في تعاملها مع تحديات أسعار مدخلات الإنتاج وانخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي، اختارت الشركات العاملة بالسوق المحلية الحلول السهلة برفع أسعار منتجاتها بوتيرة مستمرة، دون اكتراث بانخفاض القوى الشرائية للعملاء، أو إمكانية دخولها في ركود مع إعادة ترتيب المواطنين قائمة أولويات نفقاتهم الشهرية لمواجهة التضخم.

فرفعت شركة حلواني إخوان “سعودية” أسعار بيع منتجاتها في السوق المحلية، قبل ساعات، بمعدل يتراوح بين 50 و70 جنيهًا للكيلو، ليبلغ سعر كيلو اللانشون 242 جنيهًا، وكيلو قوالب اللحم البقري الجاهز لـ 405 جنيهات، ولحوم الدجاج المطبوخ 334 جنيهًا.

كما رفعت الشرقية للدخان “إيسترن كومباني” أسعار جميع منتجاتها ما بين جنيهين و3 جنيهات للعلبة الواحدة للسجائر ليصبح سعر “كليوباترا بوكس 10″ نحو 15 جنيهًا و”كليوباترا كينج سايز” 23 جنيهًا، وكليوباترا سوفت كوين 24 جنيهًا، وبوسطن وبلومنت 24 جنيهًا، و”فايسروي” و “بال مال” 33 جنيهًا، كما قررت تطبيق زيادة جديدة على أسعار المعسل.

اقرأ أيضًا: الحكومة وفوضى الأسعار وشماعة “الأزمة العالمية”

الأمر ذاته، فعلته شركة «إيديتا للصناعات الغذائية»، التي رفعت أسعار منتجاتها في قطاعيّ المخبوزات والويفر أكثر من مرة ليبلغ متوسط أسعارها بين 3 و5 جنيهات، وشركة «عافية» لتابعة لمجموعة صافولا السعودية، التي زادت أسعار الزيوت الطعام والمسلي الصناعي مطلع العام بين 2.5 و14 جنيهًا بحسب اختلاف نوع السلعة.

وزادت جميع شركات الألبان العاملة بالسوق المحلية أسعار عدة مرات ليبلغ متوسط الكيلو المعبأ 30 جنيهًا، وبررت إدارة الشركات الارتفاع المتزايد والمستمر لجميع مدخلات الإنتاج، والمواد الخام الخاصة بالصناعة أدى إلى زيادة أسعار المنتجات، وأن قرارات الرفع جاءت بعد دراسة طويلة، لمواجهة تغير بنود التكلفة والتي ترتبط بسعر الصرف.

رفع الأسعار لا يفرق، حاليًا، بين كبير وصغير، فالشركات الصغيرة التي لطالما افتخرت بقدرتها التنافسية الأعلى في السعر عن الكبار أسعارها مشابهة تمامًا، والبعض منها لجأ لحيلة مثل شركات المقرمشات ورقائق البطاطس لخفض الكمية المعبأة للنصف والبقاء على السعر ذاته، وهو رفع للأسعار بطريق غير مباشر.

محمود العسقلاني رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء
محمود العسقلاني رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء

هامش ربح ثابت

رغم اقتناع الجميع بارتفاع تكاليف الإنتاج، لكن محمود العسقلاني، رئيس جمعية مواطنون ضد الغلاء، يرى أن بعض الشركات لا تتعامل بذكاء في ملف التسعير، فالسعي لتحقيق ربح مضاعف خوفًا من ارتفاع التكاليف مستقبلاً، قد يسبب انسحاب عد كبير من المستهلكين، وهو أمر شهدناه بشركات الأعلاف التي تحقق مكاسب مضاعفة تسببت في خروج 50% من مربي الدواجن ونحو 30% من الماشية.

لدى الشركات حلول بديلة لتحريك الأسعار لا يتم الاعتماد عليها إلا نادرًا تتضمن ترشيد وخفض حجم الإنفاق العام سواء فيما يتعلق بالدعاية والإعلان، وتقليص أعباء استهلاك الوقود في عمليات النقل، بما يحافظ على البيع ويتماشى مع قدرة المستهلك على الشراء.

يقول العسقلاني إن رفع الأسعار تسبب في انخفاض الاستهلاك في رمضان الحالي بنحو 60% عن العام الماضي وفق دراسة حالة للجمعية التي تنشط حاليًا في توفير اللحوم، ولها منافذ لبيعها بأسعار مخفضة في الدلتا، مؤكدًا وجود انكماش ملحوظ في القدرة الشرائية للمواطنين.

اقرأ أيضًا: ماذا تخبرنا قطع “البانيه” و”الملابس الداخلية” عن التضخم في مصر؟

يؤكد أن الحفاظ على أقل هامش ربح من شأنه تعظيم الاستهلاك وبالتالي تحقيق ربح عبر زيادة الكميات المباعة، كما يمكن للشركات ضبط النفقات عبر زياد كميات البضائع المحملة في النقلة الواحدة لتقليل نولون النقل أو ترشيد المياه والكهرباء، والتوظيف الأمثل للمادة الخام.

بحسب محللي «جيفريز جروب»، وهو بنك استثمار أمريكي متعدد الجنسيات، فإن رفع الأسعار عالميًا يشبه النافذة المفتوحة، التي يمكن للشركات غلقها بسرعة عندما يبدأ المتسوقون بالشعور بالضيق بسبب التضخم ويضطرون إلى التراجع عن الإنفاق، والحديث عن ركود محتمل يضيف إلحاحًا لهذه المسألة، لكن ذلك الأمر لا يتحقق في مصر.

أحمد العطيفي الخبير الاقتصادي
أحمد العطيفي الخبير الاقتصادي

أحمد العطيفي، الخبير الاقتصادي، يقول إن المشكلة الاقتصادية في مصر تحولت إلى أزمة أخلاقية تتعدى الشركات، فالسلعة الواحدة يمكن شراؤها بأسعار مختلفة في المنطقة ذاتها، لأن التاجر يتعامل مع الزبائن على أنهم يستطيعون سداد الرقم المطلوب أيًا كان.

يضيف العطيفي أن المشكلة الأكبر في قطاع من التجار أيضًا، يبيعوا السلع ذاتها بأكثر من سعر وفق حكمهم على المظهر الخارجي للعميل، ونوع ملابسه وماركة سيارته وغيرها.

نافذة الأسعار المفتوحة لن تغلق

بحسب مدير إدارة إحدى شركات الألبان، فإن المشكلة عالمية لكن تزيد في مصر بسبب تشابك ارتفاع الأسعار العالمية مع اختناق سلاسل التوريد، وفي الوقت ذاته انخفاض سعر صرف الدولار واحتجاز بضائع في المواني، وهي تركيبة تؤكد أن رفع الأسعار أمر شديد المنطقية.

تمكنت معظم الشركات، عالميًا، من تمرير تكاليف أعلى على المواد الخام والنقل والعمالة بنجاح إلى المتسوقين دون أي مشكلات لأن المنافسين يرفعون الأسعار أيضًا، وحتى العلامات التجارية للمتاجر ذات العلامات التجارية الخاصة، والتي يتم تفضيلها في أوقات الضائقة الاقتصادية، ليست محصنة ضد ارتفاع التكاليف.

يحذر مايكل ه. سو، الرئيس التنفيذي لشركة تصنيع منتجات ورقية، كثيرًا من فكرة استسهال الشركات الزيادات، فمستويات الأسعار التي يتم وضعها بالسوق تخلق ضغطًا على المستهلك، وتقوم العديد من الشركات بتعديل توقعاتها وفقًا لذلك، على افتراض أن الطلب سيتراجع لأن المشترين سيتذمرون في النهاية بسبب التضخم، ويتطلعون إلى ضبط نفقاتهم، إما عن طريق التخلي عن مشتريات معينة، أو التحول لبدائل أرخص.

شركة “نستلة” أضخم شركة أغذية في العالم، والتي تنشط في السوق المحلية المصرية، تستعد حاليًا لرفع أسعارها منتجاتها مجددًا بعد رفعها 5% في إبريل/ نيسان الماضي، بحجة ارتفاع تكاليف الإنتاج والحاجة إلى مواكبة التضخم، وغيرها من الشركات المنافسة تحذو الحذو ذاته. 

هيمنة الشركات تمنحها حرية رفع الأسعار

خبير أنظمة الغذاء ريان إسكاسون يقول إن شركات عالمية تحدد أسعارها ليس وفقًا للعرض والطلب، ولكن لزيادة أرباح مساهميها، والمعادلة التي تعمل بها هي ترجمة ديون المستهلكين ومشقتهم تعني ازدهارا أكبر وأرباح أضخم للشركات التي وصفها بـ”النهمة”.

بحسب إسكاسون، تهيمن أربع شركات على 70% و90% من تجارة الحبوب العالمية، ولديها سعة تخزين كبيرة. ما يعني أن نظام الإمداد العالمي مبني إلى حد كبير على معلوماتهم الخاصة وبناءً على ما تذكره هذه الشركات، فإن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” تضع تقديرات للمخزونات العالمية، لذا إذا كانت تلك الشركات ترفع الأسعار، فمن ذا الذي سيقول إنه ليس سعرًا عادلًا؟

يرى أن الغالبية العظمى من الشركات والتجار حاليًا تقدر الأسعار وفق سعر المادة الخام مستقبلًا وحسابات لسعر الدولار أو ارتفاع التكاليف بعد عدة أشهر، الأمر الذي يفرض عبئًا كبيرًا على المواطن ويهدد السلام الاجتماعي، فتوفير الغذاء الرخيص للمواطن مسألة لا يجب أن يتم التغافل عنها في ظل التضخم المرتفع حاليًا.

اقرأ أيضًا: السلع المضروبة.. فتش عن الجيوب البيضاء والتضخم

لا تنتظر غالبية الشركات المحلية نتائج القرارات الحكومية كتخفيض الجنيه ورفع سعر الوقود، ودراسة تأثيرها المستقبلي على الخامات ومستلزمات الإنتاج لكنها تتبنّى رفع سعر المنتجات النهائية، على اعتبار أن شراء الخامات بالسعر الجديد، ستكون أعلى، مما تم استهلاكها في الإنتاج المطروح بالسوق ويقلل هامش الأرباح.

قبل التعويم الأخير “11 يناير/كانون الثاني”، كانت الشائعات تعم السوق المحلية، ورغم أن البضائع المستوردة تأخذ رحلة تزيد على 3 أشهر رفع بعض الموردين بمصر السعر بنسبة أكبر من تخفيض سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وحتى قبل أن يصدر القرار رسميا من البنك المركزي.

ورغم معاناة السوق العقارية في 2023 من انخفاض الطلب، تسعى الشركات للحفاظ على هامش ربح ثابت وكبير أعلى بكثير من ارتفاع التكاليف ومواد البناء وأسعار الفائدة التي زادت بنحو 800 نقطة أساس، وحرك المطورون الأسعار بنسب تصل إلى 30% على سعر الوحدات من أجل الحفاظ على معدل الربحية المرتفعة.

ورغم تحقيق أكبر 20 شركة في السوق العقارية في 2022 حوالي 317 مليار بنمو عن العام السابق الذي كانت حجم المبيعات فيه حوالي 250 مليار لتسجل مبيعات الشركات العشرين خلال عامين حوالي 600 مليار جنيه، لكن المطورين العقاريين في جلسات مؤتمر “أخبار اليوم العقاري الثالث” الذي انعقد قبل أيام -وتابع فعالياته “مصر 360”- قدموا 12 توصية يطالبون فيها بتحمل البنوك تمويل الشركات تحت التنفيذ، معتبرين أن بيع الشركات بنظام الأقساط سبب خسائر لها على المدى الطويل.