شهدت السنوات العشر الأخيرة على الأقل، وبفضل “السوشيال ميديا”، وليس وسائل الإعلام الخاصة والحكومية، ظاهرة جيدة وبناءة للغاية تتمثل في توضيح ماهية الفن، والفرق بين التمثيل كمهنة وبين الحياة الواقعية. وكذلك الفرق بين الممثل كمواطن وبين الممثل كشخصية في عمل فني. وعلى الرغم من السياق العشوائي العام لهذه المناقشات، إلا أن الجانب العقلاني والمهني يكتسب مساحة لا بأس بها في مواجهة السكونية، والتخلف، والترويج للفن العاطب وللعقل المعطوب اللذين تروج لهما وسائل الإعلام الخاصة والحكومية.
وأهم ما في هذه الظاهرة أنها تفضح تديين الفن، ومحاكمة الفنانين كأشخاص فاسدين يروجون للفحش والرذيلة وهدم المعتقدات الدينية، وازدراء الأديان، والرموز، وتشويه الدولة والوطن. بل وكشف الممثلين والممثلات الذين نشأوا في أحضان مرحلة الصحوة في موجتها الأولى، من سبعينيات القرن العشرين، وفي موجتها الثانية الطافحة في التسعينيات، والتي “طرطشت” على المجتمع بأسوأ الممثلين والممثلات، من ذوي العقليات السكونية، والماضوية، والسلفية، أولئك الذين يرفضون/ يرفضن أداء أجزاء من أدوارهم/ أدوارهن بسبب تضمنها قبلات، وأحضان، وتلامس، أو عري، وإغراء، والظهور بملابس دينية يدعون إلى هداية الناس، وأن “يتوب الله على الممثلين والممثلات ويهديهم!”.
ظهرت الحلقات الأولى من مسلسل “سره الباتع”، وظهرت معها انطباعات الناس العاديين والمتخصصين. وتناول الجميع الأخطاء التاريخية، والتجاوزات الدرامية، والاستسهال، والحلول الفنية المبنية على الاستهتار بعقل المشاهد، وعدم احترام للفن نفسه. ولكن الأمر الأهم الذي يتعلق بجوهر موضوعنا هنا، هو ظهور ممثلة تونسية اسمها رانيا التومي في أول تجربة تمثيلية لها، في دور فرد ضمن عصابة للنصب والاحتيال، وهي مكلفة بإغراء الزبائن للإيقاع بهم. وهو الأمر الذي يتطلب أداء دور “إغراء”، تحدده المعايير الفنية والمواصفات الجسدية، والحلول الدرامية التي يضعها المخرج.
إلى هذا الحد تسير الأمور بشكل طبيعي على المستوى النظري. ولكن فجأة، ظهرت صور هذه الممثلة في السوشيال ميديا بطريقة مثيرة للغط والسخرية، حيث تعمد الإنتاج والمسئولون عن الإعلام في شركة الإنتاج، والمخرج والستايلست التركيز فقط على “مؤخرتها المبالغ في ضخامتها” باعتبارها رمز الجمال والإغراء.
هنا بدأ تداول صور الممثلة من خلال تعليقات مختلفة ومتباينة، أثارت غضب شريحة تهتم بصورة المرأة، وهي شريحة شبيهة بـ “الألتراس” أكثر منها معتنقة لـ “الديانة النسوية بكل مذاهبها”. وبدأت معركة كوميدية للغاية بين تعليقات السخرية من صورة المؤخرة المبالغ في ضخامتها، وبين توصيفات الألتراس للناس بالتنمر، والإساءة للمرأة، وتسليعها. ووصلت الأمور إلى الذكورية المقيتة، ومعاداة المرأة وتحقيرها. وبدأت الافتراضات النظرية كالعادة بأنه من الممكن أن تكون مريضة، أو لديها مشاكل في جسدها، وتحولت المعركة بين الناس كالعادة أيضا. بينما المسلسل يُعْرَض بهدوء وسلام، مستخدما جسد المرأة في الإعلان، والترويج، وتوفير الإنفاق على الإعلانات، ومستثمرا تلك المعركة الاعتيادية الكوميدية أيضا، لصالح جذب الناس لمشاهدة المسلسل، أو إجبارهم على ذلك بتلك الطريقة الرخيصة.
وبدأت التوضيحات العقلانية تتوالى، بشأن أن لا أحد يمكنه أن يتنمر على جسد إنسان، إذا كان جسده خلق على هذا النحو، أو أصابه عطب ما بسبب حادث أو مرض، لكن إذا تلاعب الإنسان نفسه بجسده طبيا وتجميليا بهدف تسليعه، وحدثت له تشوهات فعليه أن يعالج نفسه قبل أن يواصل عمله، أو يتم تكليفه بأي عمل. لكن لا ينبغي استخدام مصطلحات لا علاقة لها بالموضوع من قبيل “التنمر”، و”تحقير المرأة”، و”الذكورية”، لأن هذا الخلط، والاستخدام العاطفي والعشوائي، يفقدها قيمتها وجديتها وفاعليتها، وذهبت هذه التوضيحات إلى رفض إشهار سيف التنمر؛ لإخراس الناس. وتساءل أصحاب التوضيحات عن: “من هي هذه الممثلة، وعن أي تمثيل يدور الحديث، إذا كانت لا هي ولا المخرج منحونا أي فرصة لا لرؤية وجهها ولا لرؤية تمثيلها”؟!.
ورفض آخرون حملات الألتراس، وتوصيفاتهم مؤكدين أن السخرية ليست منها هي شخصيا، لأن لا أحد يعرفها أصلا، وإنما السخرية من رؤية المخرج الذي تعمد استخدام الجسم بشكل “غريب”، من زاوية تلخص الموضوع في جسم الممثلة بصورة محددة، تتناول جماله بصورة “وارمة” كوجهة نظر فنية للمخرج نفسه. وذلك لأنها “نصابة” تدعي أنها عالمة آثار، وبالتالي يجب أن تكون جميلة ومغرية. ولكن اتضح أن المؤخرة المبالغ في ضخامتها، لم تكن جميلة ولا مغرية بل مدعاة للسخرية، ليس منها كأنثى وإنما من الشخصية التي تؤديها وتظهر بهذا الشكل.
وعلى الرغم من عشرات ومئات التوضيحات الانطباعية، والمهنية والمتخصصة، صمم الألتراس على رأيه، بأن هذا تنمر وتحقير وازدراء وذكورية مقيتة، بل ونصح بأنه ينبغي توجيه النقد للمخرج ومحاسبته، وتضمنت ردود الكثيرين من هذا الفريق تلميحات وإيماءات إلى ماضي المخرج، وما انتشر عنه وحوله من لغط. أي أن هناك جريمة أخرى يتم توجيه الناس إليها، ألا وهي محاسبة “ونقد” المخرج ليس فقط على هذا العمل الفني، بل وأيضا على ماضيه، سواء كان الفني أو الحياتي. وفي هذا الشأن اتفق مع الألتراس، الكثيرون من الفريق المناوئ، الذي سخر من العمل ومن المخرج، عبر ما تم تسريبه من صور لمؤخرة الممثلة المبالغ في ضخامتها.
في الواقع، لم تكن هناك أي سخرية من جسد الممثلة المذكورة بشكل شخصي، لأن لا أحد يعرفها بشكل شخصي، ولكن السخرية كانت من جسد الشخصية الذي ظهر بهذا الشكل “الغريب”، كأحد الحلول الفنية الضحلة للمخرج الذي يرى أن الإغراء للسكان المحللين، والأجانب يجب أن يكون عبر المؤخرة الضخمة للغاية، وبالتالي إذا كانت الممثلة متضررة، أو تشعر بالإهانة من سخرية الناس من شكل جسمها، أثناء تأدية شخصية ما في دور فني فعليها أن تراجع العقد الذي وقعته، والذي يتضمن شروط ظهور جسدها أو أجزاء منه، وتلجأ إلى القضاء لمحاسبة المتسببين في السخرية من دورها، والمتاجرة بأعضاء الشخصية التي تؤديها وليس السخرية منها كأنثى.
من الواضح، أن الممثلة رانيا التومي أذكى من الألتراس المدافع عن “صورتها”، و”شخصها”، في آن، والذي لا يستطيع أن يفصل بين جسد الممثلة في حياتها الطبيعية، وما يمكن أن يوجه إليه من إهانات، وبين جسدها في أداء دور معين وفق رؤية المخرج، وبموافقتها وما يمكن أن يوجه لجسد الشخصية التي تؤديها من إهانات، لأن الصور التي نشرت كانت للشخصية، وليس للمواطنة رانيا التومي في مساحتها الخاصة، أما المتاجرة بجسدها، فهذا أمر يعود لها؟، وللإنتاج، والمخرج، والعقد الموقع عليه بينها وبين شركة الإنتاج. غير أن المأزق المرعب في حقيقة الأمر يتمحور حول المأزق المرعب الذي يخيم بظلاله على الفن في مصر وعلى الحلول الفنية الضحلة للمخرجين. وهذه قضية جدية أخرى تثير الغضب والمرارة.
هندسة المجتمع بين السلطة، والشعب، وبين الألتراس، والمرأة
عادة، ما تعلل المنظومة السياسية الاستبدادية (السلطة) وضع القيود على الحرية، وغياب الديمقراطية بعدة أسباب تبدو منطقية للغاية، على رأسها المخاطر الأمنية التي تواجه الوطن والشعب، إضافة إلى عدم نضوج هذا الشعب للحصول على “الحرية والديمقراطية”، وعدم قدرته على التفكير في مستقبله ومستقبل بلاده، وبالتالي، فهو بحاجة إلى الحماية من الأعداء الخارجيين ومن نفسه بنتيجة جهله. وعادة ما تحاول أن تجمل وجهها، وتغسل يديها، فتؤكد بشكل مبالغ فيه على أنها ليست ضد الحرية والديمقراطية، ولكن يجب تأجيل “الحصول” عليهما إلى أن يصبح الشعب جاهزا لذلك، ملقية باللوم على “هذا الطفل الأحمق البائس” حتى في الأزمات السياسية، والاقتصادية، وتفشي الجريمة، وتحميله مسئولية فسادها وفشلها، وتجريده من ممارسة حقوقه، ومن بينها ارتكاب الخطأ والعمل على إصلاحه.
على الجانب الآخر، ينتفض مقدسو الشعوب المثاليون، محملين تلك المنظومة السياسية الاستبدادية (السلطة) مسئولية جميع المشاكل والأزمات من جهة، وتبرئة الشعب تماما ورفع المسئولية عنه من جهة أخرى، وكأنه كائن “أهطل” غير قادر على تحمل ولو حتى مسئولية تصرفاته الخاصة، والشخصية، والتفكير في مستقبله، ومستقبل بلاده. ومن ثم يتم رفع الأهلية عن “هذا الطفل الأحمق البائس”، ومصادرة حقه في أي شيء، وإعلان الوصاية عليه، واعتباره كائن ضعيف بحاجة دائمة إلى حماية ودفاع، سواء من أعداء خارجيين، أو من نفسه بنتيجة غياب الوعي. بل يصل الأمر إلى تبرير أخطائه بصرف النظر عن خطورتها عليه هو نفسه.
نحن هنا أمام إعلان وصاية من طرفين متناقضين في الظاهر فقط. فكلاهما يريد الخير من وجهة نظره لهذا “الطفل الأحمق البائس”، الذي تنطبق عليه الكثير من حججهما بشأن رفع الأهلية عنه، وإعلان الوصاية عليه، وحمايته من الأعداء الخارجيين، ومن نفسه، سواء بنتيجة الجهل، أو بنتيجة غياب الوعي. وإذا دققنا في مسوغات، وطروحات كل من السلطة، وعشاق الشعوب، سنجد أن هذا التناقض الظاهري بينهما يتقلص إلى درجة الصفر. وبالذات عندما تصل الأمور إلى مواقف حقيقية وواقعية، بعيدة تماما عن الصور الذهنية والافتراضات المائعة، والعصف الذهني، وامتلاك الحقيقة، والعمل على إثبات وجهات النظر، باستخدام المنطق المقلوب أو التمترس خلف الفكرة النظرية التي يحاول كل من الطرفين تلبيسها للواقع وفرضها عليه.
وفي الحقيقة، فهناك مفارقة كوميدية- مأساوية يسفر عنها موقفا هذين الطرفين المعطوبين، مرتبطة بفكرة كل منهما عن علاقته بالشعب، وبالوطن. فكل منهما وحسب مسوغاته وطروحاته المذكورة أعلاه، لديه قناعة تامة ويقين أبدي بأنه زوج صالح للشعب وللوطن، أو بمعنى أدق: “أب صالح لكل منهما، ومسئول مسئولية كاملة عنهما، لأنه ببساطة هو الوحيد الذي يعرف مصلحتهما”، وهنا يأتي دور الدين، والعادات والتقاليد من جهة، ودور التفاني والإخلاص والنضال من جهة أخرى، ومن أجل إضفاء الكمال على موقفي كل من السلطة، وعشاق الشعوب، يتم التعامل مع القانون ومع الواقع بحرص وحذر، إلى حد تهميشهما أو اعتبارهما عنصران غير جوهريين، أو في أحسن الأحوال وضعهما في مرتبة متأخرة قليلا مع إعلاء قيمة دور الدين، والعادات والتقاليد، والإخلاص والنضال. وفي نهاية المطاف نجد أننا أمام موقفين ناصعي البياض وشفافين للغاية لدرجة المثالية المهينة، والمقيتة والهزلية، التي يتم ارتكاب الكثير من الجرائم باسمها.
من الصعب الوصول إلى استنتاجات، أو إجابات سريعة وجاهزة، لأن المسألة ليست بسيطة وعابرة، وليست هامشية أو فرعية، كما أنه من الصعب أيضا، ورغم كل التشابه الذي يصل لحد التطابق، المساواة بين “السلطة” وبين “عشاق الشعوب”، بمفهوميهما وشكليهما الواردين أعلاه. وفي الواقع، وبعيدا عن المثالية، فهناك ثمن لكل شيء. بدون هذا الثمن سيظل الموقف كما هو عليه. وهذا لا يقلل من قيمة الأثمان التي تم- ويتم- دفعها. لكن يبدو أنها لا تزال غير كافية من جهة، وتحمل في طياتها الكثير من التناقضات من جهة أخرى. وفي نهاية الأمر، فمثل هذه القضايا تعتبر قضايا تراكمية، وعمليات دائمة النشاط تتطور باستمرار، ولا يجوز التوقف عند حلقة واحدة منها أو إنجاز واحد لإعلان الانتصار ورفع راية النهاية. المهم، هو التخلص من الازدواجية والمثالية، والوصاية، وفي الوقت نفسه إدراك أن هناك أثمانا لا بد أن تدفع، وأن لا شيء مجانيا، لأنه لا يوجد جبن مجاني إلا في مصيدة الفئران. وربما تكون المجتمعات التي قطعت شوطا معقولا في تحقيق حريتها، وكفايتها قادرة على إدراك قيمة “الثمن”، لأنها سددته عبر أنهار من الدماء، وعبر حروب واسعة وتحولات عميقة. ولذلك فهي تعرف قيمة العقل، والحرية، والقانون، وتدرك الأهمية الكامنة في عملية “ارتكاب الخطأ، والاعتراف به وإصلاحه”، أي تَحَمُّل المسئولية من دون وصاية، سواء من جانب السلطة، أو من جانب نخب “عشاق الشعب والوطن” المثاليين الذين يضرون بالمجتمع، وبالشعب، وبالوطن بقدر لا يقل عن نخب السلطة المعطوبة.
هكذا، يتصرف أيضا “عشاق المرأة”، المثاليون (الألتراس) الذين يفرضون وصايتهم عليها تحت أي دعوى أو مسمى، بصرف النظر عما تريده هي، وما تريده المرأة يتعلق بها هي، وبحقها وبقدرتها على تحمل المسئولية، وبضرورة تحمل هذه المسئولية، لأنها أحد الأثمان التي يجب أن تدفعها هي شخصيا ليس فقط للحصول على تلك الحقوق، ولكن أيضا من أجل أن تشعر بقيمة تلك الأثمان، وتعرف قيمة تلك الحقوق ولا تتنازل عنها أبدا. وعلى رأس هذه الحقوق، حقها في الخطأ من دون وصاية ومواعظ أيا كان نوعها، ومن دون مواقف “عشاق المرأة” المثاليين الذين يسطحونها، ويسطحون قضاياها وهمومها، ويهدمون المعبد على رأسها وعلى رؤوس الجميع بالنضال الأرعن والرومانسية، وحسن النوايا تحت شعارات نظرية وصور ذهنية لا علاقة لها بالواقع.
ولكي تكون الأمور واضحة، ولا تختلط مع دعوات السلفيين، وأبناء الصحوة بموجتيها المذكورتين أعلاه، فالمرأة لها حريتها المطلقة في ارتداء ما تريد، وفي مشاركة حياتها مع من تريد، ورفض من تريد، وقبول من تريد، وتحمل المسئولية الكاملة عما تفعل، وأن الاستقلال الاقتصادي وعدم الاعتماد المادي على أحد هو أولوية مطلقة للمرأة من أجل حماية نفسها، وحماية مكتسباتها، وأن المعركة والصراع ليسا بين الرجل والمرأة، وإنما بين الطرفين من جهة، وبين الدولة ومؤسساتها الدينية، وقوانينها العتيقة من جهة أخرى. فالمشاكل بين المرأة والرجل في مجتمع رمادي بقوانينه، وعاداته وتقاليده، هي مشاكل فرعية، وليست أساسية. أي أنها مشاكل يمكن حلها في إطار القانون، والمحاكم المختصة، بعيدا عن التجييش، وحروب العصابات. وبعيدا أيضا عن القراءة بربع عين، أو بنصف عين، وإلقاء الاتهامات، واستخدام المصطلحات جزافا.