تنتج علانية المحاكمة الإلكترونية أثرها الإيجابي في حال ما إذا كانت المحاكمة عبر قنوات تلفزيونية تخصص لذلك بحيث تنقل إجراءات التقاضي كافة أو عبر رابط إلكتروني يتم نشره من خلال موقع وزارة العدل وهذا الرابط لا يدخل إليه إلا المهتمين. إلا أن ذلك يخل بمبدأ المواجهة القضائية المفترضة ما بين الخصوم، أو حال مناقشة الشهود، خصوصًا في ظل الدوائر المغلقة، والتي قد تضيع خلالها بعض الأقوال حال وجود أي خلل في الشبكات الإلكترونية، وهو ما  يخل بضمان المحاكمة العادلة والمنصفة، كما أنه في بعض الأحوال قد تقتضي الأمور المثول الفعلي للمتهم رفقة دفاعه أمام هيئة المحكمة، فهل هناك من حلول، خصوصًا حال تكرار الشكوى من المحامين من عدم قدرتهم على التواصل الحقيقي مع المتهمين، أو حال طلبهم لذلك من المحكمة، فهل يكون الحل أن يكون التقاضي عن بعد رهين موافقة المتهم ذاته، أو السماح له بمقابلة دفاعه أو هيئة المحكمة حال طلبه ذلك.

ولعل الإجابة على مثل هذه التساؤلات وغيرها تقتضي منا القول أن نتكلم عن حقيقة تمزج ما بين الواقع والقانون، لا بل ما بين المنطق والقانون، وهذه الحقيقة تتمثل في كون فوائد ومزايا تقنية الاتصال عن بعد في الإجراءات القضائية سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة يجب أن لا تكون على حساب هدر وخرق ضمانات المحاكمة العادلة للمتهم، فمغادرة النظام الورقي وسرعة البت في القضية واستلام ملفات القضية إلكترونيًا والتقليل من النفقات التي تتكبدها الدولة في حالة نقل النزيل أو المحكوم عليه من وإلى الجهة القضائية هو أمر مرهون بالموازنة بين حق الدولة في العقاب وحق الفرد أو بالأحرى المتهم، فالسلطة القضائية ملزمة قانونًا لا بل ودستورًا بأن تكفل للمتهم جميع الحقوق والضمانات الخاصة به. كما أن مبدأ العلانية في جلسات المحاكمة لا يتوافر بشكل يقيني في حالات التقاضي عن بعد وهو من الأصول الدستورية التي لا يجب التغاضي عنها

والجدير بالذكر، أن القانون الدولي، وضع ثلاثة شروط أساسية، نستعرضها فيما يلي:  عدم تعارض استخدام تقنية التقاضي الإلكتروني مع قانون الدولة المطلوب منها التنفيذ، فقد اشترطت الفقرة الثانية من أحكام المادة 09 من البروتوكول الإضافي للاتفاقية الأوروبية للمساعدة القضائية المتبادلة في المسائل الجزائية، ألا ينطوي استخدام هذه التقنية على تعارض مع المبادئ الأساسية لقانون الدولة المنفذة، ومن ثم فإن لهذه الأخيرة رفض هذا الاستخدام، إذا قدرت أنه يؤدي إلى إهدار المبادئ الأساسية لقانونها الداخلي، على اعتبار أن الاختصاص القضائي لا يعود لهذه الدولة. إلى جانب شرط عدم تعارض المحادثة المرئية، أو التقاضي الالكتروني مع المبادئ القانونية الأساسية للدولة، نجد الشرط الثاني والذي يتمثل في إلزامية توافر الوسائل والإمكانيات التي تساعد على التنفيذ، لدى الدولة المنفذة.

وبالتالي فإن الأمر كله مرجعيته تعود إلى السلطة في كيفية الحفاظ على جميع المبادئ المتعلقة بحقوق المتهمين، ودفاعهم، ومدى تأثير التقاضي عن بعد على تلك الحقوق بالسلب، ويجب البحث عن سبل لتلافي تلك العيوب والمثالب التي تضع التقاضي الإلكتروني في كفة وضمان المحاكمات العادلة والمنصفة في كفة أخرى، بالتالي يجب ترجيح الكفة الثانية ضمانًا لحسن سير العدالة بصفة عامة، كل ذلك بخلاف تحسين تلك الوسائل الإلكترونية بما يضمن حسن نفاذها، مع استحداث التشريعات القانونية اللازمة لذلك.