بعد مرور أكثر من عام على الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تزال الدول المتحالفة مباشرة مع موسكو، مجموعة “متنوعة من الأتباع والتوابع”، بما في ذلك بيلاروسيا الخاضعة للرئيس ألكسندر لوكاشينكو، وسوريا القابعة تحت بشار الأسد.
ومع أن ست دول فقط صوتت مع موسكو ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي دعا إلى انسحاب روسيا في الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، مقابل 141 صوتت لصالح القرار، ما يدفع لاعتبار الجهود المبذولة لعزل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على “المسرح العالمي” ناجحة للغاية، لكن على أرض الواقع، يمكن أن تكون مثل هذه الأصوات خادعة، ومضللة.
وفي تحليلها المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy، تشير آنا بورشيفسكايا زميلة معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومؤلفة كتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا”، إلى أن الشرق الأوسط هو مثال رئيسي وهام لفكرة الأصوات المخادعة.
تكشف المحادثات مع النخب في العديد من عواصم الشرق الأوسط -دبلوماسيين مؤثرين ومسؤولين حكوميين وصحفيين ورجال أعمال- عن تقدير مفاجئ لموقف روسيا، بما في ذلك التعاطف مع حجة بوتين، بأن روسيا اضطرت للتحرك لتجنب تطويق الناتو.
بالإضافة إلى ذلك، وجد استطلاع الشباب العربي 2022 -الذي أجرته شركة استشارات العلاقات العامة ASDA’A BCW ومقرها دبي- أن المزيد من الشباب العربي، الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا، يلومون الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وليس روسيا، على الحرب في أوكرانيا.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن حماية أوكرانيا بدون “عضوية الناتو”؟
أسباب للتناقض
تؤكد بورشيفسكايا أن هناك عدة أسباب تجعل العديد من أصدقاء واشنطن التقليديين في الشرق الأوسط متناقضين، في أحسن الأحوال، بشأن حرب أوكرانيا.
تشرح هذه الأسباب: يتعلق هذا بإحساسهم الخاص بتخلي الولايات المتحدة عنهم في وقت الحاجة. وهو شعور مشترك من السعوديين والإماراتيين، الذين، مثل أوكرانيا، كانوا على الطرف المتلقي للطائرات الإيرانية بدون طيار.
تضيف: واشنطن، التي كانت على استعداد لإرسال أكثر من نصف مليون جندي وبحارة وطيار أمريكي لتحرير الكويت منذ جيل مضى، تعتبر أن إرسال أسلحة وذخيرة لدعم الأوكرانيين الذين يقاتلون بأنفسهم يمثل عبئًا ثقيلًا اليوم. ما يشير إلى أن هناك فرصة ضئيلة لأن ترسل الولايات المتحدة مرة أخرى شبابها لحماية دولة عربية بعيدة.
هكذا، يولد جزء من تصور أن روسيا هي “الحصان القوي”، وأن باستطاعتها ممارسة القوة بأكثر مما تفعل واشنطن. كما اتضح من استعداد بوتين لدعم حليفه في دمشق، في وقت امتنع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن استخدام القوة، على الرغم من وعده بمعاقبة سوريا لاستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين الأبرياء.
وتشير إلى أن “هناك أحاديث تتردد في القاهرة، تحمل حنينًا إلى الأيام التي كانت فيها روسيا المورد الرئيسي للأسلحة قبل عقود، عندما كانت مصر بدورها عملاقًا عربيًا”.
ومع ذلك، تؤكد بورشيفسكايا أن “هذه الأفكار لم تتجذر من تلقاء نفسها. بل أتت نتيجة العنصر المفقود الذي جعل هذه الأفكار موطنًا للكثيرين في العالم العربي، وهو انتشار وسائل التضليل الروسية”.
روسيا اليوم
قبل سنوات من الغزو الأوكراني، ظهرت وسائل الإعلام الروسية المملوكة للدولة “روسيا اليوم/ RT Arabic “، و”سبوتنيك/Sputnik Arabic “، كمصادر رئيسية للأخبار الإقليمية المشروعة في الشرق الأوسط.
في الغرب، لم تتمتع المنافذ الشقيقة لـ RT وSputnik بنفس الدرجة من المصداقية. ومع بداية الحرب، تم إما حظرها تمامًا، كما كان مصير RT في بريطانيا، أو اختارت الإغلاق بسبب “أحداث غير متوقعة لانقطاع الأعمال، كما حدث لـ RT America. بعد أن أسقط كل من مزود القنوات الفضائية DirecTV وشركة البث Roku القناة في عام 2022.
لكن في الشرق الأوسط، احتفظت وسائل الإعلام الروسية التي تديرها الدولة بإمكانية الوصول الكامل إلى موجات الأثير طوال أزمة أوكرانيا. مما مكّن الكرملين من نشر روايته عن الحرب عبر وسائل الإعلام الإقليمية.
في هذا الصدد، تقول بورشيفسكايا: موسكو تعرف جمهورها في الشرق الأوسط جيدًا. وهي تسوق، بشكل روتيني، الحرب على أنها تحدٍ روسي للنظام المهيمن الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي حجة تلعب دورًا جيدًا في العديد من العواصم العربية.
تضيف: على سبيل المثال، يقوم تطبيق مجمع للأخبار العربية “نبض” بإعادة نشر مقالات RT باللغة العربية بشكل متكرر. وتوفر قاعدة بيانات المعلومات المضللة الخاصة بالاتحاد الأوروبي سجلاً شاملاً لإعادة نشر RT Arabic عبر وسائل الإعلام الإقليمية، في نبض ومواقع أخرى.
كما تشير إلى أن “العناوين الرئيسية نموذجية بقدر ما هي توضيحية”. مثل “الغرب والولايات المتحدة غير مهتمين بدعم أوكرانيا بل إضعاف روسيا”، “مهمة واشنطن هي الحد من نمو شركائها الأوروبيين والآسيويين”، “أوكرانيا مجبرة على القتال نيابة عن الناتو “، وما إلى ذلك.
وتوضح أن “هذه المقالات الروسية، وحتى الرسوم الكاريكاتورية، شقت طريقها في النهاية إلى وسائل الإعلام العربية، دون الإشارة إلى أصلها”.
اقرأ أيضا: عروض روسيا السخية ومستقبل الصين كقوة ثانية في العالم
تأثير قوي
تؤكد بورشيفسكايا أن تأثير وسائل الإعلام الروسية “كان حقيقيًا وقويًا”.
تقول: مرارًا وتكرارًا، في محادثات خاصة مع المحاورين العرب، سمعت أصداء خطوط الدعاية المفضلة للكرملين: تم استفزاز روسيا بسبب توسع الناتو، تاريخ روسيا وأوكرانيا “معقد”، والولايات المتحدة، التي غزت العراق بلا سبب، ليس لديها مكانة لانتقاد العمل الروسي في أوكرانيا”.
وتوضح أنه “دبلوماسياً” تُرجمت هذه المشاعر إلى دعوات متكررة من قبل المسؤولين الإقليميين، بمن فيهم المسؤولون الإماراتيون والعراقيون، لإجراء مفاوضات سلمية لحل الأزمة الأوكرانية- الروسية، كبديل غير اتهامي لإدانة روسيا لعدوانها غير المبرر.
وتضرب مثالًا آخر، بعد الغزو مباشرة، عندما أصدرت جامعة الدول العربية بيانًا أعربت فيه عن “القلق الشديد” بشأن الوضع في أوكرانيا، ودعت إلى “كل الجهود الرامية إلى حل الأزمة من خلال الحوار والدبلوماسية”، وذلك “دون تسمية روسيا بأنها المعتدي”، كما توضح زميلة معهد واشنطن.
من الناحية الاقتصادية، حقق الهجوم الإعلامي الروسي انتصارًا في إقناع العواصم العربية بعدم الانضمام إلى أنظمة العقوبات الغربية، حتى أن بعض دول الشرق الأوسط، بشكل رئيسي تركيا والإمارات، سجلت زيادات في تجارتها الثنائية مع موسكو، في عام كان فيه الغرب يدفع باتجاه عزل روسيا.
تقول بورشيفسكايا: إذا كان هذا هو الوضع بعد عام واحد من الحرب، تخيل كم سيكون أسوأ مع استمرار الحرب.
وأوضحت أن “الولايات المتحدة وحلفاؤها نجحوا إلى حد كبير في إقناع معظم قادة العالم بالتصويت بالطريقة التي يريدونها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لذلك، يعتقدون أنهم يكسبون معركة الروايات”.
لكن، في الواقع، في كثير من أنحاء العالم، بما في ذلك أماكن مهمة مثل الهند وجنوب إفريقيا ومعظم الشرق الأوسط، تسير روسيا بشكل أفضل مما يعتقد الأمريكيون. “ومع مرور عام آخر من المعلومات المضللة، والدعاية التي تتنكر في صورة أخبار وتحليلات، فإن التعاطف مع موقف موسكو سوف ينتشر فقط”، كما ترى بورشيفسكايا.
تحديات شرق أوسطية
ترى زميلة معهد واشنطن أن “مساعدة أوكرانيا على تحقيق النصر في ساحة المعركة هي الطريقة الأسرع والأكثر ضمانًا لضمان عدم تعميق موسكو سيطرتها على القلوب والعقول العربية”.
ولكن “بينما يستقر الغرب في حرب طويلة الأمد، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به لمواجهة الخطاب الروسي المخادع، والتنافس مع وسائل الإعلام المشوهة”، حسب قولها، حيث “يحتاج الغرب إلى أخذ زمام المبادرة في مواجهة التضليل الروسي في الشرق الأوسط، ونشر رؤيته الخاصة بوضوح في المنطقة”.
تقول: لطالما كانت معركة الروايات جزءًا لا يتجزأ من الحرب. تعتبر مواجهة الروايات الروسية بشكل فعال خارج العالم الليبرالي جزءًا مفقودًا من الجهود الغربية لدعم أوكرانيا.
وأكدت أنه “يمكن أن تكون ممارسات الاتحاد الأوروبي السابقة لمكافحة المعلومات المضللة مفيدة. لذلك، ليست هناك حاجة لإعادة اختراع العجلة بالكامل. لكن الشرق الأوسط يطرح تحديات فريدة خاصة به”.
فعلى سبيل المثال، يحتاج الشرق الأوسط، أكثر من أوروبا، إلى برامج تدريب صحفية أقوى، وإمكانية وصول محسّنة إلى أدوات المعلومات الخارجية.
أيضًا، يمكن أن يشمل ذلك زيادة التمويل لمنافذ مثل VOA Arabic وBBC Arabic، بالإضافة إلى طرق فعالة لإدخال الغرب، بما في ذلك على وجه الخصوص أوكرانيا، إلى وسائل الإعلام المحلية.
تؤكد زميلة معهد واشنطن: في الواقع، لم تسمع المنطقة حتى الآن الرواية الأوكرانية بنفس الدرجة التي سمعت بها الرواية الروسية. الأهم من ذلك كله، يحتاج الغرب إلى التفكير الاستراتيجي وعلى المدى الطويل.
ولفتت إلى أن القادة الغربيين يتحدثون عن عزل روسيا عالميًا “لكنهم لا يستطيعون تحقيق هذا الهدف دون تشويه سمعة رواية الكرملين”.