سجل عدد سكان مصر زيادة جديدة، قدرها 750 ألف نسمة في الستة أشهر الماضية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ ليصبح إجمالي عدد السكان 104 ملايين و750 ألف نسمة لسكان مصر في الداخل، وهو معدل نمو كبير، إذا كان تعداد السكان سيزيد مليونًا ونصف المليون نسمة سنويًا! وذلك بعد أيام من المبادرة الحكومية الأخيرة، التي تتعلق بحوافز مالية خاصة للسيدات؛ مقابل الالتزام بعدم الإنجاب لأكثر من طفلين في مقابل دعم مادي، وهو ما تناولته بالتحليل في مقال سابق.

بالعودة للوراء قليلًا، هل تمثل الزيادة السكانية عائقًا حقيقيًا أمام التنمية؟ كثيرًا ما سمعنا من الحكومات المتعاقبة في العقود الأخيرة عن أن الزيادة السكانية كبيرة للغاية، وهي سبب رئيسي في تآكل ثمار التنمية، وعدم فاعلية برامج الحكومات المتتالية في زيادة حجم الاقتصاد، ونمو معدلات الاستثمار والوظائف، ومحاربة الفقر، وغيرها من الجهود التنموية التي تتحطم على صخرة الزيادة السكانية، ما يؤدي بشكل دائم لعدم ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة معدلات الكثافة في المدارس، وزيادة الضغط على المستشفيات العامة، وعدم كفاءة الخدمات، والحاجة المتزايدة للاستيراد، ونقص الاكتفاء الذاتي من المحاصيل، وغيرها من الآثار السلبية العديدة للزيادة السكانية غير المخططة.

هذا الخطاب يملك بالفعل حجة لها منطق، فمعدلات الزيادة السكانية تخصم بشكل مباشر من الآثار الإيجابية لزيادة معدلات النمو الاقتصادي، ولذلك فإن الزيادة السكانية يتم خصمها من معدلات النمو الاقتصادي بشكل سنوي، ليتم حساب معدلات التنمية بشكل صحيح، فالعبرة في التنمية هي في تحسن الخدمات العامة، ومستويات معيشة المواطنين وزيادة دخلهم، وليس فقط زيادة حجم الاقتصاد الكلي، وبالتالي تحتاج الحكومات لمعدلات نمو أكبر بكثير من معدلات الزيادة السكانية؛ لتتمكن من إحداث التنمية الاقتصادية.

وبشكل مبسط، فإنه من البديهي أن الأسرة التي يزداد عدد أفرادها مع ثبات الدخل الخاص بها، هي بالتأكيد تتأثر سلبيًا بتلك الزيادة، فهي تقتطع من دخلها لتغطية نفقات المولود الجديد من الغذاء، والرعاية الصحية، وغيرها من متطلبات الحياة وهذه بالفعل حقائق لا يمكن إنكارها.

لكن المطلع على التجارب التنموية العديدة، والكثيرة في العالم بأسره قد يتجاوز هذه الفكرة، بل ويعتبر أن خطاب الزيادة السكانية، هو محاولة للتبرير واختلاق الأعذار أمام الحكومات، التي لا تنجح في إحداث تنمية حقيقية بسبب سياساتها، وهي النظرية التي أصبحت تختصر في عبارة إن ” الزيادة السكانية ثروة بشرية” لابد من استغلالها لتحقيق التنمية.

الصين التي يتجاوز عدد سكانها المليار نسمة، هي مثال واضح يستخدمه أنصار الحجة المضادة، حيث تمكنت بكين رغم هذا العدد من السكان الذي يعتبر هو الأعلى في العالم، وبالرغم من ذلك نجحت في مضاعفة حجم اقتصادها بشكل كبير ومستمر طوال 40 عامًا، مكنتها من أن تصبح القوة الاقتصادية الثانية على مستوى العالم، فضلًا عن خروج أكثر من 850 مليون نسمة من سكانها من دائرة الفقر، وتحول الصين من بلد معزول لتصبح معجزة اقتصادية وتنموية رائدة في العالم.

لكن على الجانب المقابل، فإن الصين حتى تصل لتلك المعجزة الاقتصادية، والتي بذلت من أجلها جهودًا حثيثة في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتعميق المحلي الواسع للصناعة، وتوطين ونقل التكنولوجيا، والرفع الكبير لمستويات التعليم، والقضاء على الأمية، والتي تكاملت تلك الجهود، وغيرها مع سياسة “الطفل الواحد” التي تبنتها الصين منذ مطلع السبعينيات، والتي نتج عنها انخفاض شديد ومفاجئ في معدلات النمو السكاني، مما ساهم بشكل مباشر في تحسين مستويات المعيشة لأغلب الصينيين.

صحيح أن الصين قررت في 2018 إلغاء سياسة الطفل الواحد بسبب تباطؤ نمو السكان، وارتفاع معدلات الشيخوخة، وتسعى لتشجيع المواطنين على العودة للإنجاب، لكن ثقافة المواطنين أصبحت أكثر تحفظًا، وخوفًا من الإنجاب بسبب الخوف للعودة إلى دائرة الفقر، لكن الحقيقة أن معدلات النمو الصينية كانت كبيرة، وتزامنت مع تطبيق سياسة الطفل الواحد، ما يعني أن خطاب الحكومات المصرية المتعاقبة به قدر كبير من الصحة.

اتسمت مصر بمعدلات نمو سكاني مرتفعة في الفترة من الستينيات، وحتى التسعينيات من القرن الماضي، حيث تراوحت نسبة الزيادة السكانية في مصر طوال تلك العقود من 2.3% وحتى 2.7% بشكل دائم، وبمتوسط بلغ 2.17%، صحيح أنه أكبر بقليل من المتوسط العالمي، لكنه كان أقل من نظيره في إفريقيا والعالم العربي.

وفي الفترة من 2000 وحتى 2020 انخفضت الزيادة السكانية في مصر بشكل كبير إلى ما دون الـ 2% سنويًا، وهو تتويج لنجاح الجهود في حملات تنظيم الأسرة ورفع الوعي، وزيادة معدلات التعليم، وتأخر الإنجاب، إلا أن تلك الفترة شهدت بعض التذبذبات في ارتفاع المعدل لعدة سنوات، وانخفاضه مرة أخرى.

وبالرغم من هذا الانخفاض الإيجابي لسنوات طويلة، أصبح ارتفاع الزيادة السكانية في الأعوام الأخيرة مخيفًا، حيث تخطت مصر حاجز الـ 100 مليون نسمة بعد 4 سنوات فقط من بلوغها 90 مليون نسمة، وهي مؤهلة بالمعدلات الحالية لتصل إلى 130 مليون نسمة بحلول عام 2030 بحسب بعض التقديرات، وتتنبأ أحد الدراسات الاستشرافية الهامة لجهاز الاستخبارات الأمريكي CIA – وهي دراسة سابقة منشورة في مارس 2021 عن شكل العالم في 2040 – بأن يتجاوز عدد سكان مصر في ذلك العام أكثر من 160 مليون نسمة، معظمهم من الشباب، ما ينذر بتهديدات كبيرة على مستوى الأمن الغذائي والمائي والاستقرار السياسي؛ نتيجة تراجع فرص العمل، والكثير من التحديات الخطيرة للغاية، وهو ما نجده قريبًا للواقع مع معدلات النمو السكاني التي نراها الآن.

البنك الدولي يؤكد في دراساته، أن الزيادة السكانية عالميًا -والتي كانت أحد دوافع التنمية في الكثير من الدول- أصبحت تهديدًا خطيرًا للبشرية الآن، وذلك بسبب التغيرات المناخية، التي أدت لتراجع الرقعة الزراعية، وانخفاض معدلات إنتاجية المحاصيل، وشح الموارد المائية، ما يمثل أزمة إنسانية مقبلة من الجوع، وزيادة الصراع على الموارد القليلة، وبالعودة للحديث عن مصر فإن تراجع المساحات الزراعية على مدار العقود الماضية، وزيادة أعداد السكان مع المخاطر التي يمثلها سد النهضة، تعطي سببًا آخر لإعطاء قضية الزيادة السكانية اهتمامًا خاصًا.

هذا الحديث إذًا هو ليس لتبرير ضعف الأداء التنموي عبر عقود، وإلقاء المسئولية في ذلك على المواطنين، بل هو تأكيد على أن تلك الزيادة السكانية لن تتوقف، ما دام ظل الأداء التنموي غير ملائم لحجم الاحتياجات الوطنية، وذلك، لأن معدلات الإنجاب تتزايد في الأرياف، والمجتمعات الأكثر فقرًا، كمحاولة من الأسر الفقيرة للخروج من دوائر الفقر، عبر إنجاب أكثر للأطفال وإدخالهم في سوق العمل سريعًا، فالزيادة السكانية لا تأتي في الفراغ، بل تأتي في سياق اقتصادي واجتماعي وثقافي، وهي تعبير في حد ذاته عن أداء الخطط التنموية في إدماج السيدات في سوق العمل، وتوفير الوظائف، وزيادة الإنتاجية، وارتفاع معدلات التعليم، وغيرها من الأسباب المتداخلة والمؤثرة في زيادة الإنجاب والمواليد.

العديد من الدراسات تتحدث عن ضرورة زيادة معدلات النمو الاقتصادي سنويًا إلى 3 أضعاف معدلات الزيادة السكانية، حتى تتمكن الدولة من زيادة دخلها القومي، ورفع قدراتها على خلق الاستثمارات ومضاعفة الوظائف وزيادة معدلات الدخول والاستهلاك، وهو ما يعني أن مصر تحتاج لما يزيد عن 7.5% نمو سنوي، لتتمكن من مواكبة معدلات الزيادة الحالية في المواليد، وهو أمر بالغ الصعوبة.

بالتالي، فإن برامج وسياسات الحكومة تجاه هذه القضية المصيرية، يجب أن تتحلى بقدر أكبر من الكفاءة والسرعة والإنجاز، ومن الضروري أن تكون على ركيزتين أساسيتين: وهما سياسة فعالة لخفض الزيادة السكانية بما يتضمن ذلك من دعم لأساليب تنظيم النسل، وحملات التوعية، والتي تتطلب تحسنًا وتفاعلًا إيجابيًا من المواطنين، والركيزة الثانية: هي إدماج السيدات في سوق العمل، والتوسع في نمط الاستثمارات الصناعية كثيفة العمالة في الأنشطة المستدامة، والتي على المدى الطويل تستطيع توليد دخل أفضل، وبالتالي تشجع الأسر على تعليم الأبناء، وتأخير سن الزواج للفتيات، وإحداث قفزات كبيرة في معدلات النمو لسنوات متتالية لتتواءم مع الاحتياجات التنموية لمجتمع كبير بهذا الحجم.