في إطار الأزمة الاقتصادية الحالية، أصبحت مسامع المواطنين أكثر تفهمًا لكثير من المصطلحات الاقتصادية، مثل: التعويم، ورفع الفائدة، وسياسات البنك المركزي، والتضخم، وكثيرًا ما أصبح المواطنون المصريون يسمعون عن مفهوم ميزان المدفوعات، وهو ببساطة سجِل لجميع المعاملات التجارية، والمالية الدولية التي يقوم بها سكان البلد، ويتكون ميزان المدفوعات من ثلاثة عناصر: أهمها الحساب الجاري، بالإضافة إلى الحساب المالي، وحساب رأس المال.

ويقيس الحساب الجاري الميزان التجاري للدولة، بالإضافة إلى تأثير صافي الدخل والمدفوعات المباشرة، وببساطة فإن عجز الحساب الجاري يعنى، أن سكان هذا البلد ينفقون على الواردات أكثر من عائدات الصادرات، وبالتالي تسعى الدول التي تعاني من هذا العجز لتعويضه من خلال جذب التدفقات المالية من الخارج مثل: الاستثمارات الأجنبية المباشرة، أو عائدات السياحة، حتى يتحسن موقف الحساب الجاري.

أما إذا لم تنجح تلك المدفوعات، والتدفقات الخارجية في سد تلك الفجوة، فإن تلك الدول تلجأ للاقتراض بأشكاله وأنواعه المختلفة، لسد هذا العجز، والذي حينما يتحول لعجز مزمن لفترات طويلة، فإنه يدفع عملة تلك البلد نحو الانخفاض نتيجة الطلب المرتفع على العملات الأجنبية، ومحاولة تقليل حجم الواردات، مما يجعل النمو الاقتصادي لهذا البلد أكثر بطئًا.

في هذا الإطار النظري، فإن مصر من ضمن الدول التي تعاني بشكل مزمن من عجز في الميزان التجاري، أحد المكونات الأساسية لميزان الحساب الجاري، وميزان المدفوعات بالتبعية، وكثيرًا في سنوات ماضية ما كان الاقتصاد المصري ينتعش بدفعات تمويلية من قطاع السياحة، بالإضافة لأدوات نقدية أخرى مثل الاقتراض الخارجي بصورتيه طويل وقصير الأجل، وتخفيض قيمة العملة في فترات مختلفة من أجل زيادة جاذبية الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة، بالإضافة إلى رفع تنافسية الصادرات السلعية عبر خفض قيمة العملة.

في السنوات الأخيرة ومع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري المشترك مع صندوق النقد الدولي في ٢٠١٦، انخفضت بالفعل قيمة العمل وأصبح سعر الصرف حوالي ١٥.٦ جنيهًا أمام الدولار الواحد بعد ما كان متوقفًا عند سعر ٨ جنيهات، ومنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية انخفضت قيمة العملة أكثر من مرة خلال عام واحد، نتيجة الضغوط الكبيرة على النقد الأجنبي، حيث خرجت الكثير من الأموال الساخنة إلى الخارج بالتزامن مع سياسات التشدد النقدي للفيدرالي الأمريكي التي لم تتوقف، بالإضافة إلى مشكلة أخرى على جانب العرض نتيجة ارتفاع أسعار البترول والسلع واضطراب سلاسل الإمداد ما دفع البنك المركزي المصري لخفض قيمة العملة وسعر الصرف عدة مرات، من ١٥.٦ إلى ١٨ جنيه، ثم إلى ٢٤ جنيه، ثم إلى ٣٠ جنيه، مع توقعات باستمرار هذا الانخفاض مرات أخرى طالما بقيت الأزمة العالمية مستمرة والتي تلقي بظلالها على الأسواق الناشئة كافة .

بالرغم من ارتفاع قيمة الصادرات المصرية والتي وصلت إلى ٥٥ مليار دولار في العام الماضي في رقم هو الأكبر تاريخيًا، وبالرغم أيضًا من ضبط وتقييد الواردات إما عبر سياسة الاعتمادات المستندية التي انتهجها المركزي المصري لعدة أشهر ثم التراجع عنها رغم تباطؤ حركة الإفراجات الجمركية، ورغم اتخاذ الحكومة عدة مبادرات لجذب النقد الأجنبي عبر مبادرة استيراد السيارات للمصريين في الخارج وزيادة إصدار الرخصة الذهبية، وتشجيع برنامج الطروحات الحكومية في البورصة، إلا أن العجز في الميزان التجاري لا يزال حاضرًا، ولا يزال يلقي بظلاله على الأوضاع المعيشية التي تزداد صعوبة نتيجة انخفاض قيمة العملة، ولا يزال السؤال حاضرًا حول كيفية علاج هذا المرض المزمن في الاقتصاد المصري وكيفية التعامل مع آثاره.

أعلنت الحكومة في الأيام الماضية عن الانتهاء من إعداد مشروع الموازنة العامة للعام المالي الجديد ٢٠٢٣/٢٠٢٤، والذي يتضمن حزمة الدعم الجديدة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية من زيادة الأجور ومخصصات الحماية الاجتماعية، ودعم القطاع الصناعي والزراعي بمبادرات التمويل بفائدة ١١٪، بالإضافة لحزمة جديدة لدعم الصادرات بقيمة ٣٠ مليار جنيه تم الإعلان عنها منذ أيام معدودة، وهي كلها حزمة من الإجراءات الهامة والضرورية لتخفيف آثار الموجة التضخمية الحالية، ومحاولة الإبقاء على معدلات التشغيل والإنتاج للقطاع الصناعي للحد الذي يمنع من تفاقم الأزمة وتعطل الإنتاج.

الأزمة إذًا هي أكبر بكثير من تصورات المدرسة النقدية التي تعطي الأولوية في احتواء التضخم عبر رفع أسعار الفائدة لامتصاص القوة الشرائية، وهي أكبر من الإجراء التقليدي الذي يتجه لخفض قيمة العملة للحفاظ على التدفقات الدولارية الضرورية لتدبير الواردات ودفع مستحقات الفوائد والديون، الأزمة الآن هي كيفية علاج المرض المزمن المرتبط بالعجز في الميزان التجاري، ومن ثم العجز في الحساب الجاري وميزان المدفوعات، لا سيما في ظل استمرار موجة رفع الفائدة عالميًا، والضغوطات التي تمارس على الحكومة لمزيد من خفض قيمة العملة حتى تجذب التدفقات النقدية الأجنبية، وما يتضمنه ذلك من مزيد من الأعباء المعيشية على المواطنين.

العلاج المباشر لأزمتي الميزان التجاري والتضخم، هي ذاتها أسباب الأزمة، وهي الإصلاح الهيكلي الحقيقي، فالتركيز على زيادة الإنتاجية ورفع القيمة المضافة للصادرات المصرية من خلال تعميق التصنيع المحلي وزيادة التكنولوجيا، سيساهم في توفير مزيد من الأموال الأجنبية بصورة أكثر استدامة وأقل تكلفة من الاقتراض وطرح الأصول، وكذلك الاتجاه الضروري نحو البدء في سياسة أكثر تحفيزًا للإحلال محل الواردات في بلد يستورد بأكثر من ٤٧٪ من قيمة وارداته “سلع وسيطة” يمكن تصنيع الكثير منها محليًا، هو أمر ضروري للغاية في خفض فاتورة الواردات وتخفيف الضغط على الدولار، وبالتالي فإن برامج عمل الحكومة لابد أن تستهدف الإسراع نحو تصنيع تلك الواردات محليًا وتطوير قدرات المصنعين المصريين في هذا الاتجاه.

المحاولات الحثيثة التي نشاهدها مؤخرًا من الحكومة لتحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر، عبر خفض تسعير الأراضي وتقديم تسهيلات لها، وتطوير آليات حل المنازعات، وفض التشابكات بين جهات الولاية على الأراضي، بالإضافة لوثيقة سياسة ملكية الدولة، والتخارج المنتظر من عدة قطاعات وغيرها من السياسات التي تهدف لزيادة التشغيل وتوطين الصناعات وجلب التكنولوجيا والأموال من الخارج، هي سياسات تساهم في الإصلاح الهيكلي للاقتصاد، بالرغم من أن المستثمرين الأجانب سيرسلون تحويلاتهم وأرباحهم للخارج قطعًا، لكن أن يتم ذلك من خلال أنشطة إنتاجية وصناعية يعني استمرار عملية تشغيل داخل الاقتصاد الوطني والتوسع في جذب التدفقات الاستثمارية للداخل، بشكل يتجاوز مخاطر تحويل الأرباح للخارج على المدى المتوسط والطويل.

النظرة للمستقبل المتوسط والبعيد، وغض النظر عما هو تحت الأقدام سيساهم في تجاوز الأزمة الحالية، وجعل الاقتصاد المصري أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات العالمية المتتالية، صحيح أن هذا الإصلاح لا يمكن حصد نتائجه سريعًا مقارنة بتدفقات الأموال الساخنة التي نشاهدها رأي العين مباشرة مع رفع أسعار الفائدة وخفض قيمة العملة، لكن هذا الإصلاح الهيكلي الضروري يقينًا سيكون حماية لنا ولاقتصادنا من دائرة مفرغة وخبيثة لا ينبغي أن نستسلم لها.