جاءتني ردود أفعال كثيرة على الجزء الأول من هذا المقال، كثيرٌ منها أشكر عليه أصحابه لحسن ظنهم بما أكتب، وقليلٌ منها أعرب عن غضبه من الحديث عن مفكرٍ بحجم وقيمة الدكتور محمد عمارة لأن له بعض المواقف المُختلف عليها.

أبدأ حديثي هنا في الجزء الثاني من المقال بالاعتراف بأن هناك بعض الشخصيات (منهم المستشار طارق البشري، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عمارة، وآخرين) يُؤخذ على كل واحد منهم بعض المواقف التي فيها خلاف كبير، ومن ناحيتي أعلن اتفاقي مع انتقاد هذه المواقف، وهي في ملتي واعتقادي مواقف ما كان يجب أن تقع، وليس لها مكان غير أن توضع في سلة السقطات.

بعد هذا الاعتراف من جانبي، وإعلان الاتفاق مع رأي البعض الذي جاءت ردود أفعالهم غاضبة من الاحتفاء بواحد من هؤلاء المفكرين، أجدني في حاجة للتأكيد على أن هذا المقال يعبر عن موقفٍ لي أتمسك به، وأصر عليه، بل وأدعو إليه، يتلخص في أن هؤلاء المفكرين ـ رغم سقطاتهم ـ يبقى لهم ما قدموه من فكرٍ يجب علينا أن ندرسه نقدًا واتفاقًا، وعندي أن كل الناس يُؤخذ منهم ويُرد، وعلى هذا اتفاق أئمة المسلمين ومفكريهم.

**

أظهر ما في مسيرة ومشروع الدكتور محمد عمارة الفكري أنه كان مؤسسة في رجل، لم يحظ في أي فترة من حياته بحماية ودعم مؤسسة ثقافية، أو جماعة تنظيمية، إلا في الفترة التي حمل فيها عضوية «مجمع البحوث الإسلامية»، وأسندت إليه رئاسة تحرير «مجلة الأزهر»، وقد شهدت المجلة في تلك الفترة تطويرًا وتحديثًا مشهودًا له.

وربما كان لغياب الحاضنة الفكرية والسياسية بعض الأثر في اتجاهات الدكتور عمارة أخريات حياته، والتي تأثرت بدون شك بتصاعد الدور العام لجماعات ومنظمات الإسلام السياسي.

وربما كانت هذه التوجهات المستجدة في رحلة عمارة الفكرية، هي السبب في أن يبالغ البعض في الحزن على رحيله إلى حد الفجيعة، فقالوا: إن الأمة مات عقلها مع موت الدكتور عمارة، وأضاف بعضهم: إن حصن الإسلام يهتز حتى يكاد ينهار، وبدا أنهم ـ جميعًا ـ لا ينعون الراحل الكبير قدر نعيهم مشروع الإسلام السياسي، الذي واجه تحديات جمة في أعقاب ثورة يناير 2011.

على الضفة الأخرى اختصره خصومه في تحوله الأخير نحو، المزيد من التسلف الفكري، الذي قاده إلى أن يرفع موضوعي التشيع والتنصير إلى مقام الأولويات التي لا يسبقها موضوع آخر.

**

الآن ـ بعد رحيل الدكتور عمارة، وخروجه النهائي من «مذابح» السجالات الدينية، ونزوله الدائم من «منابر» التنابز الفكري ـ يجدر بنا أن نركز على مشروعه الفكري، ندرسه وننقده، نختلف معه، قبل أن نتفق عليه، حتى نتمكن من الاستفادة من نتاج فكري لواحد له عقلية ومنهجية ودأب الدكتور عمارة.

وأزعم أن دعاة التنوير والرافضين لبعض مواقف الدكتور عمارة، لو اطلعوا على ما يطرحه خصومهم الأشداء (سواء كانوا سلفيين أو وهابيين) حول مشروع الدكتور عمارة الفكري، لغيَّروا رأيهم فيه إلى أفضل ما يكون الرأي في فكر الرجل.

انظر إلى الأعداء التاريخيين لكل حركة تنوير، أو هؤلاء الذين يناؤون أي تجديد في الفكر الديني، وتفحص نظرتهم إلى فكر الدكتور عمارة، سوف يفجؤك أن السلفيين والوهابيين يتوسعون في قائمة الانحرافات الفكرية للدكتور عمارة، حتى عدَّها بعضهم سبعة عشر انحرافًا فكريًا.

**

يرى خصوم الدكتور عمارة من السلفيين[1] والوهابيين، أن انحرافه الأول يتمثل فيما يسمونه: «غلوه في تعظيم العقل البشري القاصر»، ثم يأخذون عليه «اعتناقه وإحيائه لمذهب المعتزلة»، ولا يتورعون عن التنديد بأفكاره كلها، التي دفعت به إلى «اعتناق وإحياء تراث المدرسة العصرانية الحديثة».

ويرون أن أخطر انحرافات محمد عمارة أنه «لا يرى كفر اليهود والنصارى»، ويأخذون عليه «دعوته إلى الوطنية، وإلى القومية العربية».

خصوم الدكتور عمارة من السلفيين والوهابيين، يضعونه في خانة الدعاة إلى «العلمانية»، رغم أنه كان يقسم العلمانية إلى قسمين:

ـ علمانية الغُلاة، وهذه يرفضها ويرد عليها، وهي ما يسميه «العلمانية الغربية» التي تفصل الدين عن الدولة.

ـ علمانية إسلامية، أو مستنيرة، وهي التي تقرر ـ كما يقول: أن «ما قضاه وأبرمه الرسول في أمور الدين عقائد وعبادات، لا يجوز نقضه أو تغييره حتى بعد وفاته، لأن سلطانه الديني كرسول ما زال قائماً فيه. وسيظل كذلك خالداً بخلود رسالته عليه الصلاة والسلام، على حين أن ما أبرمه من أمور الحرب والسياسة يجوز للمسلمين التغيير فيه بعد وفاته، لأن سلطانه هنا قد انقضى بانتقاله إلى الرفيق الأعلى».

**

يأخذ عليه خصومه من السلفيين كذلك ما جاء في كتاب «الإسلام والمستقبل» وفيه يقول:

«عندما شرعت أمتنا في مغادرة إطار العصور المملوكية العثمانية إلى رحاب عصر يقظتها، وإحيائها، ونهضتها، وتنويرها من خلف رواد مثل: رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي تصارعت على ساحتها، واعتركت في أحشائها، وتنازعت في عقلها، ووجدانها تيارات رئيسية ثلاث: أولها: تيار الجمود الذي استعصم بفكرية العصور الوسطى، واعتصم بعد أن أضفى على هذه الفكرية التي جسدت عصر تخلفنا الحضاري، قداسة الدين وقدسيته، وثانيها: تيار التغريب ذلك الذي انبهر أهله بتألق الحضارة الأوربية وإنجازاتها وانتصاراتها».

ثم يقدمونه إلى مريديهم على أنه «يريد أن يسوق الناس بعصاه إلى تيار الأفغاني كما تساق البهائم في المرعى»، وهي في نظرهم، وبنصوص كلامهم «دعوة مغطاة إلى مذهب الباطل يتنبه لها كل فطن، وهو في هذا الفعل يخون الأمة، إذ لم يعرض لها المنهج الصحيح الذي يعرفه، وهو المنهج السلفي الذي يجمع بين الدين كما عاشه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، وبين الدنيا التي يحاول أن يبلغ فيها القمة – ولكن تعوقه عوائق يعلمها الدكتور ـ فإذا كان الدكتور جاهلاً في المنهج فهو في تفصيلاته أجهل».

**

يخالف الدكتور محمد عمارة كل أصحاب النظرة الدينية الضيقة، ومن يسميهم أرباب «الجمود والتخلف»، في نظرتهم إلى تاريخنا الحديث، فهو يرى أن هذا التاريخ سلسلة من حلقات متتابعة على مسيرة التنوير، والتحديث والتقدم، يبدأها مع التحديث الذي وضع بذرته محمد علي، ويتوقف بتعمق أمام الأدوار التي لعبها الطهطاوي، ومن بعده محمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول ورشيد رضا.

سمعت بنفسي حوارًا له على أحد قنوات الإخوان، وفي ظل حكمهم، يناقض رأيهم في النظر إلى الرئيس جمال عبد الناصر، الذي يأخذ عليه ما يأخذه عليه يساريون كثيرون، ومنهم ناصريون أيضًا، ولكنه يحفظ له دوره في تطوير حركة التقدم والتنوير في مصر، ويحسب ثورة يوليو ضمن حلقات الحركة الوطنية، التي بدأت مع ثورة عرابي مرورًا بثورة 1919.

يومها قال بالنص: ثورة عرابي طالبت بالدستور، وثورة 19 طالبت بالجلاء والدستور، وجاءت ثورة يوليو لتحقق الجلاء والعدالة الاجتماعية، ثم تأتي ثورة يناير، التي رأى أنها توَّجت كل هذه المطالب، في ثورة فكرية كبرى لها ما بعدها على المستقبل في المنطقة والعالم.

**

قائمة انحرافات الدكتور عمارة ـ حسب رأي السلفيين والوهابيين ـ تشمل أيضًا «دعوته إلى الاشتراكية التي يسميها زورًا بالعدل الاجتماعي» (!)، و«محاولته للتقريب بين أهل السنة والرافضة» (!)، و«دعوته إلى تغريب المرأة المسلمة، متابعة منه للعصريين من أمثال قاسم أمين، تلميذ الشيخ محمد عبده» (!).

ثم يضمون إلى قائمة الاتهامات الموجهة إليه، تُهم من نوعية «أنه يرى أن الجهاد في السلم للدفاع فقط، وليس للطلب»، وأنه لا يأخذ «بحديث الآحاد الصحيح في مجال العقيدة»، ويأخذون عليه ما يسمونه: «لمزه المتكرر للدعوة السلفية، إضافة إلى «لمزه لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها عادت الفلسفة وعلم الكلام».

وللأسف فإن كثيرًا من هذه «الانحرافات»، التي يرصدها السلفيون والوهابيون في فكر الدكتور عمارة، يكثر التنويريون من الحديث عنها، ورفعوا عقيرتهم طويلاً للدفاع عنها، وسعوا طويلًا من أجل زيادة الوعي حولها، دون أن يصلوا إلى فائدة تُذكر، وبرغم ذلك تجد بعضهم يحذف جهد الرجل من دوائر التنوير.

**

الكاتب صاحب القلم، أو المفكر صاحب الرؤية، لا يبقى من كلٍ منهما غير ميراثه الفكري، وتذهب مع كل منهما الى القبر كل خصوماته، وسجالاته وحياته الشخصية، ثم لا يبقى غير مشروعه الفكري وحده.

هذا المشروع الذي يجب أن يكون هو الأولى بالرعاية، والعناية، رعاية توفر دراسة المشروع، وعناية لا تستبعد الاستفادة منه ولو بنقده.

كل سجالات الدكتور عمارة في ملاعب السياسة، أو في ميادين التحرش الديني، لم تعد ذات معنى، وذهبت معه حيث ذهب، ولكن يبقى مشروعه الفكري، الذي عمل عليه لسنوات طويلة من الدرس، والتحقيق، والتأريخ لمسار التنوير، والتجديد على مدار قرنين من الزمان في مصر، والعالم الإسلامي من حولها.

وقد قدم عبر هذا الجهد الجهيد في كتبه عن المعتزلة، والثورة والثوار في التاريخ الإسلامي، ثم تحقيقه وتقديمه للأعمال الكاملة، لكل من رفاعة رافع الطهطاوي، ثم لجمال الدين الأفغاني، ثم لمحمد عبده، وهي الأعمال التي لا تفصح فقط عن الأدوار التي أداها كل من الطهطاوي، والافغاني ومحمد عبده، ولا تقدم فقط «عصر الأنوار المصري ـ ما بعد الطهطاوي»، بل هي تشير أيضاً إلى «معالم المشروع الحضاري والفكري»، الذي يتبناه الدكتور محمد عمارة نفسه.

**

أي نظرة ـ خارج هذا الإطار ـ إلى ميراث الدكتور عمارة ستظل قاصرة، ولا يمكن لها أن تُحيط إحاطة علمية ثاقبة لأهمية هذا التراث، وضرورته لمواصلة طريق التنوير.

ولا يصلح هذا الاستقطاب الذي يتبنى القراءة السياسية، أو يميل إلى القراءة المجتزئة لمسيرة عمارة الفكرية، تلك التي لا يمكن اختزالها في مرحلة، ولا يمكن قصرها على كتاب، ولا يجوز أن تعمينا عنها هذه الجلبة السجالية، التي شارك فيها الدكتور عمارة هنا أو هناك، مع هذا الفصيل أو ضد ذاك، فكلها توضع في باب العارض الذي لا يَبقى له أثر، ولا يُبقِي عليه عاقل.

الخلاف على مشروع عمارة الفكري، والاتفاق معه، لا بد أن يخرجا الآن من ساحات التراشق الفكري، إلى حواضن الدرس الموضوعي، خاصةً أن الرجل قدم ميراثاً فكرياً مبثوثاً في أكثر من 350 كتابا، ودراسة، ومساهمة فكرية.

ومَثَلُه، مثل أي صاحب مشروع فكري اشتغل عليه طويلاً، وبذل فيه الجهد الجهيد على مراحل شتى من مسيرته الفكرية، يجب أن نتلمس فيه ما هو رئيسي وأساسي، ونعزله عما هو ثانوي وفرعي، وأن نفرق بين ما هو عارض، وبين ما هو ثابت في رؤيته الفكرية.

**

سيبقى مشروع الدكتور عمارة يدعونا الى دراسة جادة، ومعمقة بعمق هذا المشروع وجوهره، باعتباره أحد المشروعات الفكرية التي حاولت تقديم رؤية تنويرية تجديدية في الخطاب الديني، وهو ـ بلا شك ـ يحمل في طياته الكثير مما يمكن الاختلاف معه، إضافة الى الكثير الكثير الذي يصلح للاتفاق عليه.

مشكلتنا الرئيسية ـ أو هو عيبُنا المزمن ـ هو تسرعنا في حذف كل جهد تنويري ـ مهما قل ـ من مشروع التجديد المأمول، كل مرة كأننا نبدأ من النقطة صفر، من دون ميراث، وبغير تراث طويل بدأ مع الطهطاوي، وما يزال مستمرًا رغم انقطاعه.

هذا الانقطاع هو المشكلة، ثم هذا التغاضي عن كل محاولة جادة في إطار مشروع التنوير، هو مشكلة أخرى مضافة إلى سابقتها، وكلها أسباب تؤخر حصاد التنوير، ولا تدفع بمسيرته إلى أمام.

كل موجة من موجات التنوير يجب أن تنضم إلى موجاته الأخرى؛ لكي تتمكن في النهاية من صناعة تيار هادر، قادر على جرف كل رواسب التخلف، والتسلط، والاستبداد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لتنفتح في النهاية كل الأبواب الموصدة أمام حركة التنوير، والتجديد، والتحديث والتقدم.

[1] المصدر الرئيسي في رصد ما يسميه السلفيون انحرافات المشروع الفكري للدكتور عمارة هو كتاب «نظرات شرعية في فكر منحرف» أربع مجلدات، لمؤلفه: سليمان بن صالح الخراشي، ومن منشورات «روافد للطباعة والنشر» – بيروت، ولمن أراد التوسع فعليه بكتاب أعلام وأقزام في ميزان الإسلام (سيد حسين العفاني)، وفيه تفصيل لكل نقاط الخلاف بين رؤية السلفيين والوهابيين مع مشروع الدكتور عمارة الفكري.