عندما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقاريرها القُطرية حول حالة حقوق الإنسان، برز تقييم سجل لبنان الحقوقي للعام 2022 وكان لافتا أن تغيب عنه عدة قضايا، غير تعرضه للحذف ضمن موائمات واشنطن.

وتحظى تقارير وزارة الخارجية الأمريكية عن حقوق الإنسان باهتمام السفارات الأجنبية في واشنطن وخبراء داخل وخارج الولايات المتحدة، حيث يستدل منها على نوايا الإدارة الأمريكية وسياستها تجاه الدول.

وهي، وبالنظر إلى طبيعتها الشاملة، تعد أداة قيمة للمساءلة، إلا أن محتواها الحساس -دبلوماسيا- يتم تعديله أحيانا، وفق مقتضيات العلاقات الثنائية.

لم يذكر التقرير شيئا ذي قيمة عن التحقيق الجنائي الذي أجرته الحكومة اللبنانية في اغتيال لقمان سليم

في تحليله،  المنشور فى  معهد واشنطن/ TWI، يشير ديفيد شنيكر مساعد وزير الخارجية السابق لشؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية، إلى أن تقرير لبنان “يتجنب إلى حد كبير بعض قضايا حقوق الإنسان الأكثر إثارة للجدل في البلاد”.

خاصة وأن لبنان يمر بوقت عصيب. لذلك، ربما كانت الإدارة متحفظة هذا العام. أو ربما كانت قلقة من أن يعطي منتقدي الكونجرس سببا لخفض مساعدات واشنطن الوفيرة للبنان، وهى تتضمن مدفوعات رواتب غير مسبوقة بقيمة 72 مليون دولار للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.

اقرأ أيضا: السجون والإرهاب والفساد والأقليات.. ماذا حدث في الاستعراض الأممي لتقرير حقوق الإنسان بمصر؟

يضيف: لم يذكر التقرير شيئا يستحق عن التحقيق الجنائي الذي أجرته الحكومة اللبنانية في اغتيال لقمان سليم، الناشط والمتلقي السابق للمنحة الأمريكية، والذي قتل -على الأرجح- على يد حزب الله. فقط تم تخصيص مقطع قصير لمقتله، في التقرير المكون من خمس وأربعين صفحة. على الرغم من فشل بيروت في إصدار لائحة اتهام أو اعتقال واحدة بعد أكثر من عامين.

ويقتبس من التقرير حول الواقعة: “استمرت التحقيقات في وفاة لقمان سليم عام 2021، وهو ناشط سياسي بارز وناقد صريح لـ حزب الله. الذي عثر عليه ميتا متأثرا بعدة طلقات نارية في سيارة مستأجرة في قرية العدوسية الجنوبية.  لكن لم يتم الإعلان عن أي نتائج للتحقيق بحلول نهاية العام”.

تجاهل الملاحظات

يشير شينكر إلى أن الإدارة الأمريكية تستشهد -عادة- بالبلاغات مفتوحة المصدر عن بعض الحوادث، مثل سليم، للتأكيد على المساءلة.

يقول: ومع ذلك، لا يذكر تقرير لبنان التوثيق المكثف لتهديدات حزب الله ضد سليم، والتي تتراوح من التحذيرات التي أصدرتها السفارة الأمريكية في بيروت، إلى المقابلات العامة مع أرملة سليم، الناشطة مونيكا بورجمان.

يضيف: في إحدى هذه المحادثات، روت بورجمان كيف قدم محققو قوى الأمن الداخلي تفسيرا سخيفا بأن سليم -الذي أصيب بالرصاص في رأسه خمس مرات- ربما يكون قد انتحر.

أيضا، يُعدد مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “الإغفالات” الملحوظة الأخرى في التقرير القطري الخاص بلبنان.

يقول: “من المؤكد أن مقتل سليم ليس القتل السياسي الوحيد الذي لم يتم حل لغزه في لبنان. لم تنجح قوى الأمن الداخلي في تقديم أي اغتيالات رفيعة المستوى للمحاكمة منذ عقود، بلا شك لأنها ارتكبت من قبل عناصر “لا يمكن المساس بها” في النظام السوري و/أو حزب الله”.

تابع: إن تجاهل إعاقة قوى الأمن الداخلي الواضحة لمثل هذه الحالات من القتل، أمر غير لائق بشكل خاص، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة تدفع حاليا رواتب عبر الأمم المتحدة، وتقدم 10 ملايين دولار سنويا إلى لبنان من مكتب مراقبة المخدرات الدولية وإنفاذ القانون، الذي يدعم البعض منه قوى الأمن الداخلي.

بالمثل، فإن انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في أغسطس/ آب 2020، وخلف ضحايا، 200 قتيل، وأكثر من 6000 جريح، وما يقدر بنحو 300000 نازح. لم يكشف عن أسبابه.

بينما يخصص جزء واحد من التقرير لوضع التحقيق “الذي يقع عند تقاطع العديد من قضايا حقوق الإنسان الملحة، بما في ذلك الفساد والإهمال الجنائي، وسوء الإدارة والتعريض المتعمد للخطر”، حسب تعبيره.

الإفلات من العقاب

تشير الوثيقة -بإيجاز- إلى تقارير إعلامية عن مكائد داخل نظام المحاكم اللبناني حالت دون إحراز تقدم. ومع ذلك، فإنه لا يذكر مصادر أخرى تشير، على وجه التحديد، إلى طلب حزب الله عزل القاضي طارق بيطار من القضية، ولا إلى مختلف أعضاء البرلمان والحكومة والمؤسسات الأخرى الذين منعوه من مقاضاة كبار المسئولين الأمنيين والسياسيين.

يقول شينكر: “هنا أيضا، فإن قوى الأمن الداخلي مذنبة، حيث رفض المدير العام، اللواء عماد عثمان، تنفيذ أوامر اعتقال رفيعة المستوى صادرة عن بيطار”. وهي نقطة أخرى لم تذكر في التقرير.

كذلك، تم حذف التقارير التي تشير إلى أن نترات الأمونيوم المشاركة في انفجار عام 2020 كانت فقط خُمس الكمية التي تم تفريغها في الميناء في عام 2013.

وكان لقمان سليم قد ذكر خلال مقابلة تلفزيونية، قبل مقتله، أن حزب الله قد سرق الكثير من هذه المواد القابلة للاشتعال، لاستخدامها في البراميل المتفجرة التي نشرها نظام الأسد ضد المدنيين السوريين خلال الحرب الأهلية “وهو انتهاك صارخ آخر لحقوق الإنسان”.

أيضا، وفقا لوزارة الخارجية الأمريكية “كان الإفلات من العقاب مشكلة كبيرة بالنسبة للجيش اللبناني والفروع الأمنية الأخرى في عام 2022، حيث تفتقر التحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان المبلغ عنها إلى الشفافية والإلحاح”.

يقول مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: بعيدا عن هذا النقد العام، لا يذكر التقرير ما يكفي عن الانتهاكات المحددة للجيش اللبناني، أو فشله في حماية المدنيين وموظفي الأمم المتحدة. وهو نهج مقلق، بالنظر إلى أن واشنطن لديها علاقة وثيقة وداعمة للجيش، حيث قدمت له تمويلا قدره 236 مليون دولار في السنة المالية 2021 وحدها.

قدم محققو قوى الأمن الداخلي تفسيرا سخيفا بأن سليم -الذي أصيب بالرصاص في رأسه خمس مرات- ربما يكون قد انتحر

اقرأ أيضا: هل يصبح المشهد الفلسطيني أكثر عنفا في رمضان؟

المحاكم العسكرية

بينما يشير التقرير إلى المحكمة العسكرية، التي يحاكم أمامها مدنيون بتهمة الإضرار بسمعة قوى الأمن الداخلي، على سبيل المثال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، حكم على الصحفي رضوان مرتضى بالسجن ثلاثة عشر شهرا لانتقاده التحقيق في انفجار الميناء.

وفي العام الماضي، أمرت محكمة عسكرية باعتقال واستجواب رئيس الأساقفة الماروني موسى الحاج، بزعم مساعدته اللبنانيين الضعفاء اقتصاديا على الهجرة.

وفي عام 2022 أيضا، اتهمت محكمة عسكرية السياسي سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية بتورطه في أحداث عنف منطقة الطيونة في بيروت عام 2021.

يقول شينكر: بغض النظر عن وقائع هذه القضايا، تحتاج واشنطن إلى الضغط على بيروت حول سبب التقاضي ضد المدنيين في المحاكم العسكرية بدلا من المحاكم المدنية.

في المقابل، أثبتت المحاكم العسكرية أنها كسولة في القضايا التي تنطوي على عنف ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

في عام 2022، اعتذر الرئيس المنصرف ميشال عون عن الهجمات المتوطنة على قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل). ومع ذلك، قدم الرؤساء السابقون بيانات مماثلة فيما يتعلق بعشرات هذه الجرائم التي ارتكبت في العقود الأربعة الماضية، في حين تمت إدانة مهاجم واحد فقط.

وفي عام 2022 أيضا، أشارت الأمم المتحدة إلى أن المحاكم العسكرية اللبنانية لا تزال تعقد جلسات استماع “غير مثمرة” تتعلق بالهجمات التي وقعت منذ عامي 2007 و2011. في حين لم يتم اتخاذ أي إجراء على الإطلاق في الإجراءات الجنائية المتعلقة بهجوم 2018 ضد أفراد اليونيفيل.

انتهاكات عدة

في 24 آذار / مارس، احتفلت الأمم المتحدة “باليوم الدولي للحق في المعرفة فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكرامة الضحايا”، لكن الشعب اللبناني لا يزال محروما من هذا الحق عاما بعد عام. من الاغتيالات السياسية، إلى الإهمال الذي أدى إلى انفجار الميناء، إلى إفلات قوى الأمن من العقاب، إلى الإخفاقات المأساوية لمؤسسات الصحة العامة.

هناك قائمة طويلة من انتهاكات حقوق الإنسان التي يعاني منها الضحايا في لبنان “ومما يؤسف له أن المساءلة لا تزال عنصرا حاسما، ولكنه لا يزال بعيدا في هذه الدولة المنهارة”.

يشير شينكر وهو أيضا مدير برنامج السياسة العربية بمعهد واشنطن إلى موضوع آخر تم حذفه من تقرير وزارة الخارجية، وهو ما وصفه مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، في مايو/ أيار الماضي بأنه “إفقار السكان غير الضروري”، أي الإفقار الجماعي الناجم عن الأزمة الاقتصادية في البلاد.

يقول: على وجه التحديد، سلط الضوء على دور الحكومة في خلق الأزمة، وألقى باللوم على القطاع المصرفي في “التأثير على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي على حساب الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع”.

وفي تقييمه يذكر: أدت تصرفات القطاع المالي ومصرف لبنان إلى تخلف لبنان عن الوفاء بالتزاماته. بما في ذلك “الالتزام بضمان مستوى معيشي لائق لسكانه”، والذي وصفه بأنه انتهاك لحقوق الإنسان.

لذلك، يؤكد شينكر أن هناك العديد من الأسباب الأخلاقية والسياسية المقنعة التي تجعل هذه التقارير بحاجة إلى أن تكون “صادقة بوحشية”، حسب تعبيره.

يقول: لبنان بحاجة ماسة إلى المساءلة، والتقارير الحكومية الأمريكية الموثوقة ضرورية لتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان ومساعدة المواطنين على تحميل السلطات المختصة المسئولية.