الدكتور أمباي بشير لو
زرته في بيته قبل بضعة أيام من وفاته. فكالعادة، لا أزور مصر إلا وقد حججت إليه، سواء في بيته أو في مكتبه بمركز البحوث العربي الإفريقي بالقاهرة. كان دائما يستقبلني كالطود في بشاشة وجهه. ففي هذه المرة، جئته في المساء وقد ضل سائق التاكسي الذي كان يقلنّي الى بيته طريقه، وأوصلني الى مستشفى العجوزة، بدل عنوان المواليمو حلمي. فكنت مضطرا إلى أن أترك السائق يحادثه مباشرة بالهاتف المحمول. فحين وصلنا الى البيت أخيرا، كان المواليمو نازلا في الطابق الأرضي ينتظرني رغم كبر سنه، وتغّول المرض الذي ألم به في السنوات الأخيرة. بادرني كالعادة ب “دكتور بشير، ما زلت لا تعرف الطريق الى البيت بعد مضي كل هذه السنين؟” أجبته بأنه: “مع الأسف، هذا الذي حدث حين تخليت عن الاعتماد على ذاكرتي، واعتمدت على الآلة الإلكترونية للاستدلال إلى بيتك. والحقيقة هي أن عنوان البيت الذي أدخل في الجهاز الآلي لجي بي إس واعتمد عليه السائق كان غير دقيق.
جلسنا في حجرة الاستقبال المُزيَنة بالكتب، والفنون النحتية الإفريقية، والحائط الخلفي يرنو إلينا مزخرفا بشهادات تقديرية متنوعة المصادر، والتواريخ متشابكة الألوان، والرسوم كأنهن شواهد له على، تفرده مكانةً، وتألقِه إنجازا. فالشهادات على تراميها على الحائط المطل، تنم بأن الموديبو حلمي لم يكن بدعة من الرجال، ولم يمر على الحياة مرور الكرام، بل كان قاريا معترفا بإنجازاته وإنسانا نبيلا متواضعا في تعامله مع الآخرين. يسميه إخواننا في الغرب الإفريقي بموديبو (Moodibbo) حلمي، احتراما لسعة أفقه ولأن لقب الموديبو في منطقة سنغامبيا يطلق على سدنة المعرفة ورواد التاريخ، وباقي أبناء القارة الذين يعرفونه يسمونه بمواليمو (Mwalimu) حلمي شعراوي. والكلمة بجذورها في اللغة السواحيلية، تنم عن المعلم والقائد العملي، وقد اشتهر بها الزعيم التنزاني مواليمو جوليوس كامباراج نيريري. وقَل بين الأفارقة من لا يقرن اسمه بالبروفيسور. فقد عاش البروفيسور مواليمو حلمي شعراوي، أو قل البروفيسور موديبو حلمي لأجل مصر وإفريقيا، دونما تردُد أو تودد إذ لم يكن ير ى مجالا للتفريق بينهما.
فإذا كان علماء التاريخ والأنثروبولوجيا يحتارون في تحديد مجرى حضارة وادي النيل، أجنوبا بدأ أم شمالا؟ فحياة مواليمو حلمي شعراوي فكت اللغز في تساؤلهم. فقد عاش إفريقيا ومصريا كما جاء مصريا وإفريقيا. فجينه لا شك كان فرعونيا في سعيه الى هيكلة المؤسسات وتأطيرها للديمومة والتواصل والتلاقح عبر البلاد والحدود. فقد ترأس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية) (AAPS، وبقى عضوا في المجلس التنفيذي لمجلس تنمية بحوث العلوم الاجتماعية في إفريقيا (CODESRIA)، وكان يومًا ما الأمين العام للجنة الدفاع عن الثقافة القومية في مصر، وهو أيضا من مؤسسي دار شرق إفريقيا والجمعية الإفريقية في القاهرة، وهو كذلك صاحب جائزة حلمي شعراوي للدراسات الإفريقية. لقد كان طينه نيليا صافيا ينبع من الجنوب الى الشمال، لكن عطاءه يغذي الجنوب بقدر ما يبقى “هبة” لأهل الشمال.
استقبلني المواليمو على مأدبة عشاء، تخللها الحديث عن مصر، ثم النقاش حول قضايا العولمة الليبرالية وتهشمها على أجساد بلادنا النامية، بعده تطرقنا لموضوع مؤسسة مركز البحوث العربي الإفريقي بالقاهرة، التي كان يرأسها لسنوات وتحدث عن الحاجة الى منظور علمي وعملي، يجعل المركز رائدا في الشأن الإفريقي. ثم ناقشنا موضوع كتاب لي تحت الطبع بالإنجليزية، فأصر المواليمو أن أوفِر نسخة الكتاب باللغة العربية لأهلنا في وادي النيل، ولم يتردد حينها بالاتصال بمديرة دار طباعة بالقاهرة وترتيب لقاء بيننا في نفس الأسبوع. ثم تحدث المواليمو مع أسرتي عبر الهاتف، حين انتهينا من احتساء الشاي مُسلِمًا وسائلِاً عن أحوال الأطفال. وحين تقدم بنا الوقت أعطاني نسخة من كتابه الأخير المسمى “عن الشأن الإفريقي والعربي في حياتنا المعاصرة” والذي صدر العام المنصرم من دار العين للنشر. فلما تصفحته، ألفيت في الصفحة الأولى الآتي: “للصديق العزيز بشير لو، وتحيتي له لزيارته لمنزلي بالعجوزة، بالقاهرة.” وعقبه صحبني الى مدخل السلم التحتي وبمعيتنا طوال وقت المؤانسة زوجته الأستادة توحيدة توفيق.
لقائي الأخير، مع المواليمو حلمي يمثل صورة مصغرة لمجريات حياته الثرية المديدة. وقد عاش أكثرها، وهو على بضعة أميال من أهرامات الجيزة مثلما كان ثراؤه الفكري يحدث على مرمى حجر من مجرى النيل، وكأن الأخير جزء من عطائه لسكان جنوب النهر في عمق إفريقيا ولأهل الشمال من أرض الكنانة.
حياة حلمي شعراوي كانت ثرية مثل لقائنا الأخير: بِرٌ ووُدٌ واحسان، تواصلٌ بالأهل والأصدقاء، ومذاكرة حول البحث العلمي والنهضة التنموية في المنطقة الإفريقية، كرمٌ عربي إسلامي مصري لا يتناقض في فنائه وجود أية انتماءات عرقية أو دينية أخرى. كان المواليمو إفريقيا بمعرفة ودراية للقارة أرضا وشعوبا وتاريخا. حدثني عبر السنوات عن لقاءاته بقادة جبهة تحرير موزامبيق (Frelimo) وتوسطاته لهم ليتخذوا القاهرة ملجأ لبعض أنصارهم أثناء حرب الاستقلال ضد الاستعمار البرتغالي. حدثني المواليمو عبر السنين عن علاقة الرئيس عبد الناصر بالزعيم الغاني الدكتور فرنسيس كوامي أنكروما وكيف تدخلت القاهرة لاستضافة أسرته وبعض أبنائه عقب الانقلاب العسكري علية في غانا. حدثني المواليمو عبر السنين عن رواد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا (ANC) وكيف استقبلتهم القاهرة حاضنةً وداعمةً في عهد الزعيم جمال عبد الناصر. لقد حدثني المواليمو يوما عن الشيك الذي حرره مكتب الزعيم عبد الناصر، وكان من ضمن المكلفين بتوظيف محامي انجليزي للدفاع عن الزعيم الكيني جومو كينياتا بعد اعتقاله من قبل السلطات الاستعمارية البريطانية لدوره القيادي في ثورة ماماو ضدهم.
كان الحكيم والقاضي المالي الجنسية أمادو هامباتي با (Amadou Hampâté Bâ) قد ذهب في بعض جدلياته حول أفضلية الذاكرة الإفريقية على المدونات الأوربية الى القول بأن:
الكتابة شيء، والمعرفة شيء آخر.
الكتابة صورة للمعرفة، وليست المعرفة ذاتها.
المعرفة نور ساكن في باطن الفرد.
إنه تراث كل ما تركه لنا الأسلاف من مدارك.
جماع كل ما عرفوه ونقلوه إلينا كبذرة للمعرفة.
مثلها كمثل أشجار الباوباب العظام التي ببذورها تبدأ حياتها من جديد.
ومما تركه لنا هامباتي با الحكمة الإفريقية القائلة “بموت الكبير عندنا فكأنما مكتبة تاريخية احترقت”. فحياة المواليمو حلمي شعراوي تصديق لهذه العبر الإفريقية، فقد كان مدرسة شفهية مفحمة بذاكرة التاريخ النضالي الإفريقي الحديث، وبفقده اختفت آخر مكتبة للذاكرة الإفريقية الحديثة على ضفاف النيل.
لكن بقدر ما جسد ثراء حلمي التاريخ الشفهي الإفريقي الحديث بقدر ما أثرى يراعه المكتبة العلمية الإفريقية والعربية. فقد كان أنثروبولوجيا في قراءاته للأحداث وأخذه لمنطق التطورات. فقد أخذت الثقافة الشعبية قسطا وافرا من كتاباته، ولعل قوة منطقه كانت تكمن في تعمقه في مسلك علمي تجاهله معظم الكتاب في الوطن العربي. فمن كتبه التي لا يستغني عنها الباحث في الشأن الإفريقي نلقى، على سبيل المثال لا الحصر، الثقافة والمثقفون في إفريقيا، الثورات العربية وإفريقيا، البحث عن الهويةالإفريقية، الثورة الإفريقية في أنجولا وكتاب تراث مخطوطات اللغات الإفريقية المكتوبة بالحرف العربي.
ولعله من حكمة السماء، أن آخر كتاب له كان عن” الشأن الإفريقي والعربي.” وهو مسح استطرادي لكثير من جوانب حياة البروفسور مصبوغة بشواهد تاريخية ومواقف شخصية. فتجد في الكتاب فصلا عن “شخصيات في حياتي”، وفصلا آخر عن “المؤسسات الإفريقية في حياتي”، وفصلا آخر عن “الوصول الى قلب إفريقيا” ثم فصلا آخر حول “خواطر ونمنمات”. وقد ابتدأ الكتاب شارحا ومبررا منهجه، وغرضه في اختيار فحوى الفصول، بأنه “فقد كنت أعيش مع الشعب المصري والشعوب الإفريقية والعربية عامة فترة التحرير الوطني التي عايشت فيها فترة الستينيات خاصة زمن القادة العظام للتحرر الوطني في إفريقيا والعالم المحيط بنا عامة…وخلال ذلك كنت أعود الى المنزل مساء فلا أستطيع أن أنام في أغلب الليالي، قبل أن أجلس الى رفقة هادئة لأكتب بنفسي بعض الخواطر من مجريات حياتي البسيطة”.
لقد صدق المواليمو في تدويناته الصائبة عن إفريقيا، وسوف تبقى دروسا تنويرية للمهتمين بتاريخ القارة السياسي، والثقافي كما الاقتصادي. وقد حقت فيه كل الألقاب التي اكتسبها من أبناء القارة، فكما يقول المثل الولوفي في منطقة سنغامبيا، ” فأصدق الأسامي ما اكتسبته بنفسك غير الذي سميت به عند ولادتك”. فكل ما وصف به من لقب أو سمي به من اسم يشهد على عظمة شخصيته، فقد اجتمعت فيه بحق مواصفات البروفسور، والمواليمو والموديبو. فقد عاش إفريقيا مصريا ومات مصريا إفريقيا على السواء. رحمه الله رحمة واسعة.