لن أكتب في الذكرى الثامنة والأربعين لوفاة الرجل الكبير حكاياتٍ عن مواقف صار القارئ الكريم يعرفها عن دوره في ليلة 23 يوليو 1952 وما تلاها من أحداث، وإن كان ما سأرويه اليوم، في امتداد لمقالي السابق عنه والذي نُشِر بموقع “مصر 360” في يناير الماضي، يُسلط الضوء -بقدر ما تسمح به مساحة المقال- على التركيبة النفسية والثقافية للرجل عَلَّ ذلك يكون مُقدمة لفهم شخصيته بما يتيح تفسير مواقفه التي صارت في ذمة التاريخ، ذلك التاريخ “اللئيم” -على وصف هيجل- الذي يكتبه المنتصرون ثم تتضح حقائقه شيئًا فشيئًا بعد زوال نشوة الانتصار حيث يكون “لقراءة” ما كُتِبَ شأنٌ آخر.

لعبت الثقافة بمفهومها الشامل دورًا بالغ الأهمية في تكوين وجدان الرجل الكبير على نحوٍ لم يتوافر للكثيرين من أقرانه ومُجايليه، وهو ما كان له من عظيم الأثر على رؤيته العامة للوطن والحياة والناس فتَجلى ذلك واضحًا في تَجَرُده وزُهدِه ونَزَاهة نفسه.

في حوار هاتفي له مع الرئيس جمال عبد الناصر على هامش الإحتفال بالعيد العاشر لثورة يوليو، سأله الرئيس جمال عبد الناصر عما إذا كان قد مَلَّ من البقاء في المنزل بلا عمل وفي أي مجال يود أن يعمل، فقال له “في الكتب خانة، علشان أتسلى في قراءة الكتب”*. كان قارئًا من طراز رفيع، ينظم الشعر على خُطى رب السيف والقلم محمود سامي البارودي، إلا أنه تميز عن البارودي بخفة ظل إنعكست في كثير مما كتب فأكسبت شِعره نَفَسًا لاذعًا وأظهرت قدرة ،لا يتميز بها سوى أصحاب بصيرة ثاقبة، على التقاط صورٍ ساخرة من قلب الهم والغم والحزن العظيم صاغها ببراعة شاعرٍ مُجيد. وللشعر من هذا المقال نصيب بحكايتين تخلوان من الحديث عن قصائده الشهيرة المعروفة لدى الكثيرين في نقد ثم رثاء الرئيس جمال عبد الناصر.

الحكاية الأولى: شكوى لوزير الحربية

في كتاب “أوراق يوسف صديق”، مقال بالعامية المصرية (في الأغلب هو تفريغٌ مكتوب لحوار تلفزيوني أو إذاعي) للصاغ حسن الدسوقي الذي كان صديقًا وزميل سلاح للرجل الكبير تناول جانبًا من شخصيته في بُعدٍ إنساني ساهمت اللغة التي تحدث بها في بيانه بسلاسةٍ وُمباشَرَةٍ عبقريتين. يروى الصاغ حسن الدسوقي أن محمد حيدر باشا وزير الحربية وقائد الجيش المصري أثناء حرب فلسطين كان قد أصدر قرارًا بترقية كل الضباط والجنود الذين إشتركوا في تلك الحرب ،الأحياء منهم والشهداء، باستثناء يوسف صديق ورفيقه حسن الدسوقي وقد أمضيا فترة الحرب كاملة ما بين المجدل وأسدود الواقعتين على الطريق ما بين غزة ويافا من ناحية وتل أبيب وعسقلان والقدس من ناحية أخرى، فما كان من الرجل الكبير إلا كتب شكواه لحيدر باشا “شِعرًا” وأرسلها بالطريق الرسمي القانوني المعتاد ليقوم أركان حرب اللواء بِرَدِ الشكوى.

يقول الصاغ حسن الدسوقي: “قائد الكتيبة بعثها لقائد اللواء قائد قوات فلسطين فأركان حرب اللواء رَد القصيدة. وقال أن الضابط ده يكتب الشكوى باللغة العادية، فهو رد عليهم كتابةً وقال لهم قولوا لي أولا، أنا كاتب القصيدة بأرقى أنواع اللغة لأن الشعر هو أفصح مراتب اللغة العربية. فتقولوا لي الأول، السيد الوزير يفهم في الشعر وإلا ما يفهمش. إذا كان بيفهم، إبعتوا له القصيدة، ما بيفهمش في الشعر، قولوا لي علشان أكتبها باللغة العادية، فطبعا بعثوها”**.

قُل للوزيرِ غَمَرتنا إحسانا ونَشَرته حتى على مَوتانا
قُل للوزيرِ وقد تبين حَقنا وولاءَنا ما بَالهُ يَنسانا

الحكاية الثانية: مرحاض عبد النبي

يروى الصاغ حسن الدسوقي في موضع آخر*** من المقال أن الرجل الكبير كان يتردد على المستشفى للعلاج حيث كان يتعين عليه البقاء في قميص من الجبس لثلاث سنوات. كان للمستشفى في ذلك الوقت مديرًا اسمه الدكتور عبد النبي وكان طبيبًا بارعًا ومُبتَكِرًا فإخترع مِرحاضًا “مَحمولًا” صَنَعَه من قاعدة مُثَبَتة على دَلو لاستخدام الجنود في المعسكرات الخارجية بديلًا للمرحاض “البلدي”.

يروى الصاغ حسن الدسوقي أنه قد أُطلِق على هذا المرحاض لإثباته ضمن العهدة بالدفاتر آنذاك “أدب خانة طراز عبد النبي”. في نهاية أحد أيام وبعدما أتم الرجل الكبير زيارته للمستشفى وغادر للمنزل، وجد الدكتور عبد النبي ورقة مطوية على مكتبه، فلما فَضَّها قرأ:

عَبد النبي، يا إبن قومٍ في الوَرى بَرَعوا ورَاقَهُم مَنظرُ المِرحاضِ فإخترعوا
وشَيدوه على الأيامِ مَفخَرَةً فَلَيتَ قومًا على خُطواتِك إبتدعوا

الحكاية الثالثة: طاولة مُنزَوية على الإفطار

رَوت لي الصديقة العزيزة ليلى كريمةُ الرجل الكبير موقفًا أترك لحصافة القارئ الكريم استنباط ما يشاء منه. كان من عاداته الرمضانية التى لم تنقطع أن يجمع كل من في المنزل على طاولة واحدة للإفطار: أفراد العائلة وكذا كل العاملين بلا إستثناء. صادف في سنة من السنوات أن زاره أحد أنسباءه وكان من كبار البورجوازيين الأثرياء لقضاء شهر رمضان ببيته العامر، فلما حان وقت الإفطار بأول أيام الشهر، لم يَرُق للضيف جلوس العاملين بالمنزل معه على طاولة واحدة، فأرغى وأزبد رافضًا أن يفطر إلى جوار السائق والحارس والخادمة، فما كان من الرجل الكبير وهو المُضيف الكريم الذي -في نفس الوقت- لا يتنازل عما يراه صوابًا إلا أن قال له: “لك حق الاختيار يا فلان بك وعلينا واجب الاستجابة”، ثم أردف: “ترابيزه مخصوص تتعمل لفلان بك”. وقد كان، فأمضى “فلان بك” رمضان بأكمله وهو يتناول طعام إفطاره وحيدًا على طاولة منزوية بِرُكنٍ قَصى بينما جلس الجميع إلى المائدة الكبرى بلا تفرقة كعادة الرجل الكبير التي لم يتوقف عنها إلا بتمام الأثر في 31 مارس 1975.

لا ينفد صندوق الذكريات ولا ينضب مخزون الحكايات عن “الإنسان” يوسف صديق على روحه السلام والخلود، لنظل نحن نَذكُرُه ونَتَذَكر في إجلالٍ يليق بمقامه الرفيع.

*الصفحة 149 من كتاب “يوسف صديق وجمال عبد الناصر وأنا” للسيدة علية توفيق- الطبعة الأولى عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.

**الصفحة 201 من كتاب “أوراق يوسف صديق” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1999.

***الصفحة 208 من المصدر السابق.