سواء اتفقنا أو اختلفنا، كمصريين وعرب، حول مقولة أنه لا فرق بين صهيوني وآخر، أو أن كل صهيوني هو بالضرورة عدواني عنصري توسعي، متعصب قومي أو متعصب ديني، فإنه من المفيد والضروري النظر إلى الصراع الضاري الدائر في إسرائيل حاليًا، من زوايا الرؤية التي ينظر منها أطراف الصراع إليه، وكذلك بقية العالم، خاصة اليهود الأمريكيين، والدوائر السياسية الأمريكية الرسمية وغير الرسمية.
كل هؤلاء يصفون المعركة الناشبة بين حكومة بنيامين نيتانياهو الائتلافية اليمينية المتطرفة، وبين قوى المعارضة الإسرائيلية حول خطة إصلاح النظام القضائي بأنها صراع علي روح إسرائيل، وعلى مستقبل المشروع الصهيوني. وتنذر بحرب أهلية، بعد أن وصلت الاحتجاجات والانشقاقات إلى صفوف الجيش والشرطة، واقترب المدنيون من العصيان المدني الشامل، في وقت تكررت فيه حوادث العصيان الجزئي، ومن ثم فهو أيضًا صراع حول علاقة إسرائيل بجيرانها، وبالعالم ككل.
فماذا يقصد أولًا بـ”روح“ إسرائيل المزعومة، عند من يرون أنه لا فرق بين صهيوني وآخر، أو غير المزعومة، عند من يرون فروقًا جوهرية فيما بين التيارات الصهيونية وبعضها البعض؟.
الحركة الصهيونية منذ نشأتها، بغرض تأسيس دولة يهودية في فلسطين، تكونت من ثلاثة تيارات، هي: الصهيونية العمالية (أو اليسار)، والصهيونية التنقيحية (أو اليمين القومي)، والصهيونية الدينية، وبينما كانت الصهيونية العمالية هي القوة الرئيسية سواء في الوكالة اليهودية في فلسطين أو في المنظمة الصهيونية العالمية، أو بعد قيام الدولة، كانت الصهيونية القومية هي قوة المعارضة الرئيسية، فيما كانت الصهيونية الدينية على الهامش على طول الخط.
لكن كتلة اليسار العمالي، وكتلة اليمين القومي اتفقتا منذ البداية ودائمًا على أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية علمانية لليهود جميعًا، الملحدين والإصلاحيين والمتشددين، وليست دولة دينية محكومة بالتوراة، مع إمكان تمتع غير اليهود فيها بحقوق المواطنة كاملةً (ولو من باب الحفاظ علي الشكل الديمقراطي ونفي الصفة العنصرية أمام العالم )، مع بقاء الخلافات الأخرى بين الكتلتين علي حالها، وهي الخلافات التي انحصرت في تبني القوميين الذين تجمعوا فيما بعد في حزب الليكود لمشروع إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، حتى وإن تطلب الأمر ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية، أي ما يعرف بـ “الترانسفير “إلي الأردن بوصفها الدولة الفلسطينية التي حددها وعد بلفور، ثم في التحول إلى اقتصاد السوق الحر بالكامل، فيما كانت الصهيونية العمالية حريصة علي اقتصاد السوق الاجتماعي، وترى إمكانية للسلام مع الفلسطينيين، والدول العربية بشرط واحد جازم لازم، ولا يمكن التنازل عنه، أو المرونة فيه وهو الأمن المطلق، ما تبلور فيما بعد في صيغة الأرض مقابل السلام، وحل الدولتين، بينما ظلت الصهيونية الدينية معنية أساسًا بمصالح قواعدها الاجتماعية، وإحياء الدراسات التوراتية، والشعائر اليهودية، مع التركيز علي إعادة بناء الهيكل.
ولكن كل ذلك كان هامشيًا في مجريات الحكم والسياسة في إسرائيل، حتى وإن احتاجت كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى الائتلاف مع بعض المتدينين لاستكمال نصاب الأغلبية النيابية، مقابل امتيازات فئوية.
كما نعرف أيضًا، ظلت الصهيونية العمالية مهيمنة على إسرائيل حتى وقع الزلزال الأول عام 1976، حين أسفرت انتخابات الكنيسيت عن فوز الليكود (أي القوميين) بالأغلبية، مفتتحًا عصرًا من هيمنة اليمين الإسرائيلي على الحياة السياسية للبلاد، باستثناء سنوات قليلة بزغ فيها نجم اسحق رابين (الصهيوني العمالي) قبل اغتياله، وحاول فيها إيهود باراك استنساخ رابين، فيما حاول آرييل شارون إيجاد طريق ثالث بين اليمين القومي واليسار العمالي، ولكن دون قدرة علي حفر مجرى رئيسي متصل التدفق.
السبب الذي يتفق عليه الجميع لاطراد هيمنة اليمين في إسرائيل هو تغير التركيبة السكانية من جراء تزايد أعداد اليهود الشرقيين، خاصة من المغرب واليمن وإثيوبيا ثم العراق وإيران، لكن الأهم هو طفرة الهجرة من روسيا ومحيطها الأوروبي والآسيوي، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فهؤلاء جميعًا، أو غالبيتهم الساحقة جاءوا مشبعين أصلًا بالتعصب القومي أو الديني، بسبب خبراتهم السلبية، وتهميشهم في المجتمعات الديكتاتورية غير المتسامحة، التي جاءوا منها، فشكلوا قاعدة تصويتية صلبة لليمين بشقيه القومي والديني، بل وأرضًا خصبة لتكوين أحزاب جديدة علي يمين الليكود والأحزاب الدينية الأقدم، خاصة وأن معدل المواليد في عائلاتهم يصل أحيانًا إلي عشرة أضعاف المواليد في عائلات الإسرائيليين الأقدم هجرة، فمثلًا اختفى تقريبًا الحزب القومي الديني الاشكنازي (المفدال) وأجودات إسرائيل وتوالد شاس، والصهيونية الدينية والقوة اليهودية الخ..
وبدلًا من يوسف بورج زعيم المفدال المحنك البراجماتي، ظهر بن غفير وسموتريتش المتعصبان دينيًا، والمتهوران سياسيًا حد الصفاقة، كما سمعنا أحدهما يدعو إلى محو قرية فلسطينية من الوجود، ويزعم عدم وجود شعب فليسطيني أصلًا، فهي إذن كلها أحزاب دينية أرثوذوكسية بالغة التطرف، وقد حازت في انتخابات الكنيسيت الأخيرة أكثر من 30% من الأصوات، لتصبح القوة الثانية في الائتلاف الحاكم، لكنها في حقيقة الأمر هي المتحكمة في مصير الائتلاف، وفي كل شؤون الدولة، بعد أن حرق نيتانياهو جسوره مع كل القوى الأخرى، بلا استثناء، مقابل أن يعود إلى رئاسة الحكومة، وهنا وقع الزلزال الثاني في التاريخ السياسي لإسرائيل، وبمعنى آخر انفجر الصراع علي “روح “ إسرائيل، كيف ولماذا؟.
اتفقت مصلحة نتنياهو السياسية الخاصة مع مصلحة تلك الأحزاب الدينية علي تقليص دور المحكمة العليا في الحياة الدستورية والسياسية للبلاد، تحت مسمى الإصلاح القضائي الشامل، وقدمت مشروعات القوانين الرامية إلى ذلك فورًا إلى الكنيست، مع الثقة الكاملة مقدمًا في تمريرها بحكم حيازة أغلبية مريحة، وقد صدر بعضها بالفعل، كما أجيز البعض الآخر من اللجان المختصة، أو في القراءة الأولي، أو الثانية، وهي كلها تتجه إلى تغيير طريقة اختيار قضاة المحكمة العليا، بحيث توضع سلطة الاختيار في يد أغلبية الكنيست، أي الحكومة، ومن ثم رئيسها بوصفه زعيم الحزب صاحب الأغلبية، كما تتجه إلى تحصين منصب رئيس الوزراء من العزل أو الإيقاف بأحكام أو أوامر قضائية، بدعوى أنه منتخب من الشعب، فضلًا عن إبطال حق المحكمة في رفض تعيين وزراء سبق اتهامهم، ولكنهم لم يسجنوا مقابل اعترافهم بالجرم.
من المفهوم أن مصلحة نيتانياهو هي إنقاذ منصبه ومستقبله السياسي في ضوء الاتهامات الموجهة إليه رسميًا بجرائم ومخالفات مالية، وإساءة استخدام نفوذ وسلطات المنصب، ومثله في ذلك زعيم حزب شاس آريه درعي.
لكن ماهي مصلحة الأحزاب الدينية هنا؟
إنها مصلحة فئوية إيديولوجية في المقام الأول، إذ أن المحكمة العليا الإسرائيلية هي القلعة الوحيدة الباقية في أيدي العلمانيين الإسرائيليين، وكان إبطالها عام 2017 للتسوية التي عقدتها حكومة نتنياهو مع الأحزاب الدينية لاستمرار إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية، سببًا في تأجيج عداوة ضارية ضدها من تلك الأحزاب، التي تعهدت لناخبيها بتفريغ هذه المحكمة من تكوينها العلماني، وفلسفتها المناوئة للتوراة، وذلك استعدادًا لفرض أجندتها الدينية والسياسية علي الدولة والمجتمع، عندما تلوح الفرص تباعًا، وذلك كفرض تقديس السبت اليهودي بتوقف كل إسرائيلي عن العمل، وكذلك توقف كل مظاهر الحياة، والفصل بين الجنسين في كل المحافل الممولة من الخزانة، وعدم إلزام الطبيب المتدين بعلاج غير اليهود وغير المتدينين بما يخالف ضميره، وحق المستوطنين في القتل الوقائي للفلسطينيين، دون إذن مسبق من السلطات.. إلخ.
ثم عدم تطبيق حقوق المواطنة على غير اليهود، وضم الضفة الغربية دون منح الفلسطينيين حقوق التصويت والترشح، وبناء الهيكل الثالث علي أنقاض المسجد الأقصى.. إلخ.
هذه الصبغة الدينية المصادرة بل المحتقرة للحريات الفردية، وهذه العنصرية المعلنة تجاه الفلسطينيين، وهذه العودة إلى حقبة ماقبل الدولة، أي حقبة الميليشيات، مع حرمان المحكمة العليا من النظر في اتفاقها من عدمه مع القانون الأساسي، أي الدستور، بل وتسييس هذه المحكمة، بحيث تصبح تابعًا للسلطتين التنفيذية والتشريعية، هو ما يقول معارضو الائتلاف الحاكم حاليًا في إسرائيل أنه اغتيال لروح إسرائيل الديمقراطية العلمانية، واغتيال لروح الصهيونية كحركة تحرر قومي يهودي (من وجهة نظرهم طبعا )، وأنها إعلان حرب على الفلسطينيين، وإعلان للقطيعة مع القيم الديمقراطية والإنسانية عالمية النطاق والطابع، وهي القيم التي يقولون أنها الرابط الرئيسي بين إسرائيل وبين الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا يمكن لإسرائيل ضمان مستقبلها دون حمايتها.
بهذا المعنى، وبدور عالمي وعربي متزن لا يقدم أية تنازلات للحكومة الحالية في إسرائيل، يمكن أن تسفر المعركة الحالية عن نتائج أقل خطورة على الفلسطينيين، وعلى الإقليم، وعلى العالم، علمًا بأن هذه الأدوار المتزنة قد تسهم في إعلان وتوسيع الانشقاق المكتوم داخل الليكود نفورًا من ابتزاز الأحزاب الدينية، ومن خضوع زعيم الحزب المهين لها، فتفقد الحكومة أغلبيتها، ويعاد رسم الخريطة السياسية، وفي الغالب ينتهي دور نتنياهو السياسي إلى الأبد.
وبصراحة ليس هذا وقت القول إن كل الصهاينة وكل الإسرائيليين سواء، وأن الحديث عن أهمية القيم الديمقراطية في العلاقات الإسرائيلية الأمريكية هراء، إلى آخر تلك الكليشيهات التي اعتدنا ترديدها، دون طائل، والتي تثبت عجزنا، بأكثر ما تثبت قلة فهمنا.