بيان الأمانة العامة للحوار الوطني الذي صدر منذ عدة أيام، وأُعلن فيه الميعاد النهائي لبدء جلسات الحوار المتعثر منذ نحو عام، فتح الباب لبناء أجواء إيجابية في المشهد السياسي، لا سيما أن البيان قد طالب بقانون جديد، يضمن الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، بما يعني إشرافاً كاملاً من القضاء على الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024.
ثم جاءت استجابة رئيس الجمهورية لمطلب تعديل القانون، وضمان إشراف الهيئات القضائية على الانتخابات، لتزيد من الشعور بأن هناك رغبة لدى أطراف عديدة في تغيير سياسي تستحقه مصر وينتظره شعبها.
بعد يومين فقط من بيان الأمانة العامة للحوار، واستجابة رئيس الدولة، قرأت خبراً على شبكات التواصل الاجتماعي، يؤكد قيام أجهزة الأمن بإلقاء القبض على صديقي وبلدياتي محمد إبراهيم عبد الله، أحد النشطاء السياسيين، وهو رجل ستيني نبيل، يحمل كل صفات أبناء البلد البسطاء، بشهامتهم وطيبتهم وحماسهم للحق والعدل، وهو أحد أعضاء حزب الكرامة في القليوبية، ولا يفعل الرجل أكثر من بعض الكتابات المخلصة، التي تعبر عن قناعاته السياسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد دفع “عم محمد” -كما نناديه- ثمنا من حريته منذ عدة أعوام، واستمر محبوساً على ذمة قضية سياسية، واتهامات باطلة لأكثر من عام ونصف العام، وقد عرفت منذ قليل أن عم محمد قد أحيل إلى نيابة أمن الدولة، التي قررت حبسه لمدة ١٥ يوماً بتهمة نشر أخبار كاذبة ومشاركة جماعة إرهابية في أفكارها.
هكذا، وببساطة تحول عم محمد ابن البلد البسيط المخلص المحب للبلد، وناسه، لمواطن يشارك الجماعات الإرهابية في أفكارها، ليدخل دوامة الحبس الاحتياطي، التي يمكن أن تستمر لشهور أو سنوات.
المؤكد أن محاولات الإيحاء بأن تغييراً يمكن أن يحدث، أو أن هناك تقدماً في المسار السياسي، يخصم منه يومياً الأخبار التي تعلن عن إلقاء القبض على ناشط سياسي لا يفعل أكثر من التعبير عن رأيه، فلا حوار يمكن اعتباره جاداً، أو يمكن الرهان عليه ما دام هناك من يطلق يد الأجهزة الأمنية في القبض على أصحاب الرأي والمعارضين السلميين، وإدخالهم في دوامة الحبس الاحتياطي التي تسرق الأعمار قبل أن تقيد الحرية، وتهين آلاف الأسر بحثاً عن أبنائهم في السجون وأماكن الاحتجاز.
القضية الأولى، والأهم والتي تنتقص من كل دعوات الحوار والانفتاح هي قضية سجناء الرأي، فبأي منطق يمكن أن تبدأ القوى السياسية حواراً يمكن الرهان عليه لبناء المستقبل، بينما الآلاف من السجناء ما زالوا في السجون، وكل أصحاب الرأي ممنوعون من حقهم الدستوري، والقانوني في الرأي والتعبير والكتابة، والناس خائفة ومحاصرة بكل أشكال الترهيب من السجن والحبس والمحاكمة.
في المناقشات التي دارت بين القوى السياسية، والسلطة الحالية طوال العام الماضي ظلت قضية سجناء الرأي هي الأصل، وهي التي يمكن أن تحسم صدق النوايا ،قبل أن تبدأ جلسات الحوار في مايو المقبل، وهي فاتحة الكتاب، ونقطة البدء والرسالة التي نوجهها جميعاً للمجتمع، فإما أن يصدّق الناس أن هناك حوارًا جاداً على وشك البداية، وإما أنهم سيصدرون الأحكام عليه بالفشل قبل أن يبدأ وانتهى الأمر، ليتحول الحوار إلى مهرجان للكلام، الذي لن يدفع البلد خطوة واحدة للأمام، ولن يتابعه أحد أو يهتم به أحد.
الآن، وبعد أن تحددت لحظة بدء الحوار السياسي بات هناك موضوعان لا بد من حسمهما مسبقاً وقبل بدء جلسات الحوار:
أولهما: الإفراج عن كل سجناء الرأي ممن لم يمارسوا العنف بكل صوره، وإرسال رسالة إلى المجتمع بأن صفحة الحبس والقهر البغيضة على وشك الإغلاق، والتعهد من السلطة بالتوقف الكامل والنهائي عن ملاحقة النشطاء السياسيين السلميين، والكتاب والصحفيين، وعدم الزج بهم في السجون على خلفية وجهات نظرهم وآرائهم، وهو أمر لا يمكن الإيمان بجدية الحوار قبل الالتزام به بشكل حاسم ونهائي.
ثانيهما: الاتفاق المسبق على تعديل نص الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، ليصبح الحد الأقصى للحبس ٣ إلى ٦ أشهر على أقصى تقدير، والتوقف عن سياسة “تدوير” النشطاء السياسيين في قضايا جديدة بعد الانتهاء من مدة الحبس الاحتياطي.
المؤكد أن ملف الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان بات على درجة من الأهمية لا تحتمل تأخيراً أكثر من ذلك، وبات كل حديث لا يبدأ بإطلاق سراح سجناء الرأي، واحترام حريات الرأي، والتعبير والصحافة والإعلام والتظاهر السلمي، لا يمكن التعويل عليه أو الثقة فيه، وباتت ملاحقة النشطاء وتهديدهم بالسجن أمر لا يجب أن يستمر تحت أي ظرف.
بقي أخيراً، التأكيد على أن مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلد لا يمكن أن تبدأ إلا من “السياسة”، ولا يمكن أبدًا الفصل بين أي نجاح يمكن تحقيقه في المسار الاقتصادي، بدون مجال عام سياسي مفتوح يضمن المساءلة والمحاسبة، وقضاء مستقل، يصون الحقوق ويحفظ الحريات، وبرلمان منتخب انتخاباً حقيقياً يحاسب ويراقب، وأحزاب سياسية تقدم البدائل والخطط، وإعلام حر يعبر عن المجتمع وأزماته ويشير لكل صور الفساد والانحراف.
كل هذه الشروط لا يمكن أن تتحقق في مجتمع يحاصر أفكار أبنائه، ويزج بهم في السجون لمجرد التعبير عن رأيهم، ويصمهم باتهامات باطلة وظالمة، لمجرد ممارستهم لحقهم الدستوري في نقد السلطة أو مسئوليها.
إما مجتمع حر ومفتوح، وضمان لحرية الجميع في الرأي والتعبير والاعتقاد، والإفراج عن كل من لم يمارسوا العنف، وإما سنظل في نفس الدائرة التي لا تنتهي من الأزمات والفشل والتخبط، وهي دائرة لن يجدي معها الحديث عن حوار أو انفتاح أو غيره.
الآن وليس غداً: مصر وشعبها يستحقون ما هو أفضل بمراحل من الوضع القائم، يستحقون مجتمعاً يسود فيه الحق والعدل والمساواة والحرية.