لا يليق بدولة «فقيرة قوي» يعاني أكثر من نصف شعبها من الفقر والعوز، وتحاصرها الديون من كل جانب، وبلغ بها الحال أن تعرض أصولها وشركاتها الرابحة للبيع حتى تتمكن من سداد أقساط تلك الديون، أن تتباهى بافتتاح مسجد بلغت تكلفة إنشائه نحو مليار جنيه.
السلطة التي لم تتوقف عن تحذير الناس من تكرار ما جرى في 25 يناير 2011، باعتباره «أُس الخراب» وسبب البلاء الذي حل على العباد والبلاد، تفاخرت بافتتاح مسجد مصر الكبير في العاصمة الإدارية قبل ساعات من بداية صوم رمضان، وتغنت منصاتها الإعلامية بأن هذا الصرح الديني حطم ثلاثة أرقام قياسية في موسوعة جينيس لـ«أكبر منبر في العالم بارتفاع 16 مترًا، وأثقل نجفة بوزن 50 طنًا، وأكبر نجفة بقطر 22 مترًا».
بناء هذا المسجد وما تبعه من ملحقات داخل المركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة الإدارية والذي سيتم إنشاؤه على مساحة 60 فدان، لا يُصنف إلا تحت باب الإهدار والبذخ والإسراف التي تمارسه حكومتنا الرشيدة دون رقيب أو حسيب من برلمان أو إعلام.
منذ أن استحكمت الأزمة الاقتصادية في مصر إثر اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية تصاعدت الدعاية الحكومية التي تطالب الناس بترشيد الاستهلاك في وقت لا تزال المشروعات الجديدة تحلب ميزانية الدولة ويجري ضخ المليارات على تشطيبها وإتمامها، فقط لأنها صادفت هوى بعض المسؤولين الذين تخيلوا أنهم سيدخلون التاريخ من بوابة المدن والمقرات والأبراج الفارهة.
في مطلع العام الحالي نشرت الحكومة في الجريدة الرسمية قرار بـ«بـ«ترشيد الإنفاق العام بالجهات الداخلة في الموازنة العامة والهيئات الاقتصادية»، وذلك لأن «مصر تمر بأزمة اقتصادية وهو ما يستدعي ترشيد الإنفاق الحكومي في كثير من البنود»، بحسب ما جاء في ديباجة القرار.
البند الخامس في القرار شدد على «تأجيل تنفيذ أي مشروعات جديدة لها مكون دولاري»، فيما لحقته بنود أخرى خاصة بترشيد السفر لخارج البلاد وحظر الصرف على المنح التدريبية واعتمادات الخدمات الاجتماعية والرياضية والترفيهية للعاملين بالحكومة.
وألزمت الحكومة نفسها، بحسب ما جاء في البند السادس، بتأجيل الصرف على أية احتياجات لا تحمل طابع الضرورة القصوى.
القرار جرى الترويج له باعتباره إنذارا من الحكومة لنفسها والتزاما منها أمام الرأي العام بأنها لن تهدر أموال الشعب في أي أوجه صرف يمكن الاستغناء عنها أو تأجيلها، وتعهد بأنها ستعيد ترتيب أولويات إنفاقها لحين المرور من الأزمة الاقتصادية الضاغطة.
تكلفة الحفل الأسطوري ومأدبة السحور الفاخرة التي أقيمت ليلة الأول من رمضان على شرف الضيوف الذين حضروا حفل افتتاح المسجد المهيب الذي لا يتوقع أن يصلي فيه أحد قبل سنوات وحتى يتم تعمير العاصمة الإدارية، فضلا عن تكلفة إنهاء تشطيبات هذا المسجد بملحقاته، تتناقض مع ما جاء في قرار الحكومة بترشيد الإنفاق وتنسف فكرة إعادة ترتيب الأولويات من أساسها، ولو لدينا صحافة وبرلمان لحاسبوا من فكر ونفذ واختار توقيت هذا الحفل في وقت يبحث فيه المواطنون عن زجاجة زيت أو كيلو أرز أو باكو شاي لسد احتياجاتهم الأساسية في الشهر الفضيل.
دفعت السلطة عددا من رجال الأعمال والجمعيات الأهلية إلى تجهيز «كراتين» تحمل المواد الغذائية لتوزيعها على الفقراء والمعوزين فيما عرف بمبادرة «كتف بكتف» والتي تهدف إلى «المساهمة في تخفيف غلاء الأسعار، نتيجة الأزمة الكبيرة التي يمر بها العالم أجمع ومصر أيضا»، بحسب التصريحات الرسمية، وفي ذات الوقت تهدر أموال الشعب في إقامة مساجد لا يحتاجها المصريون، فمعظم المساجد في الأحياء والمدن المعمورة لا تمتلئ بالمصلين إلا في صلوات الجمعة وتراويح شهر رمضان وعدا ذلك لا تكتمل الصفوف داخل أي مسجد، فما بالك بالمساجد في المدن المهجورة.
ما جرى لا يستفز ملايين المواطنين الذين دخل ما يقرب من نصفهم تحت خط الفقر بعدما بلغ معدل التضخم 40%، بل سيفقدنا ثقة الجهات المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي تعهدت الحكومة أمامه بـ«إبطاء وتيرة الاستثمار في المشروعات العامة بما في ذلك المشروعات القومية وذلك للحد من التضخم والحفاظ على العملة الأجنبية»، بحسب ما جاء في خطاب النوايا الذي وجهته الحكومة للصندوق قبل موافقته نهاية العام المنصرم على منح مصر قرضا جديد بقيمة 3 مليارات دولار يتم صرفها على دفعات متتابعة لمدة 46 شهرا مشروطة بتنفيذ إصلاحات هيكلية حاسمة.
ومن جهة أخرى يدفع الإصرار على البذخ حكومات دول الخليج الذي يتم التعامل معهم باعتبارهم «شركاء التنمية» بحسب ما جاء في بيان صندوق النقد الدولي، إلى وقف أي تدفقات مالية سواء في صورة منح أو قروض أو حتى استثمارات.
استمرار العمل في مثل تلك المشروعات سيؤلب بالضرورة دول الخليج على الحكومة المصرية التي حصلت منهم خلال الأعوام الثماني الأخيرة على العديد من المليارات تم تقديرها حسب الأرقام الرسمية بـ 28 مليار دولار.
قررت دول الخليج في نهاية العام الماضي تمديد آجال ودائعها لدى البنك المركزي لـ«دعم الاقتصاد المصري الذي تضرر كثيرا بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية وخروج مليارات الدولارات من أدوات الدين الحكومية، ما أدى إلى شح في العملة الصعبة»، وفق ما جاء في البيان السعودي عندما قررت الرياض تجديد وديعتها لدى مصر في نوفمبر الماضي.
بيان الرياض الذي تحدث عن «الدعم السعودي السخي لتعزيز الاستقرار المصري»، أشار إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد ضخ استثمارات، بمعنى استحواذ جهات سعودية على أصول مملوكة للدولة بديلا عن فكرة الدعم دون مقابل، لكن المملكة ضاق صدرها من طلب الدعم المصري المجاني، ورفع حكامها شعار «لا توجد منح مجانية أخرى»، بحسب ما ألمح وزير المالية السعودي محمد الجدعان عن نوايا حكومته تجاه مصر.
الجدعان قال في يناير الماضي على هامش حضوره مؤتمر دافوس إن بلاده غيّرت طريقتها في تقديم المنح والمساعدات إلى الدول المجاورة، موضحًا أنها ستكون مشروطة بحدوث «إصلاحات»، لافتا إلى أن المملكة ستواصل دعم مصر « ليس بشكل مباشر من خلال المنح والودائع فحسب، بل من خلال الاستثمارات».
وفي إطار حلحة الأزمة بين الرياض والقاهرة عاد الجدعان وأعرب عن عزم بلاده ضخ مزيد من الاستثمارات في مصر خلال الفترة المقبلة، كتأكيد على الإمكانات الواعدة التي تقدمها سوق الاستثمار المصرية.
تصريحات الجدعان التي ألقاها في مؤتمر بالرياض مطلع الشهر الجاري لا تنفي أن هناك ملاحظات سعودية على أداء الاقتصاد المصري، وهو ما عبر عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال افتتاحه المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في أكتوبر الماضي بقوله: «الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم قناعة بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن الدعم والمساندة التي قدموها للبلاد عبر سنوات شكلت ثقافة للاعتماد عليها».
وألمح السيسي خلال حديثه إلى أن البعض كان يرى أن الدعم من هذه الدول هو الحل الأول والأخير للأزمات في مصر، «لما حد يقابل مشكلة يقولك طب ما يسافر، خلاص الناس ساعدت كتير أوي وبقالها سنين بتساعد وأنت مساعدتش نفسك عمرك أبدا ما عودك هيصلب»، في إشارة إلى مطالبة بعض المسئولين له بالسفر لطلب الدعم من دول الخليج.
من شأن إعلان الحكومة عن استمرار إنفاق مواردها على مشروعات من عينة ( المسجد الكبير وأثقل نجفة وأطول مئذنةوالمونوريل والقطار السريع والأبراج الإيقونية ..إلخ) أن يدفع المستثمرين العرب وغيرهم ممن يستهدفون أصولنا إلى العزوف عن ضخ أي استثمارات جديدة في السوق المصرية نظرا للأزمات المرشحة للتصاعد في ظل ارتباك السياسات وغياب الرؤية وانعدام الرشادة في ترتيب أولويات الإنفاق، أو تقييم تلك الأصول بقيمة أقل مما تستحق وعلى المديون المأزوم أن يقبل.
قد يكون الإعلان عن بدء جلسات الحوار الوطني بعد إجازة الأعياد في مطلع مايو المقبل، مناسبة لطرح قضايا الإهدار والبذخ والإسراف التي تمارسه الحكومة ضمن حزمة من القضايا الأخرى الملحة، وننتظر أن يناقش أعضاء لجان الحوار ما لم يطرحه نواب الشعب للنقاش تحت قبة البرلمان ولا تشتبك معه صحافتنا المحاصرة، ففرملة قطار الهدر والإسراف صار ضرورة ملحة قبل أن يدهس هذا القطار الجميع.