بدون اتفاق وإن كان لأسباب مفهومة، تشابهت مئات، وربما آلاف التعليقات على مشهد معين من مشاهد المسلسل الرمضاني “الهرشة السابعة” (تأليف مريم نعوم وإخراج كريم الشناوي).
في المشهد المشار إليه، يعرض الشاب شريف (على قاسم) على حبيبته سلمى (أسماء جلال) أن تعيش معه في مسكنه. اندهشت سلمى من العرض قائلة إنه أغرب “بروبوزال” (عرض زواج) تلقته، لكن شريف يخبرها أنه ليس عرض زواج، وإنما مجرد عرض بالإقامة معه، وصولا إلى الزواج فيما بعد لو شعر الطرفان بالراحة تجاه بعضهما البعض.
في الأفلام الأجنبية كان العرض سيسعد الفتاة، وربما يشعرها ببعض القلق ،بخصوص ما لو كانت تلك الخطوة المهمة خطوة العيش معا قد حان موعدها، وعما إذا كانت سوف تمهد إلى خطوة أكثر قربا في العلاقةأي الزواج، أم أن النتيجة سوف تكون العكس الانفصال.
لكننا لسنا في فيلم أجنبي، ولهذا كان غضب سلمى متوقعا، ومنتظرا حتى من قبل المشاهدين، لقد لبّت سلمى توقعهم في إبداء الغضب لكنها لم تلبي توقعاتهم في “أسباب الغضب”!
غضبت سلمى بسبب الضغوط التي سوف تعانيها من “الناس”، من “الجيران الطالعة والنازلة” من “البواب”. وغضبت أيضا؛ لأنها اعتبرت، أو اعتقدت أن شريف قد “استسهل” تقديم ذلك العرض إليها بسبب سوء علاقتها بأهلها، وافترضت أن أهلها لو كانوا حاضرين في حياتها لما تجرأ شريف على أن يقدم إليها عرضا كهذا.
لكن هذه الأسباب فيما يبدو، لم تكن ما انتظره الكثير من المشاهدين. الذين احتجوا لأن أسباب سلمى لم تتضمن “الحرام”. “خايفة من الناس، والبواب، والجيران، ومش خايفة إنك تعملي حاجة حرام” هكذا قالوا وكتبوا في تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن المُشاهد في تعايشه مع العمل الفني يضع نفسه لا شعوريا في مكان أبطال العمل، وهو ينتظر منهم أن يتصرفوا مثله، أو كما كان سيتصرف، أن يفكروا كما يفكر ويمتلكوا نفس قيمه الدينية، والأخلاقية نفس دوافعه وحججه الاجتماعية. مهما اختلف السياق، ومهما اختلفت الطبقة والفئة،أو الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه شخصيات العمل، فمالم يكونوا موصوفين كأشرار واضحين، وطالما أنهم أشخاص طبيعيون، فإن “الطبيعي” هو أن يتصرفوا كما كان سيتصرف المشاهد.
هل ذكرك هذا بموقف سابق لم يمر عليه إلا سنة وبضعة شهور؟ في ذلك الموقف – دعني أذكرك- استضاف الإعلامي عمرو أديب لاعبنا الأشهر محمد صلاح نجم ليفربول الإنجليزي في مقابلة حصرية، وخلال الحوار التلفزيوني، يسأل أديب :نجم الفراعنة عن “ِشرب الخمر”، وعن موقفه إذا ما عرض عليه – أثناء معيشته وعمله في الغرب – تناول الكحوليات. لنتذكر معا إجابة صلاح على السؤال، إذ قال: “ما بشربش خمور لأنها مش حاجة كبيرة بالنسبة لي عشان أعملها، نفسي على طول مش بتروح لها”، مضيفا أن الناس في بريطانيا “ما بتضغطش على حد أنه يعمل حاجة”.
آنذاك، وعقب إجراء الحوارفي ديسمبر 2021، اندلعت الاعتراضات ذاتها، نسخة طبق الأصل لكنها كانت بالطبع أشد بكثير، بسبب نجومية صلاح الكاسحة، بوصفه أهم لاعب مصري ،وربما عربي وأفريقي أيضا، ولأن تصريحه جاء في مقابلة حصرية مع إعلامي شهير، ولم يقتصر الأمر على مشهد في مسلسل وسط زحام الدراما الرمضانية وأيضا، لأن تصريحات “الملك المصري” تترجم فورا وتذاع في كافة وسائل الإعلام، فقد أراد الكثيرون أن يكون رد صلاح “واضحا” “شجاعا” بما “يليق بلاعب مسلم”، وأن يعلنها صريحة في اللقاء التلفزيوني “لا أشرب الخمر لأنه حرام”. بدلا من تلك التصريحات الرقيقة، وفي رأي البعض الخانعة، أو المجاملة، التي اكتفى فيها بالقول بأنه “لا يحب الخمر”، أو نصا “نفسه مش بتروح لها”، و لو كان الوضع غير ذلك، وكانت “نفسه بتروح لها” لما وجد غضاضة في تناولها. ربما تتذكر أن الغضب كان كبيرا، لدرجة أن دار الإفتاء أشارت بصورة غير مباشرة لتصريحات صلاح عبر تدوينة، كتبت فيها أن “عدم التفكير في إتيان الأشياء المحرمة عبادة في ذاته”. في محاولة لتهدئة الغضب، الذي وصل إلى صب اتهامات على رأس “فخر العرب”، منها اتهامه بـ “تهوين” شرب الخمر أو “إرضاء الغرب” وغيرها من الاتهامات.
لم يكن مهما هنا أن صلاح مسلم ملتزم، ولا أنه يسجد بعد تسجيل كل هدف، ولا أنه من أسرة تقليدية مسلمة، ولا أن زوجته محجبة، ولا أنه يعتبر في بريطانيا نموذجا للمسلم الناجح الذي ساهم في تثبيط الإسلاموفوبيا. بل ليس مهما حتى أنه قال إنه لا يشرب الخمر بل المهم، كما في كل ثقافة لسانية، أن ينطق لسان صلاح بالمطلوب بالضبط، أن يقول نصا “لا أشرب الخمر لأنها حرام”. أن يتحدث كما كان سيتحدث “رسميا” كل شخص من بين مليار ونصف المليار مسلم، أما طرق التعبير الخاصة فغير مطلوبة هنا.
كذلك، ليس مهما أن سلمى في “الهرشة السابعة” رفضت عرض شريف بما يسمى “المساكنة”، ليس مهما أنها غضبت، واحتجت وقاطعته بعدها، ليس مهما أن الدراما – التي تخاطب مجتمعا محافظا في النهاية – قررت زواج سلمى وشريف بدلا من العيش بلا زواج حتى يكتشفا مواطن الاتفاق والاختلاف. ليس كل هذا مهما، المهم أن تنطق سلمى بما ينص عليه السكريبت الموحد، أن تنطق بلسان المجتمع لا بلسان الشخصية، أن تتكلم عن الحرام لا عن البواب ،والجيران والضغط النفسي. وليس مهما أن هناك بالفعل في المجتمع من يعيشون بلا زواج، كما لم يكن مهما في حالة صلاح أن هناك بالفعل مسلمون يشربون الكحوليات. إن هذا وذاك ينتميان إلى الحقيقة، ونحن لا نحب الحقيقة، بل نعشق الصور المتخيلة.