انتشرت بعض الدعاية على مواقع التواصل الاجتماعي، تسخر من عدد من المسلسلات التي تم إنتاجها هذا العام، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن المصري. “نحن لن نأكل المسلسلات” كان هذا هو فحوى أغلب ما تم نشره حول الموضوع.
لا أتفق بأي درجة مع هذا الاتجاه في المزايدة. بالتأكيد الطعام مهم، والمصريون يحتاجون إلى اهتمام خاص بالأمن الغذائي، ولكن لا مانع من أن يترافق ذلك مع استمرار دور الدولة في دعم صناعة من أهم أدوات التأثير المصري في المحيط العربي.
كل من قابلتهم من الدول العربية المجاورة، كان لديهم اهتمام شديد بالدراما المصرية، وقد شكلت حكايات الدراما أغلب أفكارهم عن مصر، وجانب كبير من حبهم للشعب المصري. كل المواطنين العرب يفهمون اللهجة المصرية، وأحيانًا يتقنون التحدث وحتى التغني بها.
أثر الدراما المصرية خلال العقود الماضية، لا يمكن أن يقدر بثمن، والاستثمار فيها لا يقل أهمية عن أي استثمار استراتيجي، الدولة مسئولة عن توفيره، ولا يصح مقارنته بالإنفاق على الاحتياجات الأساسية من طعام وخلافه.
يحب بعض المثقفين استخدام مصطلح “القوة الناعمة”، للتعبير عن أهمية الفن والثقافة في حياة الشعوب، والفنون المصرية كانت من أبرز مظاهر تجلي ذلك التعريف، وقد قامت بدورها في زرع محبة المصريين داخل محيطهم، بشكل لم تكن السياسة أبدًا قادرة على صنعه.
لا أختلف أبدًا على أن مصر لديها الأدوات والمقومات لإعادة لعب أدوار أكثر تأثيرًا في المحيط الإقليمي والدولي، ما ينقصنا حقيقة هو المشروع الجامع، الأفكار العامة التي نستهدف بثها من خلال أدوات التأثير تلك.
المشروع الوطني هو آفة النظام الحالي الرئيسية، حيث غياب الرؤية العامة هو سبب تضارب المواقف السياسية والاقتصادية. أزمة المواطنين الحقيقية مع السلطة حاليًا، هي عدم فهمهم لما يحدث من مشروعات تنموية، رغم تكرار الحديث عن “الإنجازات” في كل لحظة، ولكن الهدف العام من تلك المشروعات، الرابط الخفي الذي يجمع بين تحركات الدولة داخليًا وخارجيًا، خطابها السياسي والإعلامي، ما الذي تريده مصر من نفسها ومن العالم؟
يتخوف البعض حاليًا من المنافسة الشرسة، بين مصر وباقي اللاعبين الإقليميين، حيث توسعت الأدوار التي تلعبها دول مثل إيران وتركيا وإسرائيل في المنطقة، وحتى المنافسة مع حلفائنا في الخليج، مثل السعودية والإمارات وقطر.
تعتمد تركيا في استخدامها لأدوات التأثير حولها، على تاريخ الخلافة العثمانية، ودعم من تيارات الإسلام السياسي المأسورة بعودة الخلافة وسيادة الشرع، تجلت تلك الرؤية في الخطابات السياسية لحكام تركيا، والخطاب الإعلامي لأدواتها الناطقة، وإنتاج أعمال فنية حول رموز الدولة العثمانية، بالإضافة إلى استضافة عدد من رموز التيار الإسلامي عمومًا وجماعة الإخوان على وجه التحديد. ونتيجة لذلك توسع التأثير التركي في دول مثل مصر وسوريا وتونس.
على الجانب الآخر تستخدم إيران المذهب الشيعي ضمن مشروعها الوطني؛ الخطاب الديني الشيعي هو أبرز أدوات دولة الملالي تأثيرًا، وقد سخرت الدولة كل جهودها ومواردها لخدمة ذلك المشروع الديني، وقد تحقق لإيران نفوذ حقيقي لدى أغلب الشيعة العرب، خاصة مع ما يلاقيه الشيعة داخل الدول العربية، من خطاب طائفي وتضييق أمني شديد على ممارسة طقوسهم الدينية.
تعتمد دولة الإمارات على الدور التنويري العلماني للتأثير في محيطها، ورغم وقوع الدولة في محيط خليجي شديد الحساسية، إلا أن حكام الإمارات استطاعوا أن يقطعوا شوطًا كبيرًا في تغيير الصورة النمطية عن شعوب الخليج، فقد أصبحت دبي من أبرز المزارات السياحية في العالم، وفتحت أذرعها لأبرز أعمال الترجمة والنشر، إضافة إلى الفن.
ظلت المملكة السعودية منارة السلفية في المنطقة والعالم، واعتمدت الرياض على المذهب الوهابي كمشروع يضمن لها عمق التأثير في جموع المسلمين السنة، وقد أنفقت السعودية أموالًا طائلة، وأصبح دعاة السلفية في كل مجتمع إسلامي. تحاول المملكة الآن إعادة ضبط بوصلتها واستبدال المشروع الوهابي، بمشروع لم تتحدد ملامحه بعد، ولكن يبدو أنه أقرب إلى المشروع الإماراتي، بالرغم من الإرث الرجعي للمملكة وحكامها، ولكن تحاول المملكة توجيه “أموال المشايخ” إلى هيئة الترفيه، لصناعة بديل لمشروع المد السلفي.
تتعامل قطر مع مؤسستها الإعلامية باعتبارها الذراع الأهم لدولة من أصغر دول المنطقة وأقلها سكانًا، حيث تعمل قناة الجزيرة كسيف ودرع لحكومة الدوحة، وتحقق القناة تأثيرًا حقيقيًا لقطر في عدد من دول المنطقة، خاصة مع اهتمامها بجمهور التيار الإسلامي المعادي للحكومات في عدد من دول المنطقة. وتعتبر قطر المثال الأبرز لأهمية أدوات التأثير ضمن المشروع الوطني، فالدولة التي لا تملك سوى مؤسسة إعلامية ضخمة، قادرة على وضع نفسها في سباق التنافس الإقليمي الحالي.
تستخدم إسرائيل أدوات النفوذ الدولية وحكومات العالم الغربي، لفرض دورها الإقليمي على المنطقة، ولعبت الولايات المتحدة دورًا كبيرًا في الضغط على الحكومات العربية، للتطبيع مع تل أبيب مقابل اشتراطات سياسية واقتصادية، وهو ما نتج عنه اتفاقات “إبراهيم” خلال الأعوام الماضية، بالإضافة إلى عدد من الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي باللغة العربية، والتي تستهدف زيادة مناطق التأثير الإسرائيلي في الجيران.
أنفقت الدولة المصرية مليارات الجنيهات خلال العقد الماضي، بهدف تنمية الدور الإعلامي وإحكام السيطرة على الأدوات الإعلامية الداخلية، ولكن يبدو أن التأثير الخارجي لم يعد في أولويات النظام الحالية، فما يظهر حتى الآن، أن المشروع الوطني الحالي –إن وجد– هو شديد التمركز داخليًا، وتنحصر رؤية النظام لدور الدولة المصرية، في الحفاظ على الاستقرار وحماية الدولة من ثورة جديدة، والتوسع في مشروعات البنية التحتية.
وعلى ذلك فقد تمحور الخطاب الثقافي والفني والإعلامي المصري خلال السنوات الماضية، بين الترويج للإنجازات الحكومية، وحكاية دور الدولة في القضاء على الإرهاب. ما يبدو منه ضيق النظرة على القطر المصري فقط باعتباره الجمهور المستهدف.
لا نملك أموالًا تجعلنا ننافس جيراننا في الإنفاق على أدوات التأثير الخارجي، ولا نعتمد مذهبًا أو مرجعية نستخدمها لزيادة النفوذ، كل ما كنا نملكه في الماضي واعتمدنا عليه ولم يخذلنا هو “الفكر”.
الوعي بهمومنا وهموم أمتنا، إدراك ما نسعى إليه وما نرغب في تحقيقه، فتح المساحة لأصحاب الكفاءة في التعبير عن المنطقة دون تدخل من التنفيذيين.
نتمنى أن نعيد النظر في دورنا الإقليمي، والاهتمام بالمنافسة التي يبدو أننا أهملناها، اعتمادًا على تاريخ قديم لم يعد وحده كاف.