ما هو كامن تحت السطح السياسي في إسرائيل ،أخطر بكثير مما هو ظاهر فوقه من احتجاجات، وتفاعلات وصلت إلى تخوم العصيان المدني.

تحت ضغط الاحتجاجات غير المسبوقة، ترددت في الفضاء العام الإسرائيلي أوصاف “الانقلاب” و”الحرب الأهلية” و”التفكيك من الداخل”، أو “التدمير الذاتي”، كأنها أفعال على وشك أن تقع لا محالة.

كل شيء مطروح لإعادة الفحص.. كل سيناريو وارد ومصير الدولة بين قوسين كبيرين.

عنوان الاحتجاجات “الإصلاحات القضائية”، لكنها ليست صلب الأزمة.

بقوة الضغط الداخلي والدولي معا، تراجع رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتانياهو” خطوة إلى الخلف معلنا تعليق “الإصلاحات القضائية” دون التخلي عنها.

هكذا جرى لجم الانفجار الداخلي مؤقتا.

لا “نتانياهو” تراجع عن خططه لوضع يد السلطة التنفيذية على أعمال القضاء، والتحكم في تعيين القضاة وقرارات المحكمة العليا نفسها.. ولا الذين يناهضونه مستعدون أن يخدعوا أنفسهم بأنه قد تراجع، أو أنه باسم الحوار والتهدئة لن ينقض كعادته على أية وعود يقطعها على نفسه لدى أقرب فرصة!

إنه فعل اضطراري حتى لا تتفكك حكومته وتطوى صفحة حياته السياسية.

كان تعطيل العمل في مطار “بن جوريون” وميناء “أشدود” وفي المدارس والجامعات، وتأهب السفارات الإسرائيلية بالخارج لخطوات مماثلة ،إشارات عميقة لما وصلت إليه الأزمة الداخلية من تدمير ذاتي، يكاد يضرب الدولة بالعطب الكامل.

بقوة الحقائق، فإن الأزمة بنيوية لا طارئة، ودواعيها ماثلة في بنية الدولة العبرية.

هذه هي الحقيقة الأساسية في الأزمة الإسرائيلية المستحكمة.

يستلفت الانتباه في الإصلاحات القضائية المقترحة، أنها توفر حماية قانونية لقيادات في الحكومة الإسرائيلية الحالية من الملاحقة، وأولهم “نتانياهو” نفسه.

الدوافع الذاتية حاضرة في المشهد الإسرائيلي، لكنها ليست صلب الصراع الجاري.

أنه صراع على طبيعة الدولة بين نزعتين متجذرتين:ــ الأولى، تزاوج في أفكارها بين العلمانية والصهيونية على النحو الذي صاحب إعلان الدولة منذ (75) عاما بالضبط في (15) مايو (1948).

هكذا كان شأن “ديفيد بن جوريون” و”ليفي أشكول” و”جولدا مائير” و”شيمون بيريز” و”إسحاق رابين” حتى “مناحم بيجين” الزعيم التاريخي لليمين.

والثانية، تعمل على إزاحة أية ادعاءات علمانية وديمقراطية من المشهد، والتحول إلى دولة يهودية بالكامل، دولة فصل عنصري صريحة ومباشرة، لا تعترف بأية حقوق للفلسطينيين أو أن لهم وجود من الأصل.

لفترة طويلة تعايشت النزعتان في بنية الدولة.

الأولى تكفلت بإضفاء صفة الحداثة والديمقراطية عليها دون أن تنكر على الثانية وجودها المتغلغل، مصالحها وتصوراتها، ما دامت أنها في خلفية الصورة لا في صدارتها.

بمضي الوقت تآكل اليسار الإسرائيلي، واختفى جيل الآباء المؤسسين، الذين تمتعوا بالقدرة على المناورة والخداع وتسويغ دولة الاحتلال كواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط!

على حساب اليسار المتآكل تمدد اليمين، واليمين المتطرف في بنية المجتمع، وأخذت مقولاته تهيمن على الخطاب العام.

هناك من أفزعته في الغرب المفردات “العنصرية” لبعض وزراء حكومة “نتانياهو”، كأنها طارئة على المجتمع الإسرائيلي.

وهناك من أبدى تخوفاته من التدهور الحادث في الصورة الإسرائيلية، كأنها مقحمة على إرث طويل من الحروب،والتنكيل والتهجير القسري والتقتيل وهدم البيوت.

تحت صخب الاحتجاجات، تنظر إسرائيل الآن إلى صورتها في المرآة بنصف نظرة لا بنظرة كاملة.

في النصف الأول، كلام كثير عن الانقلاب على الديمقراطية ودولة القانون والعلمانية.

الحجج تسعفه في إبداء المخاوف ،دون أن يستكمل النصف الآخر بالنظر إلى الأزمة المقيمة، أن هناك شعبا كاملا يرزح تحت الاحتلال، يتعرض لأصناف التمييز العنصري كافة، تنتهك أبسط قواعد العدالة معه.

الصمت شبه مطلق على المأساة الفلسطينية، تنزع أية جدارة إنسانية في الحديث عن الديمقراطية، والعدالة وحقوق المواطنين.

لا يختلف هنا “يائير لابيد” زعيم المعارضة، ورئيس الوزراء السابق عن “نتانياهو”، كلاهما ارتكب جرائم الحرب نفسها بالضفة الغربية المحتلة، في جنين ونابلس بالذات، وأمر بالترويع والقتل باسم الأمن الإسرائيلي.

لم يكن ما دعا إليه وزير المالية اليميني المتطرف “سموتريتش” من حرق قرية “حوارة”، وإلغائها من الوجود كعقاب جماعي لعملية قام بها أحد أبنائها، جديدا تماما على إرث العصابات المسلحة التي قتلت وأحرقت وشردت مئات الآلاف عند تأسيس الدولة.

لقد تحدث بصراحة كاملة عن المسكوت عنه في الخطاب الإسرائيلي.

إنها النازية الجديدة بكامل أوصافها وأفعالها.

كأن الديمقراطيةوهي قيمة إنسانية وسياسية، لا تسري قواعدها على الفلسطينيين!

ثم أفلتت الحقائق من تحت ركام الأكاذيب المعتادة، على لسان الوزير الإسرائيلي نفسه بالدعوة علنا إلى احتلال الأردن، مستخدما خريطة لإسرائيل تضم الضفة الغربية وحدود الأردن.

إنها أوهام إسرائيل العظمى.

كان ذلك داعيا إلى إدانات عربية وخليجية واسعة، شملت دولا لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل فيما أطلق عليها “الاتفاقات الإبراهيمية”.

الديمقراطية لا يمكن أن تقترن بالعنصرية، أو أن تكون تسويغا لارتكاب جرائم حرب.

نحن أمام “ديمقراطية مشوهة” بالمعنيين الحقوقي والإنساني.

بصياغة أخرى فإنها “ديمقراطية يهودية” تقف حدودها عند حواجز المجتمع اليهودي لا تتعداها.

الوجود العربي على الهامش، والفصل العنصري ضده حاضر في الممارسات اليومية.

في كل الحكومات الإسرائيلية، دأبت قوات الأمن على حماية هجمات المستوطنين على المسجد الأقصى.

كان الثمن السياسي الذي حصده وزير الأمن القومي اليميني المتطرف “بن غفير” ،مقابل موافقته على تعليق “الإصلاحات القضائية”، إنشاء حرس وطني يخضع لسلطته باسم حماية الحدود ،فيما مهمته الحقيقية قمع وتقتيل الفلسطينيين بالضفة الغربية.

هكذا جرت تسوية الخلافات في الحكومة الإسرائيلية على حساب الفلسطينيين ،دون أن يطرأ احتجاج على ذلك التطور الخطير في بنية أية دولة ،تحترم القواعد القانونية في إدارة شؤونها.

نحن أمام ميليشيا مسلحة ،تفلت عن أي حساب ولا تضبطها أية قواعد ،وتمولها الخزينة العامة الإسرائيلية.

هناك بالفعل ميليشيات مسلحة في صفوف المستوطنين، أعلنت تأهبها لقمع احتجاجات الشوارع.

كان ذلك مشروع حرب أهلية مؤكدة تفلت بعدها التفاعلات عن أي محاولة ضبط أو سيطرة.

الجديد إضفاء شرعية على تلك الميليشيات، تجنيدا وتسليحا وتهربا من أي حساب.

أحد الأسباب الجوهرية لـ”الإصلاحات القضائية” المقترحة، فرض هيمنة الحكومة على المحكمة العليا، التي تمثل من زاوية ما حاجز أمان للجيش الإسرائيلي من أن تحاسب قياداته أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم الحرب.

كان ذلك داعيا لغضب الجنرالات، بأكثر من أي كلام آخر حول الديمقراطية والعدالة.

الإصلاحات تسقط فعليا أية ادعاءات، أن هناك قضاء مستقلا يتولي النظر في أية مخالفات وتجاوزات ترتكب، وهو ما لم يحدث أبدا!

إنه الأمن الإسرائيلي قبل وبعد أي شيء آخر.

باليقين تلقت نظرية الأمن الإسرائيلي أخطر ضربة لها منذ حرب أكتوبر (1973).

الجيش بدا شبه مفككا، اعتراضات معلنة في مستوياته العليا، رؤساء الأركان السابقون وقادة الأجهزة الأمنية وضباط الاحتياط من نخبة الطيران.

كان انضمام وزير الدفاع “يوآف جالانت” لزملائه العسكريين في التحذير من العواقب الوخيمة، داعيا لطرح سؤال الجيش ومدى جاهزيته والشروخ التي تنخر في نظرية أمنه.

إقالته بدت استفزازا للجيش الإسرائيلي وعودته عبرت عن التخبط الكبير في إدارة الدولة العبرية.

وقد كان مثيرا للالتفات اتهام الإدارة الأمريكية بتمويل الاحتجاجات والعمل على تفكيك التحالف اليميني الحاكم.

للأزمة أسبابها الحقيقية، غير أن السياسات الإسرائيلية الحالية لا تأبه كثيرا بما تريده واشنطن من تهدئة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى تتفرغ للحرب الأوكرانية، التي قد تقرر مصيرها كقوة عظمى منفردة بقيادة العالم.

استخفت إسرائيل بمقررات اجتماعي “العقبة” و”شرم الشيخ” الأمنيين، كأنها لم تحضر أو تشارك أو توقع عليها.

ليس مستبعدا أن تدرس الإدارة الأمريكية بقوة تمركزها في إسرائيل سيناريو تفكيك الحكومة الإسرائيلية دون صدام مباشر.

ثم أن العنصرية الزاعقة في أكثر الحكومات الإسرائيلية يمينية، لا تدع مجالا أمامها للادعاء بأنها تحارب معركة الديمقراطية في أوكرانيا.

لم يكن أحد يجرؤ على وصف تجربة الفصل العنصري ضد الإنسان الأسود في جنوب إفريقيا أنها ديمقراطية، أو الادعاء بأن مستويات الحياة المرتفعة للإنسان الأبيض تعبير عن نمو وازدهار.

يستلفت الانتباه هنا أن فلسطيني (1948) الذين يعيشون خلف الجدار ،ويحملون هويات إسرائيلية لم يشاركوا في الاحتجاجات، رغم أنهم كتلة سكانية كبيرة، ربما اعتقادا أنهم شاركوا أو لم يشاركوا فلن يتغير شيء في وضعهم كـ”مواطنين من الدرجة الثانية”.

أخطر السيناريوهات المحتملة أمام “نتانياهو” اللجوء لعملية عسكرية كبيرة ضد إيران، أو في لبنان للقفز فوق حقول الألغام التي تحيطها.

بين احتمالي المضي إلى حافة “التدمير الذاتي”، والاندفاع إلى العمل العسكري رغم المحاذير الدولية، قد تأخذ الأزمة الإسرائيلية المتفاقمة مداها الأخير.