في فرنسا يحتج الناس، ولا تتراجع الحكومة عن قرار رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، وفي إسرائيل تظاهر الناس واحتجوا؛ فتراجعت الحكومة عن مشروع تعديل قانون السلطة القضائية.
لماذا لم تتراجع الحكومة الفرنسية وتراجعت حكومة الدولة العبرية؟ ولماذا في تجارب كثيرة تتراجع السلطة السياسية عن بعض أو كثير من قرارتها وفي حالات أخرى لا تتراجع؟ ولماذا هناك نظم تسقط بفعل الاحتجاجات حتى لو تراجعت عن قراراتها المرفوضة بل ويكون ذلك فرصة لكي يطلب الناس رحيلها؟ ولماذا في حالات أخرى يكون تراجعها هو طوق النجاة ويكون بداية لقبولها وتصحيح مسارها؟.
الاحتجاجات الاجتماعية
الاحتجاجات الاجتماعية والمظاهرات لأسباب اقتصادية ومطلبية، هي ساحة معركة بالنقاط بين السلطات الحاكمة والشعوب، ففي معظم التجارب المعاصرة يكون أمام النظم القائمة فرص أكبر في النجاح حين تتعامل مع احتجاجات ذات طابع اجتماعي أو مطلبي، سواء بتمسكها بموقفها كما فعل ماكرون، أو بالتراجع عنه كما فعل الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، حين حاول في منتصف تسعينيات القرن الماضي أن يمرر قانون مشابه للحالي بمد سن التقاعد، وتراجع عنه عقب احتجاجات واسعة في الشارع، بالمقابل فقد أصر ماكرون على موقفه رغم الاحتجاجات، ولا تزال أمامه فرصة كبيرة لفرض إرادته على الشارع؛ لأن الموضوع يخضع لتوازنات قوى، والناس لن تستطيع الاستمرار في مظاهرات من أجل مطلب اجتماعي إلى ما لا نهاية.
وقد تكون الخبرة المصرية في هذا الإطار مع الاحتجاجات الاجتماعية ذات دلالة، فقد شهدت البلاد في 18و19 يناير 1977 مظاهرات عارمة رفضا لقرارات الرئيس السادات برفع أسعار مجموعة من السلع، ونتيجة لهذه الاحتجاجات تراجع الرئيس عن قراراته، حتى لو كال التهم للمتظاهرين، في حين أن تنازلات مبارك الكبيرة التي قدمها للمتظاهرين في 25 يناير بما فيها رحيله عقب نهاية مدته لم تقبل؛ لأن الموضوع لم يكن احتجاج على رفع سلعة إنما على شرعية نظام.
والحقيقة أن الاحتجاجات الاجتماعية أي تلك ذات الأهداف المطلبية، لا تؤدي عادة إلى سقوط النظم والحكومات، إلا لو تحولت إلى مطالب سياسية كما جرى مع نظام البشير في السودان الذي احتج الناس لأشهر على ارتفاع أسعار المحروقات، ثم رفعوا شعارات سياسية أدت لسقوط النظام، نتيجة طبيعته الاستبدادية التي جعلته لا يمتلك خطوط رجعة لا مصداقية لكي يثق الناس في تراجعه أو في أي حلول وسط يقدمها.
وعادة ما تتكرر الاحتجاجات الاجتماعية بصورة أكبر وأكثر سهولة من الاحتجاجات السياسية، فالأولى تعرفها مختلف النظم السياسية، ويمكن التعامل معها بالتفاوض والحلول الوسط، وقد تؤدي لتغيير حكومات في النظم الديمقراطية، ولكنها لا تسقط نظما، أما الاحتجاجات السياسية، أو التي تختلف على جوهر النظام القائم أو على قرارات تمس أسس النظام، فإنها لا تقبل في أغلب الأحيان الحلول الوسط وتطلب تراجع طرف أو كسر إرادته لصالح الطرف الآخر.
التناقض السياسي
الاحتجاجات السياسية، أو احتجاجات الخلاف على جوهر توجهات النظام القائم، لا تقبل عادة “القسمة على اثنين”، ولا بد أن يتقدم أو ينتصر طرف، أو يتراجع أو يخسر طرف آخر. فالاحتجاجات التي شهدتها إسرائيل مؤخرا جاءت ردا على قانون السلطة القضائية، الذي اعتبره تيار واسع من الشعب يهدف لهدم دولة القانون، وسيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، ناهيك عن كون هذه السلطة تضم عناصر من اليمين المتطرف الذي يحرض كل يوم على العنف والإرهاب، ويعمل على إدخال عناصر دينية متطرفة داخل الأجهزة الأمنية تحت مسميات مختلفة. إن هذه النوعية من الخلافات لا تقبل عادة الحلول الوسط، ولذا سنجد أن نتنياهو أعلن تأجيله لقانون القضاء.
هناك تجارب أخرى شهدها العالم، وفي القلب منه العالم العربي، عرفت تناقضات سياسية جوهرية بين المحتجين والنظم القائمة، أسفرت عن تفوق أحدهما (بصرف النظر عن نجاحه بعد ذلك من عدمه)، فثورة يناير في مصر تحولت إلى “معادلة صفرية”، رغم أنها لم تطمح في البداية إلى إسقاط النظام، ولكنها نجحت في ذلك ولم تثق في التنازلات التي قدمتها السلطة طوال أحداث يناير ورفضتها، على خلاف ما يمكن أن يحدث في الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية التي يكون عادة التراجع عن “القرار المشكل” سببا مباشرا في إنهاء الاحتجاج.
أما معركة النظام السوري مع المعارضة، فقد كانت بدورها “معادلة صفرية” انتصر فيها النظام لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن، ولم يقدم أي تنازلات دستورية أو قانونية للمعارضة؛ لأن طبيعة الخلاف بينهما على الجوهر والأساس، وليس على جوانب اقتصادية أو مطلبية.
الانتفاضات السياسية التي تختلف مع جوانب جوهرية في توجهات النظام القائم، يكون لها مخرج في النظم الديمقراطية بتراجع السلطة عن “القرار المشكل”، أو يغيرها الشعب بالأدوات الديمقراطية. أما في النظم الاستبدادية فهي لا تقبل الحلول الوسط، وتكون قدرة قوى الاحتجاج على الانتصار في هذه المعركة متوقفة على نجاحها في ضم عناصر محايدة لصالح موقفها، أو تحييد عناصر مؤيدة للنظام القائم، أي أن قوى الاحتجاج على المواقف السياسية لا تستطيع أن تنتصر في معركتها ضد السلطة الحاكمة بالاعتماد فقط على المعارضين، إنما يجب أن تضم عناصر أخرى محسوبة على الطرف الآخر أو محايدة.
من المؤكد أنه لا توجد قوانين محكمة في العلوم الاجتماعية مثلما هو الحال في العلوم الطبيعية، تضع نهايات حتمية للاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، إلا أن المؤكد أن النظم الديمقراطية قادرة على إيجاد حلول ومسارات آمنة للتعامل السلمي مع كل من التناقضات السياسية والاجتماعية.