في مقالاته التي كان قد بدأ بكتابتها في نهاية سبعينات القرن الماضي ثم جمعها في كتابه صغير الحجم عظيم القيمة “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المُعاصرة” الصادر في 1986، قرر الدكتور فؤاد زكريا المواجهة أو السباحة ضد التيار كما أسماها، فكان تأسيس تلك المواجهة مَبْني على نقد للرؤى والممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمكونات حركة الإسلام السياسي، وهو بالتالي لم يكن نقدًا لركائز الإسلام الروحية كدين، حيث كان الدكتور فؤاد حريصًا على التمييز بين الدين في ذاته وما يحمله من مُثُل ومبادئ سامية وبين تفسيره الأصولي الذي اختارت حركة الإسلام السياسي تَبنيه دون تفسيرات أخرى في مجتمع تَغْلُب عليه النَزعة الدينية المُحَافِظة في كثير من الأحيان والمُتَحفِظة في أحيان أخرى، وقد كانت تلك النزعة هي الركن الأساسي الذي ارتكزت عليه عملية ترويج خطاب حركة الإسلام السياسي كبديل للخطاب القومي الذي انهار على وقع كارثة 1967.

ولكي نضع يدنا على الحقيقة التاريخية لأجل بحثها والتعرف على أسبابها بغرض تلافيها، فلا بد لنا من ضبط بعض المصطلحات حتى لا يأخذ البحث مسارًا مُضَللًا (بِفَتح اللام الأولى أو بِكَسْرها)، ولذا فلعل القارئ الكريم قد لاحظ أنني استخدمت مصطلح “الأصولي” (وهو نفس المصطلح الذي استخدمه الدكتور فؤاد) في وصف عملية التفسير تلك ولم أستخدم مصطلح “المُتشدد” كما يرى بعض الباحثين، فأظن أن وصف “الأصولي” هو الأكثر تعمقًا في تشخيص حال خطاب مكونات الحركة الإسلامية منذ سبعينات القرن الماضي حيث أن تشدد هذا الخطاب الظاهر لم يأت إلا نتيجة كونه أصوليًا.

ولمزيد من ضبط المصطلحات وإيضاحها، يهمنى التفرقة بين ما هو “أصولي” Fundamental وما هو “أصيل” Authentic، إذ أدى التقارب اللفظي بين المصطلحين في العربية الفصحى إلى خلط في مدلوليهما استُغِل لأغراض دعم خطاب حركة الإسلام السياسي، فالأصولية ليست سوى العودة إلى ما يعتبره البعض أساسًا لتأكيد الهوية الثقافية بما يشمله ذلك من نوستالجيا ترى في الماضى المختلف بالكلية في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، نموذجًا ينبغي السعي إليه بحَرفِيَته وبنفس مقوماته وأبجديات عصره بل وبملامحه الخاصة المرتبطه ببيئته الجغرافية -كالزي على سبيل المثال- ما آل بنا إلى مستوى من الجمود الفكري حين تقدم الآخرون، بينما توقفنا نحن منذ منتصف القرن الرابع عشر الميلادي فازدادت الهوة اتساعًا يومًا وراء يوم.

كانت أصولية مجتمعاتنا -إذن- هي البيئة الخصبة التي نمت في كنفها أفكار التشدد البائسة التي تطورت من مجرد مناقشة مسائل حُسمت منذ قرون من قبيل كروية الأرض إلى تبرير ممارسات ما أنزل الله بها من سلطان كما تفعل بعض جماعات الإرهاب حاليًا من قتل وسفك للدماء بل وتدمير للآثار باسم الدين.

أو كما يقول الدكتور فؤاد زكريا: “إن القضية المُتنازع عليها قضية أمة بأسرها، ومن ثم فهي من القضايا التي لا تكفي فيها القرارات الإدارية أو الأحكام القضائية، بل إنها إذا لم تحسم داخل عقول الناس أولًا وقبل كل شيء فسوف تعود إلى الاشتعال مرة بعد مرة، وقد يصبح اشتعالها في المرات القادمة أخطر بكثير.”(1)

التزامًا من الدكتور فؤاد زكريا بمنهجه العلمي الصارم القائم على قراءة وتحليل موضوعيين للواقع والتاريخ، لم يتوقف تقييمه لخطاب حركة الإسلام السياسي عند حدود “الظاهرة”، لكنه امتد إلى ما هو أعمق من ذلك حيث قام بتبديد وهم هذا الخطاب من خلال النفاذ إلى جوهره وإجراء عملية تفكيك موضوعية للبنية الفكرية التي أُسِسَ عليها.

تناول الدكتور فؤاد زكريا في نقده لخطاب حركة الإسلام السياسي حسبما أورده بكتاب “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المُعاصرة”، تقييمًا “للظرف العام” أي المناخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذى كان سائدًا في ذلك الوقت، وأثره المُتبادل على “شكل” و”جوهر” خطاب حركة الإسلام السياسي أي ظَاهِرِهِ ومُحتَوَاه. لم تكن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بمصر على ما يُرام بعدما تغيرت معادلة الثروة بالمنطقة العربية بعد حرب 1973 بفعل عوائد النفط الهائلة التي تم استثمار جزء كبير منها في الإنفاق على تطوير البنى التحتية لمجتمعات الجزيرة العربية ما اقتضى استيرادًا لفائض الأيدي العاملة المنضبطة وخفيضة التكلفة والتي تتحدث نفس اللغة من مصر لتنفيذ هذا التطوير الضخم، فكان أغلب هؤلاء العاملين الذين عادوا من الجزيرة سببًا في أن تنتقل إلى مصر ثقافة مجتمع كان بالنسبة لهم هو النموذج الديني المثالي، وليشَكِلوا بذلك ظهيرًا اجتماعيًا ساهم على نحو كبير في دعم مكونات حركة الإسلام السياسي من خلال خلق حالة ثقافية أصولية لاقت رواجًا بالمجتمع في ظل الاضطراب الذي أصاب التركيبة الطبقية وما واكب ذلك من تغيير في نمط الاقتصاد وفلسفة الاستهلاك مع تدني الدخول.

فيما يتعلق بظاهر الخطاب، يمكننا القول بأن مكونات الحركة الإسلامية في ذلك الوقت قد استغلت أدوات ذلك العصر في إيصال خطابها الأصولي على أفضل ما يكون لتحقيق مصالحها من الانتشار والتوغل في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية للمُخَاطبين كانت جاهزة لتلقي مثل هذا الخطاب.

استغلت حركة الإسلام السياسي أدوات ذلك العصر التي يغلب عليها الطابع السَماعي المُباشر البسيط كشرائط الكاسيت والفيديو والتى تلعب فيها شخصية وطريقة أداء من يتولى إيصال هذا الخطاب، الدور الأهم في التأثير على المُخَاطَبين من خلال استخدام مصطلحات عربية سهلة الفهم وأخرى عامية بل وسوقية في بعض الأحيان بما ساعد على انتشار هذا الخطاب بشكلٍ واسع للغاية. كان للمرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي كواحد من أكبر مُمثلي هذا التيار وأوسعهم انتشارًا وأكثرهم شعبية (2) نصيبًا كبيرًا من نقد الدكتور فؤاد زكريا الذي يقول في تحليله لشخصية الشيخ متولي الشعراوي “صفاته الشخصية ساعدت إلى أكبر حد على شغف الناس به وإقبالهم على برامجه وذيوع صيته في كل أرجاء الوطن العربي في أقصر وقت. فلديه شخصية جذابة، وهو يتمتع بحيوية هائلة تتمثل في تلك الحركة الدائمة التي تصاحب كلماته، وتزيد من قوة تأثيرها، والأهم من ذلك تبحره في علوم التفسير والحديث وغيرها من العلوم الفقهية، وذكاءه الحاد وبديهيته اللماحة” ثم يقول مُعقِبًا في تحليل هو الأهم من وجهة نظري: “فهو في أحيان غير قليلة لا يكتفي بمهمة المفسر المتعمق والخطيب الذكي، بل يتقمص شخصية العالم الفلكي، والمفكر الأخلاقي، ورجل السياسة والاقتصاد.

وهنا حين يتجاوز الشيخ حدود موضوعه الأصلي ويخوض ميادين مثيرة للجدل، يكون من حق المرء، بل من واجبه، أن يدخل معه في مواجهة حاسمة”(3). انتقد الدكتور فؤاد زكريا موقف الشيخ متولي الشعراوي من العلم ليقول: “والأمر الملفت للنظر في هذا الحديث هو حرصه الدائم على الإقلال من شأن العقل والعلم الإنساني، واستمتاعه بتأكيد ضعف النظريات العلمية البشرية وتفاهتها. ويصل هذا الموقف إلى ذروته المضحكة المبكية حين يقول الشيخ بتأكيد قاطع، يوافق عليه مريدوه الجالسون أمامه في خشوع، إن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية كلها لا تساوي شيئًا، وأن الإنسان الذي اخترع ورقة الكلينكس أو عود الكبريت قد أفاد البشرية بأكثر مما أفادها ذلك الذي اخترع صاروخًا يصل إلى القمر.”(4)، ثم يتساءل وكأنه يقرأ في كتاب المستقبل: “لمصلحة من يقال هذا الكلام في بلاد تكافح من أجل اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا وتسبق الزمان لكي تأخذ لنفسها مكانًا في عالم يزداد تحكم المعرفة العلمية فيه يومًا بعد يوم؟ وماذا يكون وقع هذه الكلمات على أسماع الأجيال الشابة الجديدة التي تعيش أعداد كبيرة منها في أسر مفتونة بالشيخ ومتقبلة لكل حرف يقوله وكأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ألا يدري الشيخ أن مستقبلنا مرهون بالعلم: بكشف طاقة بديلة عن البترول بعد أن ينفد، وابتكار طرق جديدة لإنتاج الغذاء نحقق به الاكتفاء لأنفسنا ونحمي أبناءنا من الجوع، والوصول إلى أساليب اقتصادية لبناء المساكن وشق الطرق وتعمير المدن؟”(5)

خصص الدكتور فؤاد قسمًا بكتاب “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة” تحت عنوان “جذور العنف” فَنَدَ فيه أفكارًا كثيرة لجماعة الجهاد بشأن عملية اغتيالها للمرحوم الرئيس السادات قال فيه: “إن العنف ليس ظاهرة طارئة على هذه الجماعة المتطرفة، وإنما هو شيء ينتمي إلى تركيبها ذاته، وهو جزء من تكوينها الذهني والنفسي، وهو وسيلتها الوحيدة لتحقيق أهدافها في المجتمع. ولا شك أن العنف يمكن أن يتخذ أحيانًا شكل التضحية بالذات، بطريقة بطولية، ولأسباب لا يمكن أن يقتنع بها أولئك الذين يفكرون بطريقة نقدية متروية.

فما نوع العقلية، أو التركيبة الذهنية للشاب الذي يقوم بمثل هذه الأعمال من أجل أسباب شكلية خالصة ويضحي بحياته في سبيل فتوى عن ابن تيمية بشأن التتار في عصر بعيد وظروف مختلفة كل الاختلاف؟ إن أساس هذه العقلية هو الطاعة المطلقة والشجاعة الفائقة التي تُوَجَّه حسب الاتجاه الذي يُملى عليها، لا الذي تختاره هي بوعيها وفكرها التحليلي”(6).

في تقديري أن مسألة “الطاعة” التي أشار إليها الدكتور فؤاد منذ ما يقرب من أربعة عقود، قد انعكست على الحالة الثقافية العامة للمجتمع برمته فلم تعد قاصرة على كونها أداة يستخدمها قادة جماعات الإسلام السياسي في السيطرة على عقول شبابهم وفقط، بل امتدت كحالة ذهنية أصولية جمعية -إن صح التعبير- سيطروا من خلالها على عقل ومن ثم سلوك الأغلبية ممن أرهقتهم الظروف الاقتصادية فركنوا إلى راحة الاتباع التلقائي بديلًا عن الإطلاع وإعمال العقل فيما يُطرح عليهم من أفكار نابعة من تفاسير وتأويلات من زمان ومكان مختلفين. بمرور السنين، اكتسبت تلك الأفكار والتفاسير والتأويلات الأصولية التي هي في طبيعتها مُنتَجًا بشريًا، ارتبط بظروف حياة مختلفة في زمن مختلف، قداسة حالت دون إخضاعها للنقد الدائم في ضوء متغيرات العصر مما أفضى بمجتمعاتنا إلى حالة من الجمود الفكري ونضوب الإبداع. كنت قد أشرت في واحد من مقالاتي السابقة إلى مثال لتلك الحالة الذهنية الجامدة التي نَمت عبر السنين وتوارثتها الأجيال، حين أصدرت دار الإفتاء المصرية مؤخرًا رأيًا بشأن الفوائد البنكية بعد البحث والدراسة لتُوَاجَه بسيلٍ من الاعتراضات بل وبالهجوم البذيء في بعض الحالات لمجرد أن أفكارًا قد طُرِحت بما يخالف ما رسخ في عقولهم وأفئدتهم من أفكار يقدسونها -حاشا لله- هي وأصحابها.

في مسألة الصحوة الإسلامية، يقول الدكتور فؤاد زكريا: “فالصحوة هي الانعكاس المباشر للهزائم والإحباطات في وعى الناس، وليست “رد فعل” عليها أو محاولة لتجاوزها. وليس الهروب إلى الشعائر الشكلية وإغماض العين عن المشكلات المتجسدة في الحياة الواقعية أو الطاعة المطلقة وإلغاء العقل النقدي، أو العودة إلى الماضي والتغاضي عن ما أتت به قرون عديدة من تحولات وتغيرات- ليس هذا كله سوى “فكر الهزيمة” ذاته، وانعكاس للإحباط العام الذي ولدته على وعي البشر.

فالظاهرة ليست وليدة سخط الأجيال الجديدة على الأوضاع وإخفاق الشباب في التوحد مع السلطة، كما يذهب بعض الباحثين (سعد الدين إبراهيم مثلا) لأن هذه العوامل ذاتها كانت قبل ذلك، وحتى أواسط السبعينات، تولّد لدى الشباب فكرًا يساريًا، بل إن الظاهرة إنما هي تعبير مباشر عن بلوغ الانحطاط الفكري ذروته، وعن وصول النزعة التسلطية بعد ثلاثين عامًا من تزييف الوعى إلى نتيجتها الطبيعية. فنفس الجو العقلي الذى جعل من ثروت أباظة أديب مصر الرسمي، ومن أنيس منصور ومصطفى محمود أهم المفكرين والفلاسفة، ومن أحمد عدوية أكثر الفنانين شعبية، هو الذي جعل من التطرف الديني أوسع الاتجاهات انتشارًا بين الأجيال الجديدة من الشباب”(7).

منح الله الدكتور فؤاد زكريا ثلاثًا وثمانين عامًا من العمر انقضت في 11 مارس 2010، فلم تُتَح له فرصة مُعاينة ومن ثم مراجعة وقياس نتائج دراساته التي قدمها بالربع الأخير من القرن الماضي في نقد حركة الإسلام السياسي على أرض الواقع والتي لو كانت (دراساته النقدية) قد حظيت بما تستحقه من الاستقبال المجتمعي المُنفَتح للفهم والتحليل والاستعداد بتوفير أدوات المواجهة الواجبة والتعامل بمقتضاها بشكل مُبَكِر، ربما لم نكن لنصل للوضع المجتمعي المأزوم الذي أفضى إلى أن تولت حكم مصر، بعد سنتين وثلاث شهور بالضبط من وفاة الدكتور فؤاد زكريا، جماعة وَصَفَها -رحمة الله عليه- بأنها التنظيم الأم والأصل الذي انبثق عنه فكر جماعة الجهاد وغيرها من جماعات الإسلام السياسي المعاصرة(8).

  • الصفحة 123 من كتاب “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة”- دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع- طبعة 1986
  • الصفحة 27 من المصدر السابق
  • الصفحة 29 من المصدر السابق
  • الصفحة 31 من المصدر السابق
  • الصفحة 32 من المصدر السابق
  • الصفحة 110 من المصدر السابق
  • الصفحة 115 من المصدر السابق
  • الصفحة 58 من المصدر السابق