فهم البعض دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي للقوى السياسية كافة، «للمشاركة في حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني»، على أنها دعوة لإحياء السياسة في دولة غُيبت عنها السياسة، وأغلق فيها باب النقاش العام لنحو 7 سنوات بفعل فاعل.

هذا الفريق حسن النية، رأى أن النظام الذي أحكم قبضته على السلطة، واستأثر باتخاذ القرارات وفرض السياسات، اكتشف أنه في حاجة إلى مراجعة ما جرى، خلال المرحلة السابقة التي توالت فيها الأزمات والإخفاقات، وأدرك أنه بحاجة إلى شركاء يصوبون معه المسار، ويُرشدون قرارته، عسى أن يتم إصلاح ما فسد بالوسائل، والآليات المتعارف عليها في الأنظمة الديمقراطية.

بينما شكك فريق آخر في نوايا النظام، وفسر دعوة الحوار على أنها محاولة لتحسين صورته في الخارج، خاصة أن الفترة التي سبقت إطلاقه شهدت صدور تقارير من جهات ومنظمات دولية، تنتقد تعامل السلطة المصرية مع ملف حقوق الإنسان والديمقراطية.

الفريق الأخير ذهب إلى أن فتح حوار سياسي، ودعوة المعارضين إلى المشاركة فيه، ما هو إلا «خطوة لتخفيف الضغوط الدولية على نظام يسعى إلى إبراء ساحته، قبل أن يتفاوض مع بعض الجهات المالية الدولية المانحة للحصول على قروض، وإعانات جديدة»، أي أن السلطة ستستخدم الحوار الوطني كأداة لإقناع صندوق النقد الدولي، وغيره من الجهات، بأنها ماضية في طريق الإصلاح السياسي، جنبا إلى جنب مسار الإصلاح الاقتصادي، الذي تعهدت بالمضي فيه وفقا لقواعد وشروط تلك الجهات.

نهاية شهر رمضان الماضي، وخلال حفل إفطار الأسرة المصرية الذي دُعيت إليه شخصيات معارضة لم يظهر معظمها من قبل في أي فعاليات رسمية، قال الرئيس السيسي: إن البعض تحدث معه عن قضية الإصلاح السياسي، وأكد أنه شخصيا كان حريصا على المضي قدما في مسار الإصلاح «لكن أولويات الدولة كانت بتأجل الموضوع شوية»، لكن الوقت قد حان لإتاحة النقاش والحوار لكل القوى بدون «استثناء أو تمييز» وعلى قاعدة «الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية».

بعد أسابيع من إطلاق الدعوة، عقدت جلسات واجتماعات تحضيرية بين مكونات أحزاب الحركة المدنية -باعتبارها الطرف الآخر في الحوار- وبين ممثلين عن السلطة، انتهت هذه المرحلة من النقاش بالتوافق على تشكيل مجلس أمناء الحوار الوطني، لـ«يدير كل ما يخص الحوار»، وفي مرحلة لاحقة شهدت بعض الخلافات. واتفق الجانبان على تشكيل وتسمية اللجان والشخصيات التي سيعهد إليها بإدارته.

وبعيدا عن عمليات «المط» المتكررة التي أفقدت الدعوة برمتها زخمها وتأثيرها، فإن المناقشات والمداولات التحضيرية اقتصرت على ممثلي السلطة، وممثلي الحركة المدنية الديمقراطية، باعتبارها المعادل المعارض للسلطة، والذي يجب أن تحاوره وتستمع لوجهة نظره.

اختيار الحركة المدنية الديمقراطية كطرف ثان في الحوار لم يأت من فراغ، بل لأن «الحركة» هي التيار الذي يضم أحزاب، وكيانات معارضة بشكل واضح وصريح للنظام الحاكم داخل البلاد، ويمكن أن نعتبرها كفة الميزان المقابلة لكفة السلطة السياسية.

لم يكن في حسبان أي طرف من الأطراف أن الحوار الذي دعا إليه الرئيس لـ«وضع أجندة شاملة للإصلاح السياسي والاقتصادي» يكون بين السلطة ونفسها؛ أي بين ممثلي الحكومة والأحزاب الموالية لها على غرار «مستقبل وطن» و«حماة وطن» وكل الأحزاب والكيانات التي تنتهي بـمقطع «وطن»، ولا حتى أحزاب المعارضة التاريخية التي قبلت الدخول في حظيرة السلطة مقابل مكاسب سياسية شملت عددا من مقاعد البرلمان أو غيرها.

الحوار بين السلطة وممثليها لن يكون حوارا، بل سيتحول إلى جلسات استماع، لن يكون للمشاركين فيه -من مجموعة أحزاب «وطن» بكل تنويعاتها ومعهم أحزاب المعارضة المستأنسة- دور سوى هز الرؤوس تعبيرا عن موافقتهم على ما تطرحه السلطة، كما يفعل نوابهم في مجلسي النواب والشيوخ، أو أنهم ولاعتبارات «حبكة السيناريو» سيؤدون الدور الذي سيكتب لهم بعناية دون أي تجاوز، أو اجتهاد فلا اجتهاد مع النص.

لم يسمع لممثلي أحزاب «وطن»، وإخوانهم في الأحزاب الأخرى التي أعلنت ولائها للسلطة، صوتا مخالفا ولم يضبط أحدا منهم متلبسا بموقف معارض لسياسات وتوجهات الحكومة، التي أوصلتنا لهذا المأزق بكل أبعاده، وعليه فإن أي توجه أو تفكير لاستدعاء «هزازي الرؤوس» الباصمين على كل القرارت، المسبحين بحمد السلطة، للمشاركة في الحوار كبديل عن أحزاب المعارضة الحقيقية، هو عملية خداع سياسي لن تنطلي على الرأي العام المحتقن.

لو صدقت نوايا السلطة في أنها تسعى لإصلاح حقيقي، ولو أرادت إقناع الناس برغبتها في الإصلاح، فعليها استبعاد الخطة «ب»، التي تواترت الأنباء مؤخرا عن أنها ستلجأ إليها، بعد أن تمسكت أحزاب الحركة المدنية بضرورة الإفراج عن عدد من رموز العمل الشبابي، قبل مشاركتها في فاعليات الحوار.

قبل نحو أسبوعين، أعلن مجلس أمناء الحوار الوطني أن جلسات الحوار ستبدأ في مطلع مايو المقبل، «عقب انتهاء إجازات أعياد القيامة والفطر» وأكد المجلس أنه سيواصل استكمال جهوده؛ لتوفير عناصر المناخ الإيجابي، مشددا على ثقته التامة في حرص جميع الأطراف على بدء الحوار واستمراره بنجاح.

بيان مجلس الأمناء كان كاشفا عن وجود أزمة بين طرفي الحوار، (السلطة والحركة المدنية) على بعض الملفات، «هناك بالفعل خلاف على ضرورة الإفراج عن عدد من المحبوسين قبل بدء الجلسات، كما أن هناك حالة من التململ الناتجة عن طول فترة الإعداد للحوار، الذي تم تفريغه من مضمونه بإضافة العديد من القضايا الثانوية إلى جدول أعماله»، يقول أحد قادة الحركة المدنية:

من جانب آخر، هناك خلاف بين مكونات الحركة المدنية على آليات، وضمانات، وأهداف المشاركة في هذا الحوار، ووصل الأمر بالبعض إلى الدعوة للإعلان عن الانسحاب، وشرح مبررات هذا الموقف للرأي العام، وهو ما دفع السلطة إلى تجهيز الخطة «ب» في حال أعلنت «الحركة» انسحابها، وتقضي تلك الخطة بأن تجهز أحزاب الموالاة وأخواتها، قوائم بأسماء مقترحة للمشاركة في جلسات الحوار المرتقبة على أن تكون تلك الأسماء لها «وزن وقدرة على تقديم خطاب يبدو معارضا لكن في حدود المسموح».

بدأت بعض تلك الأحزاب الذي يمكن أن تلبسها السلطة «طاقية المعارضة» في إرسال قوائمها إلى مجلس الأمناء، الذي بدوره سيبدأ في تسكينها على المحاور واللجان المختلفة، وهو سيناريو سيكون له تداعياته السلبية على المشهد العام.

لن يفقد الحوار المرتقب جدواه فقط في حال تم تنفيذ تلك الخطة، بل سيفقد النظام مصداقيته أمام المواطن الذي فقد الأمل في إصلاح الأحوال الاقتصادية المتردية، لكنه قد يصبر لو لمس في الحوار المرتقب الحد الكافي من الجدية، كما ستفقد السلطة مصداقيتها أمام الجهات الإقليمية والدولية، التي حاولت ولا تزال، تحسين صورتها أمامها.

مسئولية إفشال الحوار الوطني الذي لم تبدأ جلساته بعد مشتركة بين المعارضة والسلطة، لكن الأخيرة تتحمل القدر الأكبر من المسئولية، إذ أنها أولا: الجهة الداعية، وثانيا: لأنها هي التي تملك أدوات حل الخلافات، وثالثا: وأخيرا، لأنها هي التي أوصلت البلاد بسياستها وقرارتها المنفردة لهذا المأزق، وهو ما يستدعي أن تتراجع خطوات للخلف، قبل أن تطالب الطرف الآخر بالتراجع أو تضغط عليه بخطط بديلة.