تشهد منطقة الخليج تحولات كبرى في بنيتها السياسية والاجتماعية، أهمها في السعودية والإمارات، حيث النخب الحاكمة الجديدة صاحبة الرؤى المختلفة لمستقبل الخليج، بخططها التي تستهدف تحديث المؤسسات وتنويع الاقتصاد بتقليص دور الدولة مع اتساع الاعتماد على القطاع الخاص بدلًا من الاعتماد على النفط.

هذه النخب الحاكمة في الإمارات والسعودية ترى أن العقلية الاعتمادية الريعية والانتماءات القبلية والدينية لا تتوافق مع أهدافها لتحديث اقتصاد ومؤسسات ومجتمعات البلدان. ولذلك وضعت مخططات لإعادة تشكيل قيم المواطنين وإعادة تخيل الهويات القومية لصناعة ذوات تتناسب مع اقتصاد يتجه إلى التنويع والعولمة مع الحفاظ على شرعيتها وبقائها كنخب حاكمة.

أمير جديد وهوية جديدة

يتضح الاتجاه القومي للهوية السعودية الجديدة في خطابات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. قال في أحد الحوارات: “إننا لا نحاول أن نكون مثل دبي أو أمريكا، بل نسعى إلى أن نتطور بناء على ما لدينا من مقومات اقتصادية وثقافية وقبل ذلك الشعب السعودي وتاريخنا، نحن نحاول أن نتطور بهذه الطريقة”. ومع هذا الاتجاه، بدأت السعودية سياسة السعودة باستبدال العمال السعوديين بالأجانب في عدة مجالات تجارية واقتصادية.

ولغرس تلك الهوية السعودية، أحدثت النخبة الجديدة، تحت قيادة بن سلمان، عدة تغييرات في ثقافة وحياة الشعب السعودي. فمظاهر القومية المفرطة في السعودية تجذرها النخبة الحاكمة في جميع النواحي الاجتماعية. ونراها مثلًا في احتفالات ضخمة بالمناسبات القومية مثل اليوم الوطني السعودي، وكذا يوم التأسيس (المستحدث) للاحتفال بعام 1727 (بما يمثل قطيعة مع السردية الوهابية التي كانت ترجع نشأة السعودية إلى العام 1744)، بعد أن كانت الاحتفالات القومية مستهجنة من قبل المؤسسة الدينية. هذا فضلًا عن استخدام هيئة الترفيه للأغاني والأفلام لتعزيز الانتماء القومي للسعودية.

إعادة سرد التاريخ

إعادة رسم الهوية القومية يتضمن إعادة تغيير سردية التاريخ السعودي. قال محمد بن سلمان في أحد الحوارات إن “تاريخ السعودية الحقيقي يتسم بالاعتدال”. وألقى باللوم على تيار الصحوة في انتشار التطرف في السعودية عقب 1979.

ولي العهد هنا يعيد رواية التاريخ السعودي بفصل الهوية الوطنية عن أفكار تيار الصحوة الديني. وليس هذا فقط، بل يأخذ الأمر لما هو أبعد بإعادة هيكلة التاريخ السعودي نفسه بتسليط الضوء على الفلكلور النجدي في احتفالات ومهرجانات هيئة الترفيه، محاولًا تقديم سردية جديدة تنظر إلى منطقة نجد باعتبارها محور التاريخ الوطني، تلعب دورًا رمزيًا هامًا فيه، وهي موطن تأسيس السعودية.

اقرأ أيضًا: الأزمة المصرية السعودية.. الحقائق والاختلالات – ملف لـ “مصر 360”

كذلك أعيد ترميم مناطق أثرية تنتمي لعهود ما قبل الإسلام مثل العلا، بعد أن كانت تلك الآثار سابقًا مهملة وتعد أصنامًا، ما عبر عن سعي النخبة السعودية الجديدة إلى ربط السعوديين بهوية ورموز ترتبط بالمنطقة الجغرافية وليس القبيلة، جنبًا إلى جنب مع الإسلام كجزء من مكونات الهوية السعودية، لكنه ليس المكون المهيمن كما كان في السابق.

وبينما كانت المناهج الدراسية السعودية سابقًا تشيطن عصور ما قبل الإسلام، باتت المناهج الجديدة تبرز الجوانب الإيجابية لعصور ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وتضعها إلى جانب العصر الإسلامي كجزء من سلسلة الحضارات التي تكون التاريخ السعودي.

صناعة المواطن السعودي

توصيف الأشخاص والكيانات التي تعتبرها النخبة السعودية أعداءً أصبح اليوم له طابعًا قوميًا. ففي السابق كان يطلق على أعداء الدولة كفارًا، بينما اليوم أصبحوا “الخونة“، كما حدث عندما اعتقلت السلطات السعودية 11 ناشطة من المدافعات عن حقوق المرأة في 2018 ووصمتهم الصحف التابعة للسلطة بالخيانة والعمالة لدول أجنبية. كما ألقي القبض على أمراء من العائلة المالكة بتهم الخيانة ومحاولة تدبير انقلاب في 2020 -بحسب ما جرى تداوله في حينه-. ومؤخرًا تم توجيه تهم لـ10 قضاة سابقين بالخيانة العظمى.

تستخدم النخبة السعودية جميع الأدوات لتعزيز الهوية القومية، وأهمها خلق الآخر أو الأعداء مثل الحوثيون وإيران والشيعة وقطر. فخطاب صناعة ثنائية “نحن” السعوديون في مواجهة “هم” الشيعي أو القطري، لم يعد محصورًا في الخطاب السياسي أو الإعلامي التقليدي فقط. بل امتد أيضًا إلى الأغاني السعودية مثل أغنية “علم قطر” من تأليف تركي آل شيخ.

المواطن السعودي ما بعد النفط

خطاب السعودية الجديد يضع معايير جديدة للمواطن السعودي المثالي. والهوية الجديدة الأفضل هي يوتوبيا شعبوية مكونة من “الإسلام الوسطي” وريادة الأعمال. وهي تخالف ما كان سابقًا، حيث المواطن السلبي الذي يستفيد من مزايا العهد الاجتماعي الريعي هو المواطن الأمثل.

المدارس أيضًا من الأدوت المستخدمة للقضاء على القيم القديمة المرتبطة بالعقد الاجتماعي الريعي. وهي تستبدل بها قيمًا جديدة في مناهج تصنع جيلًا سعوديًا جديدًا يتسم بالقومية والمواصفات النيوليبرالية لاقتصاد ما بعد النفط، تشجع الانتماء للسعودية والعمل بكد في سبيل تحقيق الازدهار للبلاد، وتفرق بين صفات المواطن الصالح الذي يحب بلده ويعمل لأجلها والمواطن الخائن.

نموذج الإمارات

هذه التغيرات ليست في السعودية وحدها. فإعادة تشكيل الذوات الخليجية من خلال أدوات الهندسة الاجتماعية تظهر بوضوح أيضًا في الإمارات.

تجادل كالفرت جونز، في كتابها عن الإمارات “بدوا لي برجوازيون”، بأن النخبة الحاكمة بالإمارات تهدف إلى تحديث المجتمع الإماراتي ليواكب العولمة والتحول لاقتصاد ما بعد النفط. وهي ترى أن النخبة تستخدم أدوات الهندسة الاجتماعية للتأثير في قلوب وعقول المواطنين الإماراتيين لصنع مواطن جديد يتسم بصفات نيوليبرالية مثل المخاطرة، وريادة الأعمال، والإبداع في مجال الأعمال، وخدمة المجتمع وتنمية الحس النقدي للإبداع وحل المشاكل.

كما تسعى الهندسة الاجتماعية إلى تنمية الحس القومي والولاء للإمارات وحكامها، ما يشجعهم على العمل والاعتماد على الذات والمشاركة في تنمية البلاد. وخلال هذا يحاول حكام الإمارات محو العقلية السلبية الناتجة عن الدولة الريعية التي تعتمد على توقع الوظائف من الدولة.

حكام الإمارات لا يستخدمون العنف لتحقيق هذا، بل يستخدمون أدوات غير قمعية مثل المناهج التعليمية والمشاريع والإعلام.

كما أن المناهج الدراسية الإماراتية تحتوي على مناهج إجبارية من الفصل الأول للثاني عشر لتعزيز قيم المواطنة الجديدة والانتماء للإمارات.

وربما المثير للاهتمام ليس فقط محتوى المناهج الدراسية الجديدة بل البيئة المدرسية الجديدة. وهنا، تشير “جونز” إلى تنظيم المدارس الإماراتية رحلات للخارج، هدفها جعل الطلاب يعتمدون على أنفسهم في حياتهم الشخصية، بالإضافة إلى اعتماد رياضات قتالية مثل الجوجيتسو لتعزيزها الانضباط.

وتشدد المدارس الجديدة على الالتزام بالمواعيد وجعل الطلاب ينتقلون من غرفه إلى أخرى بدلًا من أن يأتي المعلم إليهم كما كان في السابق. وكذلك تم إطلاق برنامج “البيارق” الذي يدرب طلاب الثانوية على التدريبات العسكرية والشرطية ومهارات حياتية مختلفة.

تلك الممارسات التأديبية كلها إنما تستهدف زرع التأديب الذاتي والاعتماد على الذات داخل المواطن الإماراتي لتستقر قيم وممارسات المواطنة الجديدة داخله.

أسطورة البنى التحتية

المشاريع الضخمة والاحتفالات لها دور أيضًا في تشكيل المواطن الخليجي الجديد.

تلاحظ “جونز” -على سبيل المثال- أن احتفالات الإمارات بالعلم وريادة الأعمال تهدف إلى غرس تلك المقومات من خلال التأثير الناتج عن الاستعراض.

هذا النمط يشبه استحداث يوم العلم بالسعودية في 2023. هي استعراضات واحتفالات هدفها الأهم غرس قيم الابتكار وريادة الأعمال المطلوبين في اقتصادات ما بعد النفط.

حكام الإمارات أيضًا يعيدون اختراع صفات المواطن والهوية الإماراتية الجديدة بتشجيع قيم التسامح والسعادة لتتناسب مع طموح الحكام لمكانة الإمارات في العالم، ومن هنا، تم إنشاء وزارات مثل التسامح والسعادة تمكن النخبة الإماراتية من غرس تلك القيم -التي تتناسب مع العولمة وموقع الإمارات كمركز للسياحة والاستثمار- في حيوات المواطنين الإماراتيين.

صناعة أساطير قومية جديدة هو أمر محوري للنخب الحاكمة في السعودية والإمارات. إذ تفتقر دول الخليج لأساطير قومية قوية توحد ذاكرة الأمة حولها، نظرًا لحداثة تاريخ هذه البلدان وخاصة الإمارات. لذا، تلجأ إلى الاعتماد على المشاريع والمباني الضخمة لبناء أساطير جديدة تربط بها الأمة.

اقرأ أيضًا: صوت صاحب السمو يعلو على الخبير والشعب.. في تناقضات البيروقراطية والأوتوقراطية بالسعودية

والبنية التحتية هنا تلعب دورًا في هندسة الهوية الجديدة، حيث أن المشاريع الاستثمارية الضخمة ومشاريع البنية التحتية لا توفر فقط وظائف جديدة في القطاع الخاص بل تسهم أيضًا في تشكيل الهوية الجديدة للمواطن الإماراتي كتجسيد لرؤية الحكام لمستقبل البلاد، وتربط التاريخ الإماراتي بالحاضر. ومن أمثلة ذلك، استخدام إحدى قطع الآثار المكتشفة في ساروق الحديد كشعار لمشروع اكسبو 2020. ولقد تمت الإشارة إلى رمزيتها في السردية الرسمية للمشروع كاستمرار للحضارة والتنوع الثقافي في الإمارات.

اكسبو 2020 في الإمارات كان أحد أبرز الاستعراضات الضخمة التي أرادت الإمارات أن تجعله أسطورة يجتمع عليها الإماراتيون.  صناعة الأساطير القومية بالمشروعات هي سياسة يستخدمها الحكام السعوديون بكثرة، فالمشروعات القومية الضخمة مثل نيوم أو المربع (الذي يحاكي شكل الكعبة) هي تجسيدات مادية لصناعة أساطير حديثة تعزز الحس القومي لدى السعوديين.

الهويات القومية الجديدة أيضًا لها بعد عسكري هام، فيما يمكن تسميته بالقومية العسكرية. إذ جعلت الإمارات الخدمة العسكرية إجبارية، بالإضافة إلى التوسع في استخدام الاستعراضات العسكرية في المناسبات القومية.

هذا يشابه الدور الذي يلعبه مهرجان الجنادرية في السعودية ويتضمن الاحتفاء بتضحيات وتاريخ الجيش السعودي، واستخدام الرمزيات العسكرية في الاستعراضات العلنية. هي كلها أمور تهدف إلى تعزيز دور الجيش في حياة السعوديين والإماراتيين بما يساهم أيضًا في صناعة أساطير قومية معاصرة موجهة للأجيال الجديدة.

منتج النخب الحاكمة

لقد وضعت النخب السعودية والإماراتية الجديدة رؤية لما يجب أن يبدو عليه المواطن الجديد.

الانتماءات القبلية والدينية أصبحت غير مناسبة مع الهويات القومية الحديثة التي يتخيلها حكام الإمارات والسعودية. والمواطن الريعي الذي كان يكافئ لسلبيته أصبح اليوم غير مرغوب فيه، وتعده النخب الحاكمة الجديدة نموذجًا على الكسل وعائقًا أمام جعل بلدانهم تواكب التغيرات السياسية والاقتصادية.

وعلى الرغم من سعى حكام الإمارات والسعودية لإعادة تشكيل قيم مجتمعاتهم، يبقى شيء واحد لا يتغير وهو الولاء للحكام والابتعاد عن السياسة. فكل من حكام الإمارات والسعودية يستبدلون صناعة قيم وهويات جديدة تبقي على شرعيتهم وسلطتهم في المجتمع بأسس الشرعية القديمة مثل الدين، ولكن بأشكال وأدوات مختلفة، مع الحفاظ على انضباط شعوبهم والطاعة للسلطة.