مع الإعلان عن موعد بدء الحوار الوطني بعد ما يقرب من عام على إطلاق الدعوة له، والذي ينتظر أن ينطلق وفقا لما أعلنه مجلس أمناء الحوار في 3 مايو المقبل أي بعد حوالى شهر من الآن تقريبا، تصبح الأسابيع القليلة المقبلة أسابيعا حاسمة في بلورة ما قد يجرى فى الحوار وهل سوف يؤسس بالفعل لمرحلة مختلفة أكثر انفتاحا أم سيكون مجرد مشهد شكلي قد يشهد نقاشا عاما وطرحا لرؤى ووجهات نظر لكن دون نتائج حقيقية ملموسة، وإذا كان ذلك يتعلق بالحوار نفسه وما قد يطرح ويدور فيه، فإن نقطة البدء هي انطلاق الحوار ذاته والأجواء المحيطة به والأطراف المشاركة فيه.

من الواضح تماما أن الدعوة للحوار منذ البداية كانت سعيا لفتح مساحات بين السلطة والمعارضة، أيا كانت أسبابها ودوافعها ومبرراتها وتفسيراتها، التي تتفاوت وتتباين من طرف لآخر بل ومن لحظة لأخرى على مدار العام السابق، وسواء كان ذلك لتجاوز أزمات سابقة أو احتواء لأزمات قد تأتي لاحقا، لكن المهم هنا هو أن أساس الدعوة هو أن تشهد ساحة وجلسات هذا الحوار نقاشا بين السلطة والمعارضة على كل ما بينهم من اختلافات وتناقضات، وفي ظل وضع بالغ الدقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وفي ظل أزمات سابقة متعددة بين الطرفين، وفي ظل شكوك متبادلة أيضا لا تزال تخيم على الأجواء العامة ما بين تصورات أن السلطة تسعى لاستخدام المعارضة في تمرير مشهد مؤقت دون أن تقدم على تغييرات حقيقية، أو أن المعارضة تسعى لمكاسب محددة ووقتية دون أن تنخرط في الحوار وتحمل نفسها تبعات ومسئوليات الانتقادات التي قد تنجم عن ذلك أو تحولها في نظر البعض لمعارضة شكلية تقبل مجرد مكاسب جزئية تخصها ولا تنعكس على الوضع العام.

وقد تعرضت الدعوة للحوار الوطني منذ إطلاقها في إبريل 2022 لمحطات عديدة، فما بين زخم وتفاعل صاحبهما تفاؤل واسع لم يكن واقعيا في تقديري، إلى فتور وتردد وربما تغير في مواقف بعض الأطراف التي تحمست في البداية، وما بين مساحات سياسية وإعلامية تعتبر أفضل نسبيا مقارنة بما قبل الدعوة لذلك الحوار لكنها لم ترق لتعد بداية حقيقية لانفراجة جادة وإصلاح سياسي متدرج لكنه منهجي، وما بين عمليات إفراج عن دفعات من سجناء الرأي تسارعت حينا وتباطأت أحيانا، دون أن تحكمها معايير واضحة ودون أن يصاحبها في الوقت ذاته توقف حاسم في عمليات القبض الأمني على حالات مختلفة بنفس المنهج والمنطق لكن بتراجع واضح في الوتيرة والأعداد، وهو على الصعيد السياسي، مع غيره من الإجراءات الاقتصادية في ظل أوضاع بالغة الصعوبة على المستوى الاجتماعى، من الأسباب الرئيسية التي أدت لهذا التراجع الملموس في الزخم والتفاعل مع دعوة الحوار.

ودون شك، فإن المعارضة أيضا شاب أدائها خلال هذا العام كثير من المشكلات، منها ما هو راجع لطبيعة تصوراتها حول هذا الحوار ودوافع الدعوة له، ومنها ما هو متعلق بما وصلت إليه البنى التنظيمية للمعارضة المصرية بسبب مجمل السياسات والأداءات التي جرت على مدار السنوات الماضية، ومنها ما هو متعلق بعدم التوافق والتجانس في وجهات النظر والمواقف في عدد من القضايا التي كانت تأخد وزنا نسبيا أكبر من غيرها لدى بعض الأطراف بينما لا يمثل نفس ذلك الوزن لدى غيرها، فضلا عن تفاوت خلفيات وخبرات قيادات المعارضة بوضعها الحالي، لكن ومع ذلك كله فإن النقطة الرئيسية في ظني كانت هي طبيعة وطريقة إدارة المعارضة لموقفها من الحوار منذ لحظة البداية ومستهدفاتها منه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم قدرتها على الانفتاح على مساحات أوسع خارج فكرة التمثيل الحزبى إلا في حدود ضيقة، وهو أيضا أمر تتحمل مسئوليته المعارضة بقدر والأطراف الأخرى صاحبة المواقف المعارضة خارج الأطر التنظيمية والحزبية بقدر فضلا عن الأجواء العامة السائدة على مدار السنوات السابقة.

في ظل ذلك وغيره، فلا تزال ضمانات ما قبل الحوار هي نقطة الأساس من ناحية لتأكيد أن السلطة جادة في أن الحوار لن يكون مجرد مشهدا شكليا وإنما بداية لمرحلة أكثر انفتاحا واستعدادا للدخول في عملية إصلاح سياسى حقيقى، ومن ناحية لتأكيد أن المعارضة تستطيع من خلال دخولها هذا الحوار أن تطرح رؤى وسياسات وحلولا حقيقية وتستطيع تحقيق قدر من الانفتاح والانفراج النسبى في الأوضاع السياسية بشكل عام وليس فيما يخصها فحسب،

يظل الرهان على أن الحوار رغم كل التعثرات التي جرت ولا تزال، قد يكون نقطة انطلاق لا نقطة نهاية، وهو رهان قد يربح وقد يخسر، وبالتالي فلا يقين نهائي مؤكد، لكن في نفس الوقت هناك فرصة تستحق التجربة، لكن هذه التجربة أيضا تحتاج حد أدنى من ضمانات الرهان عليها، وهو ما لا يمكن تحققه سوى بخطوات أوسع نسبيا من كل ما جرى على مدار السنة الماضية، سواء فيما يتعلق بملف سجناء الرأي، أو فيما يتعلق بتسارع إجراءات إنهاء حالات المنع من السفر أو التحفظ على الأموال أو الرفع من قوائم الإرهاب، أو فيما يتعلق بخطوات تمهيدية تسبق الحوار وتمثل ما قد يكون أقرب لإعلان نوايا مشترك بين الأطراف المشاركة في الحوار، على طريقة ما بادر إليه مجلس الأمناء من تبنى لتوصية تتعلق بالإشراف القضائي على الانتخابات، ورغم أنها نقطة مهمة لكنها ليست الجوهرية سواء فيما يتعلق بالانتخابات عموما أو بقضايا المرحلة الحالية خصوصا، وبالتالي فهناك مبادرات مماثلة قد يستطيع مجلس الأمناء لعب دور فيها، أو تستطيع أطراف السلطة والمعارضة التوصل لاتفاقات فيما يخصها، مثل الإعلان مثلا بشكل واضح عن عزم واضح لتعديل كل المواد الخاصة بالحبس الاحتياطي، ومثل الاستعداد لتحديد معايير واضحة محل اتفاق بغض النظر عن الأسماء لاستكمال مسار الإفراج عن سجناء الرأي دون أن يظل مرتبطا ببدء الحوار الوطنى ومساره، ومثل القبول بتعديلات جوهرية على قوانين الانتخابات، ومثل الاستعداد لسماع مختلف وجهات النظر مهما بلغت حدة نقدها للسياسات الاقتصادية.

مع ذلك كله تبقى أهمية أن تشهد الأسابيع المقبلة تسارعا في وتيرة الإفراج عن قوائم سجناء الرأي خاصة المحبوسين منهم على خلفية قضايا أو مواقف سياسية، وخاصة من قضوا منهم سنوات طويلة في السجون دون أن يتورطوا في قضايا متعلقة بالإرهاب أو الدم، وهو أمر منطقى وطبيعى أن تظل المطالبة به قائمة ومستمرة دون أن يعتبر ذلك من طرف السلطة تعويقا لمسار بدء الحوار، ودون أن يتصور أحد أيضا أن الاستجابة لذلك تعنى أن ملف سجناء الرأي قد انتهى وأغلق، ودون أن تعتبر المعارضة أن ذلك هو غاية المنى والمطلوب كنتائج للحوار.

يظل أن هناك انتقادات في محلها سواء لمسار الحوار أو شكله أو النتائج التي نتجت عن الدعوة حتى اللحظة أو حتى ما قد ينتج عنه لاحقا، وتخوفات قد تكون أيضا صحيحة حول كون تلك مجرد محاولة إحتواء من السلطة للمعارضة، أو على الجانب الآخر مجرد مشاركة لتحقيق مكاسب جزئية للمعارضة تعود بعدها الأمور كما كانت، وكل ذلك وغيره مفهوم ومقبول، لكن ما تحتاجه هذه اللحظة هو الحفاظ على مسار الانفتاح النسبى رغم كل الملاحظات الصحيحة والانتقادات الحقيقية له، ومرة أخرى دون أوهام بأن هناك تغيرات كبرى جرت سواء في طبيعة السلطة أو انحيازات المعارضة، لكنها مجرد محاولة للبحث عن مساحات يمكن البناء عليها لاحقا، وهى محاولة لن يكتب لها الحد الأدنى من النجاح إلا بقدر أوسع وأكبر كثيرا من انفتاح السلطة على قبول الرأي الآخر والاستعداد لتصحيح أخطاء جرت ووقعت على مدار السنوات الماضية والاعتراف بذلك، وقدرة المعارضة على تنظيم صفوفها وتوحيد موقفها وتحمل انتقادات واختلافات عديدة والبحث عما هو أبعد من اللحظة الراهنة بالتطلع إلى ما يمكنه أن يفتح مساحات بشكل حقيقى للحراك السياسي والمجتمعي المنظم عبر أطر سياسية وتنظيمية ونقابية واجتماعية وغيرها، والاستفادة من كل مساحة ممكنة لطرح خطابها ورؤيتها وتصوراتها بشكل جاد، والإدراك الناضج لتعقيدات وتشابكات اللحظة الراهنة وقدرتها على التعامل معه.