إذا كانت هناك عبارة من المفترض أن تحدد ماهية السياسة الخارجية للولايات المتحدة هذه الأيام، فهي “الحاجة إلى دعم نظام قائم على القواعد”. بدا هذا جليا في التكرار الثاني لما يسمى بـ “قمة الديمقراطية”، حيث عملت إدارة بايدن لتجميع مجموعة من الدول ذات التفكير المماثل، في محاولة لتقوية النظام الحالي.

في جداله حول النظام الدولي في فورين بوليسي/ Foreign Policy، يشير ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إلى أن القول بأن الولايات المتحدة تحاول فقط التمسك بالقواعد هو “قول مهذب”، بدلاً من القول إن هدفها هو الحفاظ على تفوق الولايات المتحدة إلى الأبد، أو إضعاف الصين بشكل دائم، أو الإطاحة بالحكومات التي لا تحبها، أو تقويض خصومها الآخرين.

بدا هذا جليا في التكرار الثاني لما يسمى بـ “قمة الديمقراطية” حيث عملت إدارة بايدن لتجميع مجموعة من الدول ذات التفكير المماثل

يقول والت: عندما يقول المسؤولون الأمريكيون: “نظام قائم على القواعد”، فإنهم يقصدون النظام الحالي، الذي وضعت قواعده -في الغالب- في أمريكا.

يضيف: ليس وجود القواعد في حد ذاتها هو ما يدافعون عنه. يجب بالضرورة أن يكون أي نظام يشمل الدول الحديثة قائمًا على القواعد، لأن التفاعلات المعقدة لعالم معولم لا يمكن إدارتها بدون معايير وإجراءات متفق عليها. تتراوح هذه المعايير من المبادئ الأساسية إلى الممارسات اليومية العادية.

يثير هذا السؤال التالي: أي أجزاء من النظام الحالي تتوق الولايات المتحدة أكثر للدفاع عنه؟ وما هي المعايير الأكثر أهمية؟

اقرأ أيضا: معهد واشنطن: أمريكا تتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان في لبنان

بالنسبة للكثيرين في الغرب، فإن العنصر الأساسي للنظام العالمي اليوم هو العمل ضد الغزو الإقليمي. كما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين الصيف الماضي، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا قد تحدى “المبادئ الأساسية للسلام والأمن.. أن بلدًا لا يمكنه ببساطة تغيير حدود دولة أخرى بالقوة أو إخضاع دولة ذات سيادة لإرادتها أو إملائها خياراتها أو سياساتها”.

قواعد الحروب

ينص الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة، على أنه “يجب على جميع الأعضاء الامتناع في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة، أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية، أو الاستقلال السياسي لأية دولة”. حيث يُلزم الميثاق الدول بحل النزاعات بالوسائل السلمية.

علاوة على ذلك، تمنع اتفاقية جنيف الرابعة الدول من طرد سكان الأراضي المحتلة أثناء الحرب، أو من نقل مواطنيها إلى هذه الأراضي. وبالتالي، إقامة حاجز معياري آخر أمام الحصول على الأراضي بالقوة.

لذلك، يشير والت إلى أنه ليس من المستغرب أن تصبح الرغبة في التمسك بهذا المعيار مبررًا متكررًا للدعم الخارجي لأوكرانيا، خاصة بعد ضم روسيا لأربع مقاطعات أوكرانية، ونقلها القسري للأشخاص من أوكرانيا إلى روسيا في مسار الحرب.

لم تقنع هذه القاعدة ضد الغزو الدول بعدم الذهاب إلى الحرب، أو حتى محاولة كسب الأراضي، ولا توجد أمثلة كثيرة في التاريخ، حيث فكرت الحكومة في حرب غزو ثم امتنعت عن قادتها لأن قادتها أدركت أن هناك قاعدة تقول :إنه خطأ.

يقول والت: بالنسبة للجزء الأكبر امتنعت الدول عن أعمال الغزو واسعة النطاق، ليس بسبب معيار، ولكن لأن القومية والوفرة من الأسلحة الصغيرة عادة ما تجعل حكم الأجانب مكلفًا وصعبًا.

ومع ذلك، قد تلعب هذه القاعدة دورا، فإذا كان العدوان واسع النطاق، يجعل من المرجح أن تأتي أطراف ثالثة لمساعدة الدولة التي تعرضت للهجوم، كما فعل تحالف كبير عندما استولى العراق على الكويت في عام 1990. وكما فعل حلف شمال الأطلسي، منذ غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2022.

لكن، هل حشدت الدول الضحية لأنها كانت تدافع عن قاعدة، أو لأنها أرادت منع حدوث تحول سلبي في ميزان القوى، أو تحقيق هدف استراتيجي آخر، ربما كلاهما.

محاولة استيعاب دولة

يشير والت إلى أنه كما هو الحال مع معظم المعايير، ما يحدث حقًا هو أن الدول تجد طرقًا للتغلب عليها.

يقول: كانت الولايات المتحدة مستعدة تمامًا لانتهاك وحدة أراضي الدول الأخرى، لكنها لا تقسمها إلى أجزاء، أو تضمها بعد استسلام جيش العدو. وبدلاً من ذلك، فإنها تشكل حكومة جديدة مستقلة رسميًا ولكن من المفترض أن تتبع توجيهات الولايات المتحدة -أو هكذا تأمل. هذه المناورة تسمح لواشنطن بالتظاهر بأنها لم تغزو أحدًا. إنه مجرد استبدال عدد قليل من القادة الأشرار بآخرين أكثر امتثالاً.

وأشار إلى أن الفكرة القائلة بأن الدول تصمم حول القاعدة المناهضة للغزو، تكتسب مزيدًا من الدعم من البحث الأخير الذي أجراه دان التمان، باحث العلوم السياسية بجامعة جورجيا.

يقول: أظهر ألتمان أن القاعدة المناهضة للغزو لم تنتج انخفاضًا كبيرًا في محاولات التغيير الإقليمي، لقد غيّر فقط الطريقة التي تتعامل بها الدول مع ذلك، والقدر الذي تحاول تحقيقه. أو كما قال “تطور الغزو هو أحد أعراض تدهور الحرب، وليس سببها”.

وفقًا لبحث ألتمان، بدلاً من محاولة استيعاب دولة بأكملها، من المرجح أن تنخرط الدول الغازية في الأمر الواقع أو الاستيلاء المحدود على الأراضي، من الناحية المثالية في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة والدفاع عنها بشكل خفيف، وعلى أمل ألا تؤدي هذه المكاسب المتواضعة إلى إثارة استجابة دولية كاملة.

من الأمثلة الواضحة، نزاع كارجيل عام 1999 بين الهند وباكستان، والاشتباكات الحدودية المتكررة بين الهند والصين، واستيلاء الأرجنتين على جزر فوكلاند في عام 1982، وجهود الصين في “بناء الجزر” في بحر الصين الجنوبي، وغزو روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014.

لكن، هذه الأمثلة -وغيرها- تظهر أن محاولات الاستيلاء على الأراضي بالقوة لم تنته. وفي بعض الحالات، مثل ضم إسرائيل لمرتفعات الجولان، وجهودها المستمرة لاستعمار الضفة الغربية، والتي لم يفعل المجتمع الدولي الكثير لوقفها أو عكس مسارها.

إذا رأى الآخرون تايوان ككيان منفصل فإن معارضة عالمية أقوى لخطوة صينية ستكون أكثر ترجيحًا

اقرأ أيضا: فورين بوليسي: الدعاية الروسية عن الحرب الأوكرانية تهيمن على العالم العربي

رغبة التدخل

يلفت والت إلى قاعدة أخرى في النظام العالمي الحالي، من المفترض أن تحد مما يمكن للدول أن تفعله مع بعضها البعض.

فبالإضافة إلى عدم الاستيلاء على الأراضي، ليس من المفترض أيضًا أن تتدخل الدول في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. بالفعل، تعود قاعدة عدم التدخل إلى قرون، لكنها مبدأ أكثر ضبابية وتنازعًا من القاعدة المناهضة للغزو.

يقول: في عالم من الدول المترابطة، لا مفر من درجة معينة من التدخل. عندما يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، ستتأثر اقتصادات العديد من البلدان الأخرى مهما حدث. علاوة على ذلك، يختلف الأشخاص العقلاء -والحكومات المختلفة- حول ما يشكل تدخلاً غير لائق، ويعتقد الكثيرون أن هناك حالات يكون فيها التدخل مبررًا، أو حتى مطلوبًا، مثل :منع الإبادة الجماعية، أو عندما تكون الحكومات الحالية غير قادرة على رعاية مواطنيها.

وعلى نفس القدر من الأهمية، كانت معظم الحكومات غير راغبة في التخلي تمامًا عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

يوضح والت: لم يمنع معيار “عدم التدخل” حكومة الولايات المتحدة من استخدام الأسلحة الإلكترونية، أو دعم الجماعات المناهضة للأنظمة في المنفى، أو فرض عقوبات اقتصادية، أو تنفيذ اغتيالات مستهدفة لمسؤولين أجانب. والولايات المتحدة أبعد ما تكون عن كونها فريدة من نوعها.

أيضا، تنخرط روسيا في أنشطة الدعاية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تهدف إلى تعطيل السياسات المحلية في البلدان الأخرى، وقد ابتعدت الحكومات في جنوب الكرة الأرضية عن الالتزام الصارم بعدم التدخل الذي تبناه العديد منهم في أعقاب إنهاء الاستعمار مباشرة.

ويؤكد: عندما يدافع المسؤولون عن النظام القائم على القواعد، فإن القاعدة الصارمة لعدم التدخل ليست في الحقيقة ما يدور في أذهانهم. حتى الدول التي تتذرع بشكل روتيني بمبدأ عدم التدخل -مثل الصين- على استعداد متزايد لانتهاكه.

ما الذي يخبرنا به تحليل المعايير عن أوكرانيا وتايوان؟

يشير الكاتب إلى أنه “من المحتمل أن تكون أخبارًا سيئة لأوكرانيا، لأن التاريخ الحديث يشير إلى أن المجتمع الدولي قد يكون في النهاية على استعداد لقبول قدر من التغيير الإقليمي، شريطة أن تحتفظ معظم أوكرانيا باستقلالها”.

يقول: يُنظر إلى قاعدة ضد الغزو بشكل أكثر دقة على أنها قاعدة ضد القهر أو الاستيعاب الكامل، وهذا يعني أن لدى كييف سببًا للقلق من أن مؤيديها الحاليين سيرغبون في نهاية المطاف في إبرام صفقة.

أما التداعيات على تايوان، فهي أكثر غموضًا، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى وضع تايوان الغامض. إذا كان الآخرون ينظرون إلى تايوان على أنها دولة مستقلة -بحكم الأمر الواقع وليس بحكم القانون- فمن المرجح أن يُنظر إلى محاولة الصين لغزو الجزيرة على أنها محاولة غير شرعية لغزو وإخضاع دولة حرة، شبيهة إلى حد ما باستيلاء العراق على الكويت في عام 1990.

باختصار، إذا رأى الآخرون تايوان ككيان منفصل؛ فإن معارضة عالمية أقوى لخطوة صينية ستكون أكثر ترجيحًا. وإذا كانوا ينظرون إلى تايوان على أنها أقل من دولة مستقلة، أو على أنها شذوذ إقليمي خلفه الحرب الأهلية الصينية، فإن الغزو الصيني يبدو أشبه بالاستيلاء المحدود على الأراضي المتنازع عليها.

يؤكد هذا التفسير الأخير هو الذي تفضله بكين بالطبع، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت الدول الأخرى ستقبله.

وذكّر بأن العراق حاول إضفاء الشرعية على استيلائه على الكويت، من خلال الادعاء بأن الكويت كانت المحافظة التاسعة عشرة المفقودة منذ فترة طويلة. لكن، لم يوافق أحد في التحالف المعارض على ذلك.