أولًا: مراجعات السياسة الخارجية الأمريكية:
نشرت مجلة الشؤون الخارجية “Foreign Affairs” الأمريكية في عددها الأخير الخاص بشهري مارس وإبريل، مَقالَيْن هامَّيْن يتضمنان وجهتي نظر متعارِضَتَيْن حول مراجعة السياسة الخارجية الأمريكية. الأول، للبروفيسور أندرو باسيڤيتش أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بُسْتُنّْ، بعنوان:
“الإقرار الذى لم يتم – لماذا تظل الولايات المتحدة مأخوذة بأوهام السيطرة”.
“The Reckoning That Wasn’t – Why America Remains Trapped by False Dreams of Hegemony”
والثاني، للسفيرة سامانثا پاور الصحفية والدبلوماسية الأمريكية المرموقة رئيسة وكالة المعونة الأمريكية، ومندوبة الولايات المتحدة الدائمة السابقة لدي الأمم المتحدة بنيويورك، بعنوان:
“كيف يمكن للديمقراطية أن تنتصر – الطريق الصحيح لمكافحة الاستبداد”
“How Democracy Can Win – The Right Way to Counter Autocracy”
ترتيب البيت من الداخل، وتقليص الدور الخارجي:
ينتقد المقال الأول المنهج الحالي للسياسة الخارجية الأمريكية الذي تأسس أثناء الحرب العالمية الثانية، وتبلور من خلال ورقة مجلس الأمن القومي رقم NSC 68 التي أعدتها إدارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية في مطلع خمسينيات القرن الماضى؛ وترسخ أثناء الحرب الباردة، ثم توطد مع انتهائها وسقوط جدار برلين؛ ويقوم على أن الولايات المتحدة يجب أن يكون لها دور بارز فى النظام العالمي باعتبارها القوة العظمى الرشيدة لتشجيع النظم الديمقراطية ومواجهة الفاشية والنازية -ثم الشيوعية، ثم الإرهاب والاستبداد؛ وأن ذلك الدور يجب أن تساندَه قوةٌ عسكريةٌ للردع والتدخل عند اللزوم لتتولى الولايات المتحدة دور الشرطة في النظام العالمي.
ويوضح المقال أن ذلك الدورَ المُتَصَوَّرَ إنما يعكِسُ نزعةً تدَّخُلِيَّةً عُدوانية تَدْفَعُ بها الشركات الصناعية العسكرية التي تزكي الحروب في مختلف أنحاء العالم لتسويق منتجاتها، ولا تتورع عن توريط الولايات المتحدة في حروب ونزاعات عسكرية لا لزوم لها، ولا جدوي منها، تحقيقا لمصالحها.
ويوضِّحُ أنه رغم أن الرئيس الأمريكي الراحل أيزنهاور قد كشف هذه النزعة الخبيثة في خطبة الوداع التي ألقاها عند انتهاء ولايته الثانية عام 1961، حين ذكر أنه يخشى من سطوة المجمع الصناعي العسكري الذي يحاول توجيه الحكومة الأمريكية لتحقيق مصالحه؛ فإن مجموعات المصالح التي حذر منها نجحت في توريط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وإشغالها في الحرب الباردة.
ويضيف أن التخبط في حرب ڤيتنام لم يفلح في إقناع القوى المسيطرة في الحكومة الأمريكية بعكس ذلك؛ بل أن الاتجاه التدخلِيَّ نفسَهُ ازدادَ بالانتصار في الحرب الباردة، ثم طرد العراق من الكويت. ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر وتداعيات حرب العراق لِتُبْرِزَ عدم نجاح ذلك المنهج عمليا؛ لكن المؤسسات الأمريكية لم تستجب.
ويشير إلى أن ترامب تبنى شعار “أمريكا أولاً”، وأعلن اعتزامه التركيز على مواجهة صعود مكانة الصين ومنافَسَتِها للولايات المتحدة؛ لكنه تبنى ذلك الشعار بأسلوب شعبوي دون فهم متطلباته الحقيقية، حتى أن جهلَه ورعونتَه ساهما في التقليل من أهمية ذلك المنهج. ثم يوضح أن انسحاب بايدن من أفغانستان أتاح فرصةً أخرى للتركيز على مصالح الولايات المتحدة وتعزيز قدراتها الذاتية بعدما تبين أن منهج تعزيز القوة العسكرية الأمريكية بصورة عالمية لا يمكن أن يحقق النجاح في مواجهة التحديات الحقيقية التي أصبحت تواجه الولايات المتحدة بما فيها صعود مكانة الصين، وتغير المناخ، والانقسام الداخلي، وعدم القدرة على السيطرة علي الحدود، ولا على توليد فرص العمل اللازمة لنمو الاقتصاد ومواجهة البطالة.
لكن الوقت لم يتسع لاستيعاب درس الانسحاب من أفغانستان حتى جاءت الحرب الروسية علي أوكرانيا لتُزكِّي الاتجاه التدخلي من جديد؛ رغم أنها في الحقيقة أثبتت ضعف الجيش الروسي وعدم قدرته على اقتحام عاصمة أوكرانيا، وهو ما كان يجب أن يُقْنِعَ الولايات المتحدة بأن أوروبا الغربية تستطيع تحمل مسئولية مواجهة روسيا وتحقيق الأمن في أوروبا وحدَها دون الحاجة إلى تورط الولايات المتحدة.
ويخلص المقال إلي أنه لا يمكن تعزيز مكانة الولايات المتحدة العالمية دون ترتيب بيتها من الداخل؛ وأن ذلك يتطلبُ التعامُلَ مع الأمور بجدية ورزانة، وإدراك حدود الموارد والقدرات المتاحة لها، وتوفيرَ الجهد الذي لا لزوم له وفقاً للمنهج الذي نادى به جورج كِنان مدير التخطيط السياسي بالخارجية الأمريكية غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ وأن ذلك يستلزم الآن عدم الدخول في حروب لا داعي لها، وتقليص التواجد العسكري في الخارج، وخفض الإنفاق العسكري بحيث لا يتعدى 2% من الناتج القومي.
التدخل النوعي في الخارج لنصرة الديمقراطية:
أما المقال الثاني فيشير إلى أن الولايات المتحدة والنظم الديمقراطية واجهت موجة من تصاعد الاستبداد في العالم خلال السنوات الماضية، تمثلت في ارتفاع شعبية الأحزاب الشعبوية في عدد من الدول الديمقراطية؛ وقمع روسيا للمعارضة في الداخل، وقيامها بدعم الاستبداد حول العالم من خلال التدخل في الانتخابات في الدول الأخرى ونشر الأخبار الكاذبة، وإطلاق مرتزقة شركة ڤاجنر حول العالم؛ وإحكامِ الصين لسيطرتها على المعارضة، وسَعْيِها لتوظيف استثماراتها حول العالم للحصول على التأييد في المحافل الدولية، فضلاً عن إخضاعها لهونج كونج، وسعيها لإخضاع تايوان؛ ودخول روسيا والصين في مشاركة استراتيجية في يناير 2022، قُبيل الغزو الروسي لأوكرانيا. ثم يوضح أن تلك الموجة بدأت تنحسر مع فشل روسيا في تحقيق انتصار سريع في أوكرانيا، وانكشاف تراجع قوتها العسكرية.
ثم يقر المقال بأن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية ركزت في الماضي على مساندة الديمقراطية حول العالم من خلال دعم الحقوق والحريات، مع تجاهل المسائل المرتبطة بعدم المساواة والمصاعب الاقتصادية التي تستغِلُّها القيادات الشعبوية للوعد بتحسين الأوضاع الاقتصادية، في الوقت الذي تُقَلِّصُ فيه الحريات السياسية. ويؤكد أنه يجب من الآن فصاعدا اعتبار الدعم الاقتصادي الذي يحترم المعايير الديمقراطية دعماً ضرورياً للديمقراطية، لأنه يُحَسِّنُ أوضاع الشعوب، ويُثْبِتُ أن الديمقراطية تستطيع أن تحقق نتائج عملية مباشرة، قد لا تستطيع حريةُ الصحافة، ولا حيويةُ المجتمع المدني وحدُهُما تحقيقَها.
ويضيفُ أن ذلك الدعم الاقتصادي ضروري بصفة خاصة في الدول التي استطاعت عزل نظم مستبدة سواءً من خلال انتخابات، أو احتجاجات سلمية، أو حِراكات سياسية؛ لأن تفاقم المشاكل الاقتصادية يجعل الشعوب تكفر بالديمقراطية وتندم علي ما قدمته من تضحيات من أجلها، مما يتيح لأقطاب الاستبداد في النظام العالمي اكتساب حلفاء من خلال دعم النظم التسلطية للقضاء علي أحلام الديمقراطية والحكم الرشيد، خصوصاً وأن النظم الديمقراطية الناشئة ترث ميزانيات مثقلة بالديون، واقتصاديات مفعمة بالفساد، وأجهزةَ دولةٍ قائمة علي المحسوبية.
وينتقد المقال بهذه المناسبة استثمارات الصين لمساعدة الدول النامية علي بناء الطرق والمواني ومنشآت البنية التحتية في المدي القصير، ويعتبر أنها تؤدي إلي إعاقة النمو علي المدي الطويل، لأنها تكبل الدول الفقيرة المثقلة بالديون بديون جديدة بدون شروط تفضيلية، وترفض في معظم الأحيان تخفيض الديون أو تخفيف شروطها. ويوضح أن المساعدات التي تقدمها دول مثل الصين وروسيا للدول النامية لا تخضع لمعايير الشفافية، ولا تراعي المعايير البيئية، ولا تطرح أسئلة على السلطات الحاكمة حول وِجْهَتِها النهائية، أو عدالة توزيعِها، مما يشجع علي ممارسة الفساد، ويؤدي في النهاية إلي إهدار موارد الدول التي تتلقاها.
ويشير المقال كذلك إلى التحديات الجديدة التي تواجهها النظم الديمقراطية والحريات العامة، من خلال شبكات الفساد، ونشر الأخبار الكاذبة العالمية؛ وكذلك تقنيات التجسس الإلكتروني التى توفرها شركات كبرى للحكومات الاستبدادية من أجل السيطرة علي شعوبها. ويذكر بالاسم شركتي الاتصالات “ن س أو – NSO” الإسرائيلية، و”التكنولوجيات الإيجابية – Positive Technologies” الروسية. وينتقد في هذا الإطار مبادرة طريق الحرير الرقمية، التي توفر الصين من خلالها تقنيات المراقبة لما يزيد عن 80 دولة حول العالم.
ويوضح أن الديمقراطية تتعرض لتحديات حقيقية نتيجة تفاعل عوامل متشابكة تتضمن الاستقطاب والانسداد السياسي الداخلي، وعدم المساواة وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الأخبار الكاذبة، وصعود الصين كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة، وانتشار الاستبداد الإلكتروني الهادف إلى قمع حرية التعبير وتوسيع سلطات الحكومات؛ وأن هذه التحديات تتطلب معالجة داخلية؛ لكنها تحتاج كذلك لتضافر الجهود الدولية للتغلب عليها. ويخلص المقال إلى أن علي النظم الديمقراطية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تحمُّل مسئولية دعم الديمقراطيات الناشئة؛ وأن عليها الاستجابة للتحديات الجديدة التي تواجه الديمقراطية من خلال زيادة الدعم الاقتصادي، والاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الحقوق السياسية والحريات العامة؛ وتطوير التقنيات المضادة لتقنيات التجسس الإلكتروني، ومقاطعة الشركات التي توفرها للدول الاستبدادية؛ وبناء القدرات لمواجهة حملات الأخبار الكاذبة؛ ومكافحة وفضح ممارسات الفساد على مستوى العالم.
ثانيًا: المصالح الوطنية وتطور التوازنات العالمية:
هكذا يتضح أن هناك اتجاهين لمراجعة السياسة الخارجية الامريكية. الأول يغلب عليه الطابع الانعزالي، والثاني يغلب عليه الطابع التدخلي لتعزيز النموذج الأمريكى عالمياً. ويعكس هذان الاتجاهان الإدراكَ المتزايد للتغير التدريجي فى توازن القوي فى النظام الدولى بتَرَاجُعِ وضع الولايات المتحدة التي كانت تُعْتَبَرُ خلال العقود الثلاثة الماضية القوة الغالبة دون منافس؛ وصعود مكانة الصين كقوة تُنَافِسُ بشدة علي موقع الصدارة في النظام الدولي؛ وأن صعود الصين هذا لن يكتمل إلا علي حساب الولايات المتحدة.
والواقع أن موازين القوى في النظام الدولي تتطور بالفعل، لكن نمط العلاقات التي تحكمه ما زال يتضمن وجود أقطاب أو نماذج تُحتذى، وتحالفات تتم على ذلك الأساس؛ مما يولِّدُ ضغوطاً على الدول التي تتمتع بمكانة أقل في النظام الدولي لاختيار المعسكر الذي تعتقد أنه سوف ينفعُها، مقابل اتخاذ مواقف معينة.
ويعكس ذلك استمرار التكامل والتفاعل بين جميع مُكَوِّنَاتِ النظام الدولي، بما يجعل من الصعب تنفيذ الأفكار الانعزالية الصرفة من باب: “دولَتِي أو وطني أنا أولاً” بصورة مُطلقة. إذ لا شك أن الاهتمام بتعزيز القدرات الذاتية للدولة وتنمية إمكاناتها الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية بصورة مضطردة ومستقلة قدر الإمكان، هو الخطوة الأولي التي لا غني عنها نحو القدرة علي التعامل السليم مع النظام الدولي أيا كانت توازناته.
لكن تحقيق ذلك لا يمكن أن يتم بمعزل عن الدول الأخرى، إذ لا توجد دولةٌ واحدةٌ أو مجموعةٌ محدودةٌ من الدول تمتلِكُ جميعَ الموارد من مواد خام، وإمكانات مالية، ومعرفة تقنية بمفردها -ولو كانت الصين، أو الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي.
وقد كشفت الأزماتُ العالميةُ المتتاليةُ خلال الأعوام الثلاثة الماضية حقيقةَ ذلك عملياً، سواءً كانت تلك الأزمات مرتبطة بجائحة كورونا -التي أثَّرت علي العالم أجمع، أو بالطاقة وأسعار الوقود -التي تتأثر بها الصين، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والدول النامية غير المنتجة للطاقة؛ أو بإنتاج وتصدير الحبوب والمواد الغذائية -التي يتأثر بها الجميع؛ أو بإنتاج وتصنيع الموصلات وأشباه الموصلات- التي تتأثر بها الدول الصناعية مثل الصين، والولايات المتحدة، وتدفعُها إلى التكالُب على استقطاب الدول التي تمتلك مخزون المعادن النادرة.
ومن ناحية أخرى، حتى لو تم التركيز على “دولة ما أولاً”، واستطاعت تلك الدولة جدلاً تحقيق أكبر قدر متاح من الاكتفاء الذاتي، فإن الدول الأخرى والتفاعلات الإقليمية والعالمية لن تتركَها وشأنها. وإذا كان ذلك صحيحاً بالنسبة للدول الكبرى ذات المكانة العالمية، فما بالُنا بالدول الأقل مكانةً.
في إطار ذلك، يتجه الفكر التقليدي إلى محاولة الاستفادة من تطور ميزان القوى العالمي من خلال المناورة مع أقطابه لتحقيق المصالح الوطنية للدول الأقل مكانة. وهذا منطق لا خلاف عليه؛ لكن الأهم هو تحديد ماهية المصالح الوطنية المقصودة. إذ تتراوح هذه المصالح بين الحفاظ على الوحدة الإقليمية، وتحقيق التنمية المستدامة، ومن ثَمَّ الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واكتساب دورٍ إقليميٍّ وربما دوليٍّ؛ وبين الاحتفاظ بالحكم، ومواجهة القوى المُعَارِضَة التي قد تهدد فرص الاستمرار في المنصب.
ثالثًا: تطبيع النظم السياسية:
تجدر الآن ملاحظة أنه رغم تعارض رؤيتَيِّ مراجعة السياسة الخارجية الأمريكية المعروضتين أعلاه، فقد جمع بينهما عنصرٌ هام هو الإقرار بتطور الظروف وبعدم ملاءمة السياسات القائمة، وضرورة اتباع سياسات مختلفة للتعامل معها: عدم ملاءمة استمرار السعي للقيام بدور عالمي، وضرورة ترتيب البيت من الداخل في المقال الأول؛ وعدم ملاءمة التركيز علي الحريات والحقوق السياسية وحدها، وضرورة التعامل مع الجوانب الاقتصادية لدعم الديمقراطية في الثاني. إذ لا شك أن الإقرار بعدم ملاءمة الأساليب السائدة هو الخطوة الأولي لمعالجة الأوضاع القائمة.
ويقودُنا ذلك إلي إعادة التفكير في كيفية الاستفادة من إعادة تشكيل توازنات النظام الدولي. فإذا اتفقنا علي أولوية ترتيب البيت من الداخل، فإن معيار الاستفادة من التنافس القائم في النظام الدولى يجب أن يرتبط بوسائل تحقيق الحقوق السياسية والحريات العامة، إلي جانب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وفي نفس الوقت. إذ أن تكامل تلك الحقوق هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق ما يمكن أن نُطْلِقُ عليه استدامةَ الدولة، بما تتضمنه من عناصر للصلابة والمرونة في نفس الوقت تَضْمَنُ التماسك والاستمرار، في مقابل التفكك والفشل. إذ إن التركيز علي مجموعة من الحقوق دون الأخرى لا يؤدى إلا إلى ضياع المجموعتين معاً -مصداقاً لقول بنيامين فرانكلين بأن من يُضَحُّون بحريتهم من أجل أمنهم لا يستحقون الأمن ولا الحرية.
وإذا قبلنا إقرار المقال الثاني بعدم ملاءمة تركيز الدول الغربية علي الحقوق السياسية وحدها، فإن ذلك يدفعُنا إلي الدعوة للإقرار في المقابل بعدم ملاءمة المنطق المعاكس الذي يزعم التركيز علي تحسين الأحوال الاقتصادية علي حساب الحقوق السياسية والحريات العامة، ويتعامل بحساسية شديدة مع ما يُطْلِقُ عليه المشروطيات السياسية التي تتعلق بحقوق الإنسان محلياً -بحجة النفاق أو المعايير المزدوجة حيناً، وبحجة وجود مؤامرات دولية تستهدف نشر الفوضي والاضطرابات أحياناً؛ بينما لا يجد غضاضة في الانصياع لمشروطيات أخرى تتعلق بفرض تحالفات إقليمية معينة، أو التخلي عن قضايا مصيرية، أو تشجيع تطبيع العلاقات مع أعداء سابقين، أو تقديم تنازلات إقتصادية أو إقليمية، أو اتخاذ مواقف معينة في المنظمات الدولية؛ ما دامت ابتعدت تلك المشروطيات عن المسائل المرتبطة بالحقوق السياسية، والحريات العامة، والحكم الرشيد. فالواجب الرئيسي للحكومات –الذي تُحاسَبُ عليه أمام شعوبها في الدول الطبيعية- يتمثل في توفير وحماية جميع حقوق شعوبها سواءً كانت حقوقاً إقتصادية، أو إجتماعية، أو سياسية.
فإذا كان لا يمكن توفير حياة كريمة بدون توفير الحد الأدني من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من سكن، ومأكل، ومشرب، وفرص عمل ملائمة؛ فلا شك أنه لا يمكن الزعم بتوفير حياة كريمة دون توفر حريات التعبير، والسفر، والعمل الأهلي، والسياسي، مع توفير الضمانات اللازمة للأمن والسلامة من الملاحقة أو الاضطهاد نتيجة ممارسة تلك الحريات؛ وتوفير قضاء نزيه مستقل للفصل في المنازعات أياًّ كان مصدرُها وأياًّ كانت أطرافُها؛ إذ إن توفير تلك الحقوق مُجْتَمِعَةً هو الضمان الوحيد للاستقرار والاستدامة، وما يمكن أن نُطْلِقُ عليه “تطبيع النظام السياسي” ذاته، أي خروجه من دائرة الأزمات السياسية، والإقتصادية، والأمنية التي لا تنتهي؛ ومن دائرة القوانين الاستثنائية التي يَتِمُّ تشريعُها خِصيصاً لقمع المعارضة السياسية، أو مواجهة تهديدات إرهابية، أو تشجيع الاستثمارات الأجنبية. إذ المطلوب أن يصبح النظام السياسي في النهاية نظاماً طبيعياً، قابلاً للاستمرار والاستدامة، وفقاً لقواعد وقوانين عادية مستقرة معلنة ومعروفة، تُنَظِّمُ مختلفَ الأنشطة التي تتم فيه، وتستطيع التعامل مع ما يمكن أن يواجهه من تحديات أياً كانت طبيعتها؛ وتنطبق علي جميع المؤسسات والأفراد دون تمييز؛ ويتم الاتفاق والتوافق عليها بصورة شفافة، ونزيهة، ومقبولة من أغلبية المواطنين؛ وتسمح بتداول السلطة، ومُحاسبتِها، وبلورة السياسات اللازمة لمواجهة التحديات التي تُواجِهُهَا الدولة، وتغيير تلك السياسات، ومحاسبة المسئولين عن صياغتها وتنفيذها عند فشلهم في تحقيق أهدافها.