مشهدان في رمضان:

الأول: ـ صلاة التراويح في أحد المساجد التي يقوم عليها واعظ من الأوقاف، صف وحيد لا يكاد يكتمل برغم أنه يخفف في صلاته.

الثاني: ـ صلاة التراويح في أحد المساجد الموجودة في نفس المنطقة، والتي يشرف عليها واعظ من الأزهر الشريف، وبرغم أن القارئ يصلي بجزء إلا إن المسجد ممتلئ بالمصلين والمصليات.

لقطتان تبرزان بعضا مما جرى للمجال الديني على مدار السنوات الثماني السابقة الذي قام على السيطرة الكاملة عليه والتحكم في كل مكوناته؟ وتطرح اسئلة عما يمكن أن نرصده في المشهد الديني المصري من ظواهر؟ وهل نجحت السيطرة في تحقيق أهدافها؟

ظواهر خمس: ــ

أولا: ـ بعد ثماني سنوات من السيطرة على المجال الديني لايزال هناك من هو قادر علي اسماع صوته خارج المنظومة الرسمية للدين، بل تبدو الأخيرة ليست علي قلب رجل واحد.

القدرة على الاسماع تأتي من الوسائط التي باتت متاحة أمام منتجي المحتوي الديني من فتوي ووعظ وفكر لا يمكن السيطرة عليها بأي شكل من الأشكال، وهي وإن كانت المؤسسات فيها مهمة لكن أهم ما تتيحه هذه الوسائط هو تمكين الفرد من تقديم محتوي، ويصير معيار النجاح فيه هو القدرة على تلبية احتياجات المؤمنين ومتطلباتهم.

لم تعد المساجد التي تم تأميمها بإحكام هي الأماكن التي يسعي المؤمنون للبحث فيها عن الخطابات الدينية، وأزعم أن إضعافها بالخطب الموحدة وإغلاقها الدائم بعد الصلوات قد دفع المؤمنون للبحث عن المحتوي الديني في وسائط أخري. تكاد تخلو المساجد من فئة الشباب وخاصة جيل زد-الذي ولد أواخر القرن الماضي ويمثل 20% من السكان- والذي لا نعرف عنهم شيئا؛ فهم متواجدون بكثافة على التيك توك وإنستجرام حيث يعيشون في عالمهم الخاص الذي -على حد علمي لم تتوفر دراسات بعد لفهمه.

يلفت نظرنا ناثان براون إلى ظاهرة تعقيد المشهد الديني في المنطقة إذ يشير إلى أنه:” على نحو متزايد، تعرضت سلطة الأصوات الدينية الرسمية لتحدي جهات غير رسمية. يقف بعض هؤلاء الفاعلين خارج الهياكل الرسمية بالكامل، لكن قد يجد البعض الآخر مأوى في أجزاء أكثر استقلالية من المؤسسات الدينية الرسمية، مما يزيد من تعقيد المشهد الديني في العديد من البلدان.”

ثانيا: ـ أما إن المنظومة الرسمية ليست علي قلب رجل واحد، فقد كانت أحد مكونات إدارة الشأن الديني من النظام بعد 3/ 7 هو إزكاء التنافس فيما بين المؤسسات الثلاث: الأزهر والأوقاف والافتاء.

أنتجت مجموعة الواجبات الدينية التي تقوم بها الدولة سلسلة من البيروقراطيات المترامية الأطراف التي لا تملك دائمًا القدرة على التصرف كأجزاء في كل متماسك.

إن تحليلا عميقا يظهر أن المؤسسات الدينية الرسمية ليست مجرد أدوات للنظام بل هي أيضًا ساحات للصراع. كما أظهر أن هذه الكيانات لديها إحساس برسالة ومصالح مؤسسية، تختلف أحيانًا عن بعضها البعض، وفي حين أنها تتماشى عمومًا مع النظام، فإنها لا تزال متميزة عنه. يُظهر جهاز الدولة أنه ليس هيئة متماسكة. بالأحرى، هو صوت يمكنه التعبير عن العديد من الاهتمامات، والتوجهات، والأصوات المختلفة – حتى في بعض الأحيان- لبعض المعارضين للنظام.

إن إزكاء التنافس بين مكونات الإسلام الرسمي في مصر بالإضافة إلي ما أشرت إليه في البند السابق؛ جعل هذه المؤسسات تعجز عن أن تقدم للمصريين إطاراً معيارياً عاماً للإسلام يمكن أن يحقق التجانس بين كافة التوجهات الدينية التي تعج بها البلاد، وهي مهمة أظنها مستحيلة في الزمن المعاصر لأسباب يطول شرحها، لكن يمكن أن نلفت النظر إلي أن الفرد وليس الجماعة أو المجتمع هي التي تحكم الاستهلاك المادي أو المعنوي الآن، لذا فإن أية محاولة لسوق الجميع أو قطاع معتبر منهم في صعيد واحد وهم كبير، ولا يعني هذا أن الممارسات الاجتماعية المحافظة والقمعية المرتبطة بالثقافة العسكرية التي يجري إشاعتها لا تعمل على قدم وساق في دوائر أخرى، لكن الممارسة الشخصية الفردية للتدين تتسع دوائرها خاصة لدى الشباب.

تخلص أحد الأوراق البحثية إلى أنه على الرغم من أن التدين لا يزال جانباً هاماً من جوانب الحياة العامة المصرية، إلا أن الأثر الكلي لتدخلات النظام وتقليص المساحة التي تتحرك فيها المؤسسات الإسلامية كان له أثر سلبي على ثقة المجتمع عامة، والشباب خاصة في السلطة الدينية، ولكن على ما يبدو فإن شيخ الأزهر يمثل استثناء من ذلك.

وهكذا؛ فإن المؤسسات الدينية عالقة بين أولوياتها ومصالحها ورسالاتها، فضلاً عن مطالب الأفراد والفئات المتنافسة في المجتمع، وما يطلبه النظام منها من أدوار.

ثالثا: هل استطاعت المؤسسات الرسمية أن تنتج أيديولوجية مناهضة للإسلام السياسي أو التطرف العنيف؟

يمكن للنظام استخدام سيطرة الدولة على الجهاز الديني لنشر الرسائل الأيديولوجية، ولكن كيف الحال إن لم تكن هناك أيديولوجيا أصلا؟

تحولت الدعوة التي أطلقها الرئيس السيسي إلي “تجديد الخطاب الديني”، وتبنتها المؤسسات الإسلامية الرسمية إلى وجهات نظر أكثر عمومية للتدين المطلوب، هذا أولا: وثانيا: فإن المتتبع للخطاب الديني الذي يقدمه الرئيس وبعض مؤسسات الدولة – خاصة دار الإفتاء- يلحظ أمرين متشابكين معا:

1ـ مزج السياسي بالديني، وتوظيفه في الصراع السياسي أو لتأكيد الشرعية ودعم بعض السياسات والقرارات، وهو ما قام عليه فهم الإسلام السياسي. صحيح أنه نجح ولو إلى حين في القضاء على تنظيمات الإسلام السياسي، ولكن الفهم الذي تأسست عليه هذه التنظيمات لايزال يشيع في الفضاء العام ويعززه هذا النمط من الخطاب أيضا.

2 ـ تجري مناقشات لنقض خطابات الإسلام السياسي، والتطرف العنيف مع عجز كامل عن تقديم أفكار بديلة لمقولاته وأفكاره التي يرتكز إليها – أي تجري عمليات تخلية لهذه النوعية من الأفكار دون تحلية بأفكار ومفاهيم جديدة.

لاحظ أحد الباحثين المختصين بالعمارة الإسلامية ثلاث ملاحظات هامة حول نوعية الإسلام الذي يريده النظام من خلال تتبعه لوقائع افتتاح المركز الإسلامي أول يوم من رمضان: هو إسلام يراد له أن يكون جديدا ولو في الشكل بالرغم من عدم تحديد ما المقصود بالجديد، وبعيد عن الناس، يغلب عليه الاهتمام بالزينة أكثر من الجوهر.

نلحظ الجديد في أن الافتتاح جرى في صلاة الفجر وليس الجمعة – كما جرت العادة، ولم يكن في وسط الناس العادية بل بعيدا عنهم، وأخيرا؛ فإن أسامة الأزهري – مستشار الرئيس للشئون الدينية- كان أولي به أن يفتتح المركز بخطاب يحدد لنا فيه ملامح الإسلام الذي تريده الجمهورية الجديدة بدلا من استعراض زخارف الدواوين.

ولكن أين نجد أيديولوجية النظام؟

نجدها في طبيعة نموذجه السياسي/الاقتصادي الذي يقوم على التحكم والسيطرة في المجال السياسي، والنيوليبرالية الاقتصادية – وفق وصفة صندوق النقد الدولي التي ترتكز على انسحاب الدولة من الاقتصاد والديون والقطاع الخاص الكبير، والاستثمار الأجنبي والنمو الاقتصادي لا التنمية والاندماج في السوق الإقليمي والدولي …إلخ

هل لهذا النموذج الاقتصادي أن يعزز السوق الحرة للدين أم يجري عليه ما يجري على السياسة من تقييد؟

رابعا: اتسمت القيادة السياسية في نظام 3/ 7 وعلى خلاف القيادات السياسية المصرية السابقة بأن لها رأيا دينيا محددا في بعض القضايا مثل الطلاق الشفوي، وهي تسعي لتحويله إلى سياسات وقواعد وقوانين تفرض بسلطة الدولة، وهو ما يثير معارضة من بعض المؤسسات كالأزهر، كما قد يثير معارضة مجتمعية في المستقبل، وقد يفتح بابا لعدم الدستورية، وقد يقدم مادة جديدة لمعارضي النظام من على أرضية دينية للتشكيك في شرعيته الدينية.

يتواكب مع هذا رغبة من النظام في إعادة صياغة هوية المصريين البصرية التي تبرز في شكل المعمار العام الذي يقوم -وفق إحدى الباحثات في مناقشة معها- على تراجع الإسلامي منها لصالح الفرعوني -كما يبرز في محطات المترو، والقطارات.

صاحب ذلك إطلاق العنان لأصوات تشكك في بعض الأسس التي يقوم عليها الفهم الديني لعموم المصريين وهو ما يستفز قطاعات منهم، وقد يدفع بهم للمحافظة الدينية في وقت يلح فيه النظام على التجديد الديني.

خامسا: لدى الأنظمة العربية عمومًا أربعة اهتمامات في المجال الديني:

1 ـ يرغبون في الحصول على دعم لسياساتهم وأيديولوجياتهم.

2- يسعون إلى منع المعارضين السياسيين من استخدام المساحات الدينية للتعبئة سعياً وراء أجنداتهم الخاصة. وإذا تعذر ذلك، فإنهم يسعون إلى مراقبة مثل هذا النشاط أو قمعه.

3- في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، أظهروا اهتمامًا خاصًا بالجماعات المتطرفة، والتي قد يكون بعضها عبر وطنية بطبيعتها.

4- غسيل السمعة الدولية سواء من خلال مشاركتهم في الحملات الدولية لمكافحة الارهاب أو بتقديم أنفسهم باعتبارهم مصلحين دينيين.

ربما نجح النظام في النقطتين: لثانية والثالثة، ولكن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها عموم المصريين وسجله السيء في حقوق الانسان يلقي بظلال كثيفة على إمكانية التقدم في النقطتين: الأولي والرابعة.

إن الترويج لما يسميه الحكام العرب ‘الإسلام المعتدل” عن طريق مؤسسة وتنظيم المجال الديني يعني الوصول إلى صورة عن الإسلام لا تمثل تهديداً لكياناتهم السياسية وبقائها، وليس إسلامًا يقلّم أظافر التطرف والعنف بالفعل، ولا يعبر عن صوت الناس وتطلعاتهم للعيش الكريم.