الدكتور محمد عمارة الذي مرت ذكرى رحيله الثالثة نهاية الشهر الماضي، ليس استثناءً من الراحلين الذين شغلوا الرأي العام في حياتهم حتى إذا ما رحلوا انقسم الناس فيهم إلى فريقين، بعضهم يرفعونه إلى صفوف الملائكة، وآخرون يصنفونه ضمن كتائب الشياطين.

ودائمًا هناك فئة قليلة تحاول ـ على استحياء ـ أن يعيدوا الأمر إلى نصابه الصحيح، يرون في الرجل رأيًا وسطًا بين هذا وذاك، يحاولون أن يدرسوا رحلة التحولات الفكرية الكبرى في حياة المفكر الكبير، لكن أصوات هذا النفر القليل تذهب سُدى، يطويها النسيان، أو يجنبها النكران في حمأة حالات الاستقطاب المرذول.

**

الدكتور عمارة ليس بدعًا من المفكرين، بل هو أحد أبرز النماذج ضمن ظاهرة التحولات الفكرية الجذرية في معتقداتهم وتوجهاتهم الفكرية وفى مواقفهم السياسية، وهبه أبوه للأزهر صغيرًا، ثم صار ماركسيًا في بداية شبابه، وخاض محنة السجن لسنوات، خرج لينفتح على الفكر القومي، واستقرت به محطته الأخيرة كواحد من أهم وأبرز كتاب ومفكري التيار الإسلامي.

ليس وحده في الظاهرة التي ضمت إليه شخصيات ومفكرين بحجم وقيمة كل من المستشار طارق البشري، والدكتور عبد الوهاب المسيري الذي كان يصف نفسه بأنه “ماركسي على سنة الله ورسوله”، والأستاذ عادل حسين الذي كانت له تجربة لها خصوصية تميزه وقد حاول أن يخرج من عزلة أبراج المثقفين العاجية، وينخرط في تجربة حزب العمل متحالفًا مع الإسلاميين، تحت لافتة التيار القومي الإسلامي، ومن بينهم كذلك الأستاذ منير شفيق المفكر الفلسطيني، وغير هؤلاء كثيرين آخرين.

وقد يكون من نافلة القول بأن ظاهرة التحولات الفكرية الكبرى لا تقتصر على الفكر العربي ولا يحتكرها رموزه، بل هي على الحقيقة ظاهرة فكرية عالمية، ولم تقتصر بطبيعة الحال على المفكرين العرب، بل تكررت على المستوى العالمي، والنماذج فيها قامات فكرية كانت قادرة على دخول غمار المراجعات بشجاعة يحسدون عليها، فانتقلت إلى مسارات متعددة، وتحولت إلى مواقع مختلفة بكل ما فيها ومن فيها من جمهور ورفاق طريق مختلفين.

**

مسيرة الدكتور عمارة الفكرية هي على الحقيقة مسار حفل بالتحولات الكبرى، وهي ـ في نظري ـ جاءت طبيعية لشابٍ تفتقت بواكير وعيه على قضايا كبرى وتحولات عميقة التأثير في الواقع من حوله، وهكذا هي غالبية التحولات الفكرية الكبرى، عادة ما تكون مقترنة بأحداث وتغيرات كبرى.

عاصر الدكتور عمارة مع جيله ما جرى تحت مسمى «النكبة العربية» في فلسطين، ثم عايش وقائع التغيير الكبير الذي جرى في الواقع المصري بعد قيام ثورة 23 يوليو سنة 1952، وهو بين هذا وذاك شهد تنامي وازدهار الأفكار اليسارية في المجتمع المصري، على الأقل على المستوى النخبوي، وكانت المظالم الاجتماعية التي تسود القطر المصري تزعج كل أصحاب الضمائر الحرة، وصارت الأفكار الاشتراكية هي الملجأ لكل هؤلاء الذين يؤرقهم كل هذا الظلم، بينما يتطلعون بشغفٍ وشوقٍ إلى تحقيق الحرية والاستقلال والعدل الاجتماعي.

أما على المستوي الخاص كانت ظروف النشأة ومسيرة التحولات عند محمد عمارة لها أسبابها ومبرراتها ودوافعها كذلك.

**

هو ابن «الأزهر» تعليمًا أساسيًا، أسماه والده تيمنًا على اسم نبي الإسلام، وكما هي عادة الأسر المستورة وهبه أبوه في طفولته للأزهر الشريف، وأوقف عليه ما يساعده في استكمال مسيرته التعليمية، فوضع ابنه منذ الميلاد على سكة الالتزام الديني، وعلى طريق الدراسة الأزهرية، فحفظ القرآن الكريم في كُّتاب قريته، ثم التحق بالمعهد الأحمدي الأزهري بطنطا.

في وقت مبكر جدًا تفتحت اهتماماته الوطنية والعربية والإسلامية وهو صغير، وانضم عمارة إلى حزب «مصر الفتاة» وكرس نشاطه دفاعًا عن العروبة ومحاربة الاستعمار، ثم انضوى عام 1949 تحت لافتة «الحزب الاشتراكي»، وكان أول مقال نشرته له صحيفة «مصر الفتاة» بعنوان «جهاد عن فلسطين».

ثم هو ابن «دار العلوم» ذائعة الصيت في الدراسة الجديدة لعلوم اللغة والدين التي أنشأها «علي مبارك» ليتلقى فيها الطلاب العلوم الكونية التي لا تتيسر دراستها في الأزهر، بالإضافة إلى العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية.

**

وبعد ثورة 23 يوليو التي أطاحت بالملكية في مصر، وبدأت مسيرة إقامة العدالة الاجتماعية، انخرط عمارة في التيار اليساري الذي ناضل في صفوفه نحو عقد من الزمن، انتهى إلى فصله من الجامعة، وقادته مواقفه وأفكاره في تلك المرحلة إلى السجن في عام 1959.

وتأخر بسبب ذلك حصوله على الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية الذي حصل عليه في عام (1965) من كلية دار العلوم، وقد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره.

ثم حصل منها بعد خمس سنوات على الماجستير (1970)، وبعد خمس سنوات أخرى حصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة إسلامية (1975).

**

ثم هو ابن مرحلة اعتناق الفكر اليساري (الماركسي) والتي سُجن بسببها، واستغل عمارة فترة سجنه، التي ناهزت ست سنوات (1959 ـ 1965)، في الكتابة، فألف أربعة كتب كانت بمثابة إرهاصات لتحول فكري جديد، وانتهى به المطاف إلى مغادرة دائرة الفكر الماركسي، وانتقل منها إلى اعتقاد «المعتزلة»، ثم حط به الركب في نهاية الرحلة في رحاب «الوسطية الإسلامية» بفهمٍ خاص يتمثل فيه الدكتور عمارة كلَّ تأثيرات تلك المراحل من رحلته الفكرية الذاخرة.

وقد حادثته مرة تلفونيًا لأستطلع رأيه حول قضية مثارة وقتها، وبدا لي أنه ما زال معجبًا بقدرات بعض الشباب الذين يتبون فكرًا يساريًا ممن يتصلون به للحوار حول ما كان يثيره من قضايا وما يدخل فيه من سجالات، وذكر لي أن هؤلاء يأتون إليه وذهنهم حاضر، وموضوعهم واضح بين أعينهم، منفتحون على المناقشة الجادة، وعقولهم تعمل طول الوقت، ثم قال بحسرة: أما «إخوانا» فيغلقون عقولهم، وقدرتهم على الاستيعاب في حدودها الدنيا أغلب الوقت.

**

في سيرة حياة كثير من المفكرين تحولات فكرية خاضوا غمارها للعبور إلى الضفة الأخرى، بعضهم جاء من الشك إلى اليقين، والبعض الآخر نزع يقينه، وسلك دروب المشي من الشيء إلى نقيضه.

الدكتور محمد عمارة واحد من هؤلاء أصحاب رحلة فكرية طويلة، وهو رجل التحولات الفكرية الكبرى، وهو صاحب مشروع فكري تتجاوب في أركانه كل أصداء المنابع الفكرية التي ارتشف منها معارفه الأساسية.

عن نفسي – وقد جرى لي بعض ما جرى مع كثير من المفكرين والكتاب من تحولات على المستوى الفكري، كان كل تحول يأخذهم من تيار فكري إلى آخر، ويضيف إلى معارفهم الكثير مما لا يتعرف عليه الذين تقوقعوا في خنادق فكرية مغلقة ـ أستطيع أن أفهم وأتفهم دوافع تلك التحولات الكبرى.

ويمكنني أن أرصد عن كثب تلك المؤثرات الباقية من كل مرحلة على عقلية ومنهجية وطريقة تفكير أصحاب هذه التحولات، خاصة أولئك الذين بدأوا حياتهم بالتزام ديني، وتحولوا منه إلى الفكر الماركسي واليساري عمومًا، ثم العودة مجددًا إلى فكر ديني جديد، هو ـ بالتأكيد ـ نتاج تلك الرحلة الفكرية، بكل ما فيها من تحولات قد تبدو لدى الآخرين متناقضة، ولا يمكن الجمع بينها تحت سقف فكري واحدة.

**

الدكتور عمارة نفسه يرصد ظاهرة التحولات الفكرية لدى بعض المفكرين وهو يتحدث عن الراحل الكبير الأستاذ «خالد محمد خالد» الذي اعتبره فارسًا من فرسان الكلمة الإسلامية، ورأى أن فروسيته تعني الجرأة في استخدام ملكة العقل والتفكير، وفتح الأبواب التي أغلقها أهل الجمود والتقليد، كما أنها الشجاعة في مراجعة الفكر ونقد المقولات التي تبين له خطؤها، وهذه فضيلة من فضائل العلماء الذين يستحقون بحق وصف العلماء.

كان الأستاذ خالد قد أثار في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات جدلا كبيرًا بسبب كتابه «من هنا نبدأ»، ثم راجع هذا الكتاب، ورجع عن بعض ما جاء فيه، وأثبت ذلك في كتابه «الدولة في الإسلام»، ويصف الدكتور عمارة هذا التحول بأنه موقف من المواقف الشجاعة التي تسلكه في عداد مفكرين كثيرين امتلكوا هذه الشجاعة، مثل محمد حسين هيكل باشا، ومنصور فهمي باشا، وغيرهم من الذين لم يقفوا بجمود وعجز عند مرحلة الانبهار بفكر معين، وإنما كانت شجاعتهم وقدرتهم على التجديد، وامتلاكهم لإبداع التجديد دوافعَ لمراجعة الفكر، لأن الإنسان المسلم هو دائما أوَّاب، وهذا من فضائل المؤمنين، وخاصة إذا كانوا من أهل الفكر.

وفي نفس المقال (نشر في جريدة أخبار اليوم، بتاريخ 8 مارس 1996) يقول الدكتور عمارة وكأنه يتحدث عن نفسه: «خالد محمد خالد يمثل تجسيدًا للربط بين الانتماء إلى الإسلام، وحب الوطن والإيمان بالدور الرائد والقائد لمصر في محيطها العربي والإسلامي، كما يمثل شجاعة المدرك لقيمة الحرية في الحياة الفكرية والسياسية، ولمكانة العلم والعلماء في مواجهة الحكام والأمراء، إنه رحمه الله يمثل الكثير في هذا الميدان».

**

وقد لعب الدكتور محمد عمارة واحدًا من أدواره التي جلبت إليه مناصرين كثيرين، كما أججت ضده عداوات من كثيرين، وكانت قدراته وملكاته الفكرية مع فصاحته المشهودة وقوة حجته، وراء دخوله في الكثير من السجالات مع العلمانية والعلمانيين، وقد نفعه فيها ماضيه اليساري، ونزعته الحجاجية التي تعلمها في مدرسة المعتزلة الفكرية.

البعض ما يزال يتوقف عند سجالات الدكتور عمارة، وبعضها سجالات ما كان يجب أن تقع، لكن الغريب أن يجتمع الفريقان، الجمهور الذي معه، والآخر الذي ضده، ويجمعون على اختصاره في جداله مع الكنيسة، فيتشيع لرأيه طرف، ويشنع عليه طرف آخر، لنفس السبب، مع أن مثل هذه السجالات لم تكن هي لًب مشروعه، ولا هي مضمونه، ولا من أهدافه، ولم يفطن الفريقان إلى جوهر ذلك المشروع، الذي يجب أن يقوم عليه الانحياز أو الافتراق.

**

من الذين يحاولون شيطنته ـ وبعض هؤلاء للأسف من دعاة التنوير ـ يرون فيه سلفيًا متخفيًا أو مرتديًا لرداء يخفي تلك الرجعية في فكره، يقولون هذا رغم أن السلفية والوهابية ترى فيه انحرافًا عن المنهج وابتعادًا عن صحيح الفكر والدين في نظرهم، ويخالفونه الرأي في نظرته إلى الأدوار التنويرية التي قام بها كل من جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وقبلهم رفاعه الطهطاوي، وهم جميعًا في خانة من خانوا الإسلام واتبعوا الغرب وحادوا عن جادة الطريق  ـ حسب فهم السلفية والوهابية ومن لفَّ لفهم ـ ولو تقرأ كتبهم، أو تطالع مواقعهم، لرأيت العجب العجاب في أقوالهم ونظرتهم إلى الطهطاوي، والأفغاني، وعبده،(الذين جمع الدكتور عماره أعمالهم الكاملة في مجلدات خالدة)، يصل عند البعض من السلفية والوهابية إلى الطعن في عقائدهم، ويجمع الجميع على تبعيتهم الفكرية للغرب، ويتهمونهم جميعًا بالانخراط في الجماعات الماسونية.!

وبعضهم ما يزالون أسرى للفترة التي انحاز خلالها الدكتور عمارة إلى فكر المعتزلة، وألف خلالها العديد من الكتب، وكتب الكثير من المقالات، وعندي أن هؤلاء وأولئك يختصرون مسيرة الرجل في بعض مراحلها ولا ينظرون إليها في سيرورتها ومسارها.

**

رغم أنني ممن يقدرون مشروع الدكتور عمارة الفكري، وأراه جديرًا بالدرس بالاختلاف معه قبل الاتفاق عليه، إلا أنني أسلم بأن إنتاجه وكتاباته في الفترة الأخيرة من حياته لم تكن موفقة، وكثير منها يفتقد العمق الذي امتاز به طول حياته الفكرية، كما غابت عنه تلك الأصالة الفكرية التي تميزت بها كتاباته الأولى.

تلك الفترة التي شهدت تحولًا نحو المزيد من السلفنة، ودفعت به إلى أن يضع موضوع التشيع على رأس أولوياته، كما جعل الأقباط في مصر هدفًا لبعض كتاباته.

ورغم ذلك فإني أجازف بالقول بأن أفضل من قرأوا مشروع عمارة الفكري هم بعض السلفية الذين ناقضوه في كل أسس هذا المشروع، وقدموا نقدًا (ساذجًا) لأصول هذا المشروع ومنطلقاته، يصورون الدكتور عمارة على أنه: «رأس من رؤوس المدرسة العقلية الحديثة، عصراني يقول بعدم كفر اليهود والنصارى، ويمجِّد المعتزلة، ويثني على المبتدعة، ويمدح ثورة الزنج والفاطميين، ويدعو إِلى التقريب بين الشيعة والسنة، ووحدة الأديان، والوطنية، والقومية وجهاد الدفع فقط دون جهاد الطلب».

نواصل الأسبوع المقبل مع (عمارة والسلفيون والتنويريون الجدد).