تدخل العسكريون في السياسة ثلاث مرات: الأولى: ـ بعد إفلاس مصر في أواخر عهد الخديو إسماعيل ،وما أعقبه من تدخل أوروبي سافر، تمكن من عزله وتولية نجله مكانه، ثم تحول إلى غزو مسلح ،ثم إلى احتلال عسكري ،وهو ما عرف بالثورة العرابية. ثم المرة الثانية 1952م: ـ بعد فترة اضطراب وصلت إلى درجة الاضمحلال لمنظومة الحكم بكاملها، منظومة الحكم شبه الليبرالي الديمقراطي التي تأسست بعد ثورة 1919م. ثم المرة الثالثة: بعد ثلاثين شهراً من ثورة 25 يناير المجيدة في 30 يونيو 2013م ثم 3 يوليو 2013م. في المرات الثلاثة جاء العسكريون في لحظة عجز مدني، ثم جاؤوا بترحيب شعبي، إن لم يكن من الأغلبية، فمن أكثرية معتبرة.

كما في المرات الثلاث بادر مدنيون باستدعاء أو إشراك العسكريين ، ففي المراحل الأولى من الثورة العرابية كان الخديو إسماعيل ورجاله هم من يحرضون الضباط على التظاهر ضد حكومة نوبار 1878م التي أرغمه الإنجليز على تشكيلها برئاسة نوبار وعضوية وزيرين رغم أنفه كخديو ، ثم كان نجله توفيق من رتب مع عرابي مظاهرة التاسع من سبتمبر 1881م أمام قصر عابدين ، ثم كان أعيان البلاد هم من فوضوا الضباط بقيادة الثورة ، ثم الضباط عندما حكموا فعلوا ما يجيدونه ويتفوقون فيه وهو إقامة ديكتاتورية عسكرية لم تعمر طويلاً ، ودخلت البلد في ثلاثة أرباع قرن من الاحتلال العسكري . ثم في المرة الثانية مع 23 يوليو 1952م  كانت كل التنظيمات السياسية – باستثناء الوفد – تسعى لاختراق الجيش وتكوين خلايا من الضباط تابعة لها ، الجميع فعل ذلك ، الملك ، الإخوان ، الشيوعيون ، مصر الفتاة ، إلى آخره ، ثم لما استولى الضباط على السلطة رحب الجميع منهم من رحب كراهية في الملك ، ومن رحب كراهية في الوفد ، ومن رحب كراهية في الطبقة الارستقراطية ، تعددت الأسباب والترحيب واحد ، ثم فعل الضباط ما يتقنونه ويجيدونه وهو تأسيس ديكتاتورية عسكرية تخلصت من الجميع ، سحقت خصومها ، ثم نسفت مؤيديها ، كنست الجميع وألقت بهم مهملات التاريخ ، ثم بدأت من الصفر كأن التاريخ لم يولد إلا فوق ظهر الدبابات صباح 23 يوليو 1952م ، دفنوا الجميع من رحب بهم ومن لم يرحب .

ثم في المرة الثالثة بعد 25 يناير 2011م قدموا التحية للثوار ، ثم تحالفوا مع الإخوان وحلفائهم من الإسلاميين  ضد الثوار والمدنيين ، ثم تحالفوا مع الثوار والمدنيين ضد الإخوان والإسلاميين ، ثم أجهضوا الثورة بنجاح ، ثم أسسوا ديكتاتورية عسكرية جديدة لا مكان فيها لثوار ولا مدنيين ولا إخوان ولا إسلاميين ، ديكتاتورية عسكرية كما يقول الكتاب .

في المرات الثلاث ، كان المأمول من العسكريين أن يردوا الأمور إلى مسارها السليم ويضعوها في موضعها الصحيح ثم يعودوا إلى ثكناتهم العسكرية ، ولكن الواقع الذي حدث هو أنه – في المرات الثلاثة – لم يثبت المدنيون أي قدرة على التوافق أو التفاهم على أليات من شأنها بناء نظام حكم مستقر ، في المرات الثلاثة كان المجتمع السياسي في شقاق مع نفسه ، وعلامة هذا الشقاق أن كل طرف من المدنيين كان يثق في العسكريين أكثر من ثقته في المدنيين ، ولهذا اصطف الإخوان وباقي الإسلاميين وراء المشير طنطاوي بعد يناير 2011م ضد الثوار والمدنيين ، ثم عادت الكرة بعد 3 يوليو 2013م واصطف الثوار والمدنيون على جانبي وزير الدفاع وهو يلقي البيان الذي وضع نهاية الإخوان ثم – تحت الضباب – وضع نهاية الثورة  وبداية الديكتاتورية الجديدة.

كما يقول صمويل هنتجتون في ص 322 من كتابه ” النظام السياسي في مجتمعات متغيرة ” عندما تفقد السياسة أخلاقيتها وروحها الحقة يعيش المجتمع في شقاق مع نفسه ” . ومنه اقتبست عنوان هذه المقالة ، ومن هذا المفهوم أناقش القضية الشاغلة لكثيرين من الرأي العام المصري : لماذا قفز العسكريون إلى السلطة ؟ ثم متى وكيف يخرج العسكريون من السلطة؟.

من وجهة نظر صمويل هنتنجتون، يقفز العسكريون إلى السلطة بصفتهم طبقة وسطى عسكرية منظمة من داخل الدولة ، عندما تعجز مؤسسات الحكم عن استيعاب الحراك السياسي والاجتماعي ، ثم يترتب على هذا العجز سيولة سياسية في المجتمع ، إفراط زائد في النشاط السياسي ، إفراط سائب دون قنوات تستوعبه ودون مؤسسات تنظمه ودون قواعد تضبط حركته ، إفراط سائب في ممارسة السياسة بصورة غير منظمة ، ثم يترتب على كل ذلك هياج اجتماعي ، الطلبة يشاغبون ، الأحزاب تتصارع ، النقابات تتظاهر وتضرب عن العمل ، المثقفون في ثورة ، العمال في عصيان ، القيادات الحاكمة في اضطراب ، الاتهامات بالفساد والتربح والصفقات تطول الجميع ، في هذه الحالة يكون المناخ المناسب ليتدخل العسكريون ، يتدخلون ومعهم الهراوة أو العصا الغليظة ، فيسكت من يسكت ، ويعاقب من يتجرأ ، ويستعيدون الهدوء ، ويفرضون القانون ، ويقدمون الوعود بإعادة النظام والدستور والقانون والديمقراطية ، ثم يغلب عليهم طبعهم العسكري فتذهب الأمور – بمنطق الأشياء – نحو ديكتاتورية قد يطول عمرها وقد يقصر حسب إمكانات العسكريين وظروفهم المحلية والدولية ، أي حسبما يلاقونه من دعم أو مقاومة محلية ثم ما يلاقونه من دعم أو مقاومة إقليمية ودولية .

في الأغلب – فإن العسكريين – يستولون على السلطة من أنظمة ملكية تحللت ، أو من أنظمة ليبرالية تعفنت ، أو من حكم أقليات أوليجارك مميزة طبقياً ، كل هذه النظم عجزت عن الاستمرار ، لأنها عجزت عن تطوير مؤسسات سياسية تستوعب الطبقات الوسطى الناشئة الراغبة في المشاركة في السلطة والثروة ، فيأتي تدخل العسكريين باسم الطبقة الوسطى وبالإنابة عنها ، يأتي العسكريون كرسل للنظام والاستقرار والقانون والحفاظ على تماسك الدولة وسلامة التراب الوطني ، ومن وجهة نظر صمويل هنتنجتون فإن المهمة التاريخية المنوطة بالعسكريين في مثل هذه اللحظة تكون أداء ما عجز عن أدائه الأنظمة التي سقطت ، تكون مهمتهم هي تحديث النظام السياسي وبناء مؤسسات سياسية تستوعب الطبقات الجديدة وتضمن في الوقت ذاته استقرار المجتمع وتماسك الدولة ، بعض العسكريين نجحوا في ذلك  في بعض البلدان ، نجحوا بدرجة كبيرة في بلد مثل المكسيك ، وبدرجة أقل في بلد مثل تركيا ، ثم بدرجة أقل في بلد مثل كوريا الجنوبية ، كما أخفق أكثر العسكريين في مصر وبورما وباكستان والسودان وغيرها من البلدان في القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، أخفقوا في بناء أنظمة سياسية تستوعب المجتمع دون إقصاء أو تهميش.

ثم يطرح صمويل هنتنجتون السؤال الأكبر : ماذا لو فشل العسكريون في مهمة بناء نظام سياسي فعال ؟ الجواب : سوف تنتقل السلطة منهم كطبقة وسطى عسكرية باعتبارهم رسل الاستقرار والنظام ، إلى الطبقات الوسطى المدنية باعتبارهم رسل الثورة ، فعنده أن الانقلابات ، بعد أجل طويل أو قصير ، تقود إلى ثورات ، إذا أخفق العسكريون في بناء النظام السياسي القادر على استيعاب المجتمع وتطويره وتقدمه .

الانقلابات العسكرية ، ثم ما يترتب عليها ، من تدخل العسكريين في السياسة ليست محل إدانة من حيث المبدأ من جانب صمويل هنتنجتون ، هي في وجهة نظره ، جزء من واقع السياسة المتخلف وغير المستقر في البلدان الأقل تقدماً بالمعايير الغربية للتقدم  ، العسكريون  – مثلهم مثل باقي فئات المجتمع – يحاولون تحديث مجتمعاتهم بالطريقة التي يتقنونها وهي الاستيلاء على السلطة بالقوة والسيطرة على المجتمع بالعنف ثم تطبيق سياساتهم الاقتصادية والاجتماعية من أعلى  . معيار الحكم على تدخل العسكريين ليس لماذا تدخلوا في السياسة ؟ لأنهم – بالبداهة – يتدخلون في السياسة عندما تكون السلطة القائمة في لحظة اضمحلال ، وعندما تكون القوى المدنية في ضعف وفساد ، وعندما تكون الأحزاب منشغلة في صراع على المكاسب و متورطة في التربح من العمل العام  ، وعندما يكون المجتمع في لحظة تشتت وانقسام ، في مثل هذه اللحظات يكون تدخل العسكريين هو الحل المناسب للحفاظ على كيان الدولة من التحلل وحماية نسيج المجتمع من التفكك .

لكن المعيار في الحكم على تدخل العسكريين في الحكم والسياسة هو : هل نجحوا في أن يكونوا البديل الأمثل للنظام الذي أسقطوه والنخبة التي كنسوها والأوضاع التي أنهوها ؟ أم أحلوا نظاماً سيئاً جديداً محل نظام سيء قديم ؟ وفساداً جديداً مكان الفساد القديم ؟ وديكتاتورية جديدة محل الديكتاتورية القديمة؟.

في ص 321 من كتابه ” النظام السياسي في مجتمعات متغيرة ” يقول ” بمقدور القادة العسكريين أن يكونوا بناة كفؤين  لمؤسسات سياسية فاعلة وناجحة ، يؤدون هذه المهمة في المجتمعات الأقل تعقيداً من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ،  ففي البلدان الأقل تعقيداً وتطويراً ربما يتمكن العسكريون من القيام بدور في بناء المؤسسات السياسية ، حيث يكون القادة العسكريون أذكياء ونشطين وتقدميين ،  وهم أقل فساداً – من غيرهم – بالمعنى الضيق للفساد ، وتكون أهدافهم أكثر تطابقاً مع الأهداف القومية والتحديث الوطني من معظم المدنيين .ينجح القادة العسكريون إذا تفادوا السقوط في فخ الوصاية على الشعب – وللأسف في المرات الثلاث مع عرابي ثم مع عبدالناصر ثم مع السيسي وقع العسكريون المصريون في فخ الوصاية على الشعب لذلك أخفقوا في ألف باء بناء نظام سياسي مستقر وفعال ، يقول هنتنجتون ” الوصاية على الشعب Guardianship  لن تؤدي سوى إلى زيادة تفشي الفساد في المجتمع الذي يريدون تطهيره . كذلك ينجح العسكريون إذا أفلتوا من مطب الاعتقاد أن تطوير الاقتصاد ممكن دون مؤسسات سياسية ، فالتطوير الاقتصادي دون مؤسسسات سياسية لن يؤدي سوى إلى ركود اجتماعي . ثم الشرط الثالث – بعد عدم الوصاية ثم بعد عدم تطوير الاقتصاد بمعزل عن تطوير السياسة هو شرط عدم الترفع عن السياسة والاستعلاء عليها وعدم النزول إليها والإصرار على نقل الطابع العسكري للحياة المدنية . جزء من النجاح المحدود لعبدالناصر ثم السادات هو أنهما كانا رجال سياسة ، لم يتجمد كلاهما عند العسكرية ، وبدرجة أقل بكثير كان مبارك ، ثم بدرجة أقل بكثير كان المشير طنطاوي في فترته الانتقالية ثم بدرجة أقل كان الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يجاهر ثم يفاخر بأنه ليس رجل سياسة في إشارة صريحة لتمسكه بقيم العسكرية وهو يشغل أعلى موقع في الحياة المدنية .

هنا يشير هنتجتون إلى ثلاث تجارب لقادة عسكريين فشلوا في بناء مؤسسات سياسية تكفل لهم تحقيق أمرين : أولهما تمكين الشعب من المشاركة السياسية  ، وأخرهما إضفاء الشرعية السياسية على نظام الحكم ، وهذه النماذج الثلاثة هي مصر وبورما وباكستان ، يقول في ص 315 ” أما في بورما ومصر ، فكانت جهود القادة العسكريين في تأسيس اتحادات جماهيرية لإضفاء طابع مؤسسي على المشاركة وشرعية على سلطتهم بلا طائل “. عبدالناصر ألغى الأحزاب وأسس هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ، ثم السادات أسس الحزب الوطني ، ثم السيسي أسس حزب مستقبل وطن ، وكلها مسميات لم تنجز مشاركة شعبية صادقة ولم تخلق شرعية حقيقية . ومثل بورما ومصر فعل العسكريون في باكستان ألغوا الأحزاب ، وابتكروا ما أسموه الديمقراطية القاعدية ، فلم يتحقق استقرار ولم تتأكد شرعية ، فاضطروا للعودة إلى نظام الأحزاب .

القاعدة المستخلصة : يفشل العسكريون في بناء نظام سياسي يضمن مشاركة الناس ويحفظ الشرعية ويؤمن الاستقرار عندما ينصبون أنفسهم أوصياء على الشعب ، وعندما يطورون الاقتصاد مع إغلاق المجال السياسي ، ثم عندما يستعلون على السياسة ويستهيفون الأحزاب وينظرون بازدراء لكل ما هو مدني ويصرون على الاحتفاظ بأخلاق وقيم وثقافة وانضباط العسكرية في معمعة الحياة المدنية .

معيار الحكم على نجاح العسكريين في السياسة هو أن ينجحوا في بناء نظام سياسي مستقر يضمن – بالتدريج – نقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين ، ثم يعود العسكريون إلى ثكناتهم ويتركوا السياسة والحكم للمدنيين ، ثم يقبلوا مبدأ هيمنة الحكم المدني على المؤسسة العسكرية ، هنا يكون العسكريون قد أجابوا على السؤالين الكبيرين ، سؤال لماذا يتدخل العسكريون في السياسة ؟ والجواب يتدخلون لإنقاذ بقاء الدولة وتماسك المجتمع ؟ ثم سؤال متى يخرج العسكريون من السلطة ؟ والجواب عندما ينجحون في بناء نظام سياسي ينقل السلطة للمدنيين ثم يعود العسكريون إلى مهمتهم الأولى والأخيرة وهي مهمة الحرب والقتال . لكن إذا لم ينجحوا في بناء نظام سياسي ، وإذا لم ينقلوا السلطة للمدنيين ، فسوف يعيدون إنتاج الاستبداد والفساد ثم يدفعون البلاد لحافة الثورة في أجل قريب أو بعيد .

في ص 315 يقول هنتنجتون ”  أما في بلاد أخرى – يقصد غير بورما ومصر وباكستان – فكان القادة العسكريون أكثر استعداداً لتنظيم أحزاب سياسية ، والبدء في عملية بناء مؤسسات سياسية جديدة ، يكون بمقدورها تشكيل قاعدة لإدامة الاستقرار السياسي وشرعية سلطة الحكم ” . وهنا يضرب مثالاً بثلاث حالات : المكسيك ، تركيا ، كوريا الجنوبية .

يقول ” لعل المثال على استعداد العسكريين لبناء مؤسسات سياسية ، وهو المثال الألفت للإنتباه – هو ما قام به جنرالات الجيش في المكسيك ، ففي أواخر عشرينيات القرن العشرين ، أنشأ قادة الثورة العسكريون ” الحزب القومي الثوري ” الذي أضفى على الثورة طابعاً مؤسسياً حقيقياً ، فإنشاء هذا الحزب – بما يعنيه من دخول معترك السياسة  – مكن النظام السياسي من استيعاب مجموعات متنوعة من القوى الاجتماعية مثل العمال والمزارعين ، كما مكن النظام من الصمود في وجه القوى الاجتماعية التخريبية ، كما وهو الأهم أوقف ما يزيد على مائة عام من الانقلابات العسكرية التي هيمنت على الحياة السياسية في المكسيك من نهايات القرن الثامن عشر وعلى مدار القرن التاسع عشر بكامله وحتى مطلع القرن العشرين ، إذ كان سجل المكسيك من حيث الانقلابات العسكرية هو الأسوأ في أمريكا اللاتينية  .

” أما بعد ثلاثينيات القرن العشرين فأصبح الجيش بعيداً عن السياسة ، وصارت بذلك المكسيك واحدة من البلاد القليلة في أمريكا اللاتينية التي لها حصانة ومناعة مؤسسية ضد الانقلابات العسكرية ، كان إنجاز القادة العسكريين استثنائياً ، لأنه نتاج ثورة شاملة وإن يكن قادها جنرالات من الطبقة الوسطى وليس مثقفين من الطبقة الوسطى ” .

” أما مصطفى كمال أتاتورك والجنرالات الأتراك ، فقد استنسخوا ما فعله العسكريون في المكسيك ، لكن دون ثورة اجتماعية كاملة ، فمنذ بداية نشاط كمال أتاتورك السياسي استشعر – بصورة فعلية – ضرورة إنشاء مؤسسة سياسية قادرة على تولي حكم الدولة التركية ، فعند نجاح الانقلاب العسكري عام 1908م ونجاح حركة تركيا الفتاة في الاستيلاء على السلطة بدأ أتاتورك يدعو إلى الفصل الكامل بين ما هو عسكري وما هو سياسي ، وقال من يرغب من الضباط في العمل السياسي فعليه أن يترك الجيش ، ومن أراد البقاء في الجيش فعليه مغادرة السياسة ، إذا استمر الضباط يجمعون بين الحزب والجيش فلن نتمكن من بناء حزب قوي ولا جيش قوي ، لكن في ذلك الوقت المبكر لم تأخذ قيادة حركة تركيا الفتاة بوجهة نظر أتاتورك . عندنا حصل فصل في الظاهر بين الجيش وحركة الضباط الأحرار ، حيث خرج كل مجلس قيادة الثورة من الجيش ، لكن تم تسييس الجيش برفع رتبة عبدالحكيم عامر من رائد إلى لواء ألى قائد عام للجيش ثم إلى مشير ، تم تسييس الجيش ، وفي المقابل تم عدم تسييس للحياة السياسية ، تم تسييس ما لا يجوز تسييسه ، ثم تم تحريم السياسة على ما ينبغي تسييسه ، وقد جاءت الهزائم في العدوان الثلاثي ،  ثم في انفصال سوريا ،  ثم في حرب اليمن ،  ثم في نكسة 5 يونيو 1976م ،  ثم في الصراع بين قائد الجيش ورئيس الدولة ، جاء كل ذلك ، ليثبت أن القادة العسكريين المصريين أخفقوا في بناء الجيش ، كما أخفقوا في بناء مؤسسة سياسية ، انهزموا في جبهات القتال ، كما انهزموا في ميادين السياسة سواء في الداخل أو الخارج .

لم يكن جنرالات المكسيك ولا جنرالات تركيا ديمقراطيين ، لكنهم أسسوا لبنات مؤسسات سياسية على نحو صحيح ، نجحت – بالتدريج – في تأسيس ديمقراطيات ناشئة ، كفلت في النهاية انتقال الحكم من العسكريين إلى المدنيين ، تركيا بدأت سجلها في الانقلابات مع الصدر الأعظم مدحت باشا – أب الدستور التركي – 1876م حيث عزل السلطان عبدالعزيز ثم السلطان مراد الخامس ثم ونصب السلطان عبدالحميد بشرط إصدار الدستور وإطلاق البرلمان ، ثم بعد عامين انقلب السلطان عبدالحميد على الدستور وحل البرلمان وقدم مدحت باشا للمحاكمة بتهمة قتل السلطان عبدالعزيز ثم نفاه إلى مدينة الطائف في الجزيرة العربية ، ثم حكم بالحديد والنار حتى انتهى حكمه بخمس انقلابات متتالية بين عامي 1908 – 1913م ، تاريخ تركيا الحديثة هو تاريخ العسكريين في السلطة ، يحكمون في الظاهر ، أو من وراء ستار ، وكانت آخر محاولة انقلاب عسكري فاشلة في 2016م  . الجنرالات هم صناع تركيا الحديثة وهم العقبة في طريقها هم التناقض الملغز ، فمنذ تخلصت تركيا من الجيش التقليدي أي الإنكشارية وأسست الجيش الحدبث على النمط الأوروبي 1826م ، منذ ذلك التاريخ وهي في صراع لم يتوقف بين تراثها الإمبراطوري الذي سقط وحلمها الأوروبي الذي لم يقم على رجليه بعد رغم أكثر من قرنين من أحتذاء أوروبا والاهتداء بها .

بعد الحرب العالمية الأولى ، صارت الكلمة في تركيا  لمصطفى كمال أتاتورك ، وقد خرج من الحرب بطلاً قومياَ ، عندنا في مصر ننسب البطولة لعبدالناصر الذي انهزم وانسحب في كل الحروب ، ونبخل بالبطولة على السادات القائد العربي الوحيد الذي حقق نصراً عسكرياً في وجه إسرائيل .

إيجابية أتاتورك أنه لم يلغ الأحزاب ، وأسس حزباً ، وخاض الانتخابات ، وهذا الحزب حكم تركيا من 1923م حتى 1950 م ، ثم خسر الانتخابات ، ثم سلم السلطة بديمقراطية للحزب الفائز . خوض الانتخابات والاستعداد للخسارة ثم تسليم السلطة للفائز لم تحدث عندنا ، حصلت في المكسيك ثم في تركيا ثم سارت على طريقهما كوريا الجنوبية .

تفصيل تجارب الانتقال من حكم عسكري إلى حكم مدني من خلال عمل سياسي حزبي تحسمه انتخابات حرة وعادلة ،

ذلك موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى .