لا تزال مناقشة قضية آثار التغيرات المناخية على الصحة النفسية، محدودة قياسًا بقضايا أخرى ضمن تداعيات التغير المناخي التي تحظى بالاهتمام العالمي، ومؤخرًا كشف تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (هيئة المناخ) عن أن تغير المناخ الذي يتزايد بسرعة، يشكل تهديدًا متصاعدًا للصحة النفسية والعافية النفسية الاجتماعية، من الضيق العاطفي إلى القلق والاكتئاب والأسى والسلوك الانتحاري.

الصحة النفسية هي حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوط الحياة، وتحقيق إمكاناته، والتعلّم والعمل بشكل جيد، والمساهمة في مجتمعه المحلي. وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان قدراتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات وإقامة العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه. والصحة النفسية هي حق أساسي من حقوق الإنسان. وهي حاسمة الأهمية للتنمية الشخصية والمجتمعية والاجتماعية الاقتصادية.

تقول دكتورة ماريا نيرا، مديرة إدارة البيئة وتغير المناخ في منظمة الصحة العالمية:”يتزايد تحول آثار تغير المناخ إلى جزء من حياتنا اليومية، ولا يوجد سوى القليل جدا من الدعم المخصص للصحة النفسية الذي يتاح للمجتمعات التي  تواجه مخاطر ترتبط بالمناخ”.

يؤثر تغير المناخ على العديد من المحددات الاجتماعية التي تؤدي بالفعل إلى فرض أعباء هائلة على الصحة النفسية، لكن ومع ذلك، وفق مسح أجرته المنظمة عام 2021 وشمل 95 بلدًا ، هناك 9 دول فحسب وضعت مسألة الدعم النفسي الاجتماعي في خططها الوطنية للصحة وتغير المناخ، بينما هناك وحسب مؤشرات منظمة الصحة العالمية مليار شخص حول العالم مصابين باضطرابات نفسية، يحتاجون الدعم.

الصحة النفسية والبدنية

يتشارك البشر حالة القلق على صحتهم، وبجانب التعافي من الأمراض البدنيّة، كمقياس للصحة، تؤثر الصحة العقليّة والاجتماعيّة، على متوسّط العمر والاندماج الاجتماعي والمشاركة والإنتاج.

ويقل متوسط العمر بمعدّل 20 عامًا عند الرجال و15 عامًا من أعمار النساء حال وجود مرض نفسي أو عقلي، وحسب منظمة الصحة يحصل 20% فقط من المصابين باضطرابات عقلية أو نفسية على خدمات مناسبة.

ونتيجة غياب أو ضعف نظم الرعاية يقضي مرضى الاضطرابات النفسية 25% من عمرهم في حالة إعاقة ويهدرون 14.6% من أعمارهم.

ونظرًا لحالات الفقر المنتشرة، ينظر للرعاية النفسية كأحد مظاهر الترف، ناهيك عن أن تكاليف الرعاية النفسية في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، مرتفعة كنتيجة مباشرة للنقص الشديد في عدد مقدمي هذه الخدمة.

أيضًا، لا تحظى الصحة النفسية باهتمام الحكومات وغالبًا ما تغيب عن تقارير إنجازاتها الصحية، ولا تحظى بالمساواة مع الصحّة البدنيّة من حيث الميزانيّة والممارسة، أو التعليم الطبي على الرغم من وجود أدلة بأنّه لا يمكن الحفاظ على صحة البشر في غياب الصحة العقليّة.

وحسب مؤشرات للأمم المتحدة، تخصص للصحة العقلية 5% من ميزانيات الصحة، وتنفق البلدان منخفضة الدخل أقلّ من دولارَين للشخص الواحد سنويًّا، وغالبا ما يُعامل المحتاجون للرعاية النفسية في الدول النامية بطرق تمييزية، ويواجهون وصمًا اجتماعيًا، ما يعمق عدم المساواة ويعيق الأشخاص عن ممارسة حياتهم الاجتماعية.

مؤسسات الصحة النفسية

سبق وأشارت الأمم المتحدة إلى أن مؤسسات الطب النفسي، مثل جميع الأماكن المغلقة، تولد الإقصاء والفصل، وتجبر أصحاب الإعاقة العقلية أو النفسية في كثير من الأحيان على الدخول في مكان واحد، يرقى إلى درجة الحرمان التعسفي من الحرية، إضافة إلى الممارسات القسرية والعنف الذي قد يصل أحيانًا إلى مستوى التعذيب.

أدى التركيز على إضفاء الطابع المؤسسي بدلًا من حل الثغرات ونقاط الضعف داخل الأسرة والشبكات المجتمعية، إلى كسر الروابط وحُرمان الذين يعانون، من المشاركة والاندماج في المجتمع.

فقدان الشبكات الاجتماعية

لم تحظ الصحة العقلية والنفسية الاجتماعية بما يكفي من الاهتمام في الدراسات المتعلقة بالتغيرات المناخية، وحسب منظمة الصحة العالمية يحصل 20% فقط من المصابين باضطرابات عقلية أو نفسية على خدمات مناسبة.

الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها العالم خلقت مسارين للتعامل مع الصحة النفسية خاصة في البلدن منخفضة ومتوسطة الدخل، أولًا، الثقافة الاجتماعية السائدة حول طلب الرعاية النفسية هو حق حصري لأصحاب القدرات المادية المرتفعة باعتبار أن الرعاية النفسية هي أحد مظاهر الترف الاجتماعي، أما  المسار الثاني هو ارتفاع تكاليف الرعاية المرتبطة بالصحة النفسية كنتجة مباشرة للنقص الشدد في عدد مقدمي الخدمة.

هذا الوضع ساهم في دفع المسئولين والباحثين في مجال الصحة بشكل عام لإهمال السياسات والتدابير المتعلقة بالصحة النفسية، ففي الغالب تأتي الصحة البدنية كأولوية في صنع السياسات وإجراء البحوث المتخصصة وفي تقارير الإنجازات التي حققتها الحكومات  على صعيد الخدمات المتعلقة بالحق في الصحة.

الفئات الأكثر تضررًا

يواجه سكان المناطق المعرضة لخطر التصحر، أو الارتفاع الشديد في درجات الحرارة وكذلك انعدام الأمن الغذائي وتلوث الهواء ونقص كمية المياه، لأضرار نفسية إلى جانب أضرار فقدان سبل العيش وخسارة الممتلكات والنزوح والهجرة القسرية وغيرها من الأضرار الاجتماعية والاقتصادية وكلها تلاحق الفقراء.

وتؤدى هذه التغيرات إلى سلسلة من الأضرار و الأمراض النفسية مثل “القلق والاكتئاب والتوتر والخوف والحزن إلى جانب السلوك الانتحاري، وتوتر العلاقات الاجتماعية والعنف الأسري” .

ساعدت أزمة جائحة كوفيد 19 على تفشي العديد من الإعاقات النفسية خاصة للفئات الضعيفة والهشة.

وأعدت منظمة الصحة العالمية دراسة حول الأمراض النفسية المرتبطة بالتغيرات المناخية، ذلك عقب إعصار “إيداي ”  في زيمبابوي، إذ فقد العديد من السكان منازلهم ومصادر عيشهم، وارتفعت معدلات الفقر، وأصبح عدد منهم غير قادر على توفير الطعام لأسرهم وعجز البعض عن الالتزام بدفع نفقات التعليم، أو شراء مستلزمات البناء لإعادة بناء منازلهم.

بعد الإعصار وما سببه من كوارث انتشر القلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، وأصبح التوتر أحد السمات الأساسية لعدد من السكان في ظل غياب الرعاية النفسية.

توصيات

لذلك، فإن حجم الأضرار الناجمة على الأمراض العقلية والنفسية المرتبطة بتغيرات المناخ، تستوجب وضع الصحة النفسية على أولوية العمل المناخي على المستوى العالمي والمحلي، كذلك تخصيص ميزانية للصحة النفسية في الصناديق المناخية العالمية وكذلك على المستوى المحلي، من أجل إجراء  البحوث والدراسات المتعلقة بالصحة النفسية والتغير المناخي.

بالإضافة إلى تعزيز ورفع إمكانات ومهارات العامين في مجال الصحة النفسية بآثار التغيرات المناخية الصحية، مع التشجيع على دراسة الصحة النفسية والعقلية وتطوير المناهج المرتبطة بها.

كما أنه من المهم إنشاء مراكز لدعم الناجين من التغيرات البيئية المتطرفة.