ليس عندنا أحزاب معارضة حقيقية، ولن يكون عندنا أحزاب معارضة حقيقية، لسبب بسيط جدا، إذ ليس عندنا أحزاب حكم حقيقية، ولن يكون عندنا أحزاب حكم حقيقية، وذلك أيضا لسبب بسيط جدا، عندنا فقط شخص حاكم، دون حزب حاكم حقيقي، ودون حزب معارض حقيقي، عندنا منذ إعلان الجمهورية في 1953م حتى وقت كتابة هذه السطور في ربيع 2023م، أي على مدار سبعين عاما كاملة، عندنا رئيس للجمهورية يصل للحكم باستفتاءات صورية لا مصداقية لها، أو بانتخابات شكلية لا معنى لها، ثم هذا الرئيس قاعدة حكمه هي قوة الجيش، يبقى الرئيس في الحكم ما دام يحظى برضا الجيش، ويخرج من الحكم إذا فقد رضا الجيش، لأي سبب من الأسباب مثلما حدث مع الرؤساء نجيب، ومبارك ومرسي مع فارق أن الأخير جاء بانتخابات أشرف عليها الجيش.

فعلى مدى العقود السبعة من حكم ضباط الجيش؛ فإن الجيش وليس الشعب هو سر وصول الرئيس للسلطة، كما هو سر بقاء الرئيس في السلطة، كما هو سر خروج الرئيس من السلطة، وذلك كله لسبب بسيط جدا، وهو أن ثورة 23 يوليو 1952م جعلت الجيش – وليس الشعب – مصدر السيادة، الجيش هو السيد القائم على أمور البلد والشعب، كان ومازال وسوف يظل كذلك إلى أجل قريب أو بعيد ريثما يكون الشعب قادرا على أن يكون- بالفعل وبالواقع وليس بالكلام ونصوص الدستور فقط- هو السيد الذي يعلو ولا يُعلى عليه والذي يأمر ولا يؤمر باعتباره المالك الأول، والأخير للبلد لكل ما عليها بما في ذلك الجيش.

رئيس الجمهورية لا يحكم من خلال حزب حاكم، ولا مُستعينا بحزب حاكم، ولا بقوة حزب حاكم، إذ لم تعرف مصر في السبعين عاما أي حزب حاكم، فلم يؤسس نجيب، ولا عبد الناصر، ولا السادات، ولا مبارك، ولا السيسي أحزابا حاكمة، إنما أسسوا تنظيمات تحت مسميات مختلفة، هيئة التحرير، الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي، الحزب الوطني الديمقراطي، حزب مستقبل وطن، وكلها ليست أحزابا بالمعنى العلمي للحزب السياسي سواء في نظام ديمقراطي، أو شمولي، لكنها أقرب ما تكون إلى ملحقات إدارية، وحدائق خلفية تابعة للجهازين: الأمني والبيروقراطي، قوة مشاة أرضية تجند أطيافا مختلفة من شرائح الطبقات الوسطى، تفيد في الحشد والتعبئة في تزوير الانتخابات، والاستفتاءات العامة، وفي مقابل ذلك تستفيد من مغانم السلطة، تعطي السلطة ظهيرا شعبيا، وتأخذ من السلطة منافع مادية وأدبية. ولذلك لم يستمر أي منها، فكل منها ينتهي بنهاية عهد الرئيس، الذي تأسست في حضوره ولمصلحته، ثم يأتي الرئيس الذي بعده فيؤسس غيرها وهكذا.

نتيجة ما سبق هي أن النظام السياسي المصري في عهود الرؤساء من ضباط الجيش لم ينتج مؤسسات سياسية حزبية منظمة، ومستقرة ومستمرة تتداول على السلطة عبر انتخابات عامة غير مزورة، فمن يفوز بالأغلبية؛ يكون الحزب الحاكم، والآخر يكون حزب أو أحزاب المعارضة وهكذا، لم يحدث شيء من ذلك، عن قصد وعمد، وذلك لسبب بسيط جدا، وهو أن وجود أحزاب تصل للسلطة بانتخابات عامة، أو بإرادة الشعب يلغي جوهر النظام السياسي الذي جاءت به ثورة 23 يوليو 1952م، هذا النظام يمكن تلخيص أهم سماته بإيجاز شديد في، رئيس من الجيش، ذلك يجعله فوق مؤسسات الدولة، ثم يجعل الدولة فوق الشعب، ثم يجعل الشعب على الهوامش البعيدة من مركز السلطة، ومن فوق أرضية هذه الهوامش يتم السماح بتشكيل ما يُطلق عليه مسميات الأحزاب، بعضها تابع للسلطة مباشرة، وبعضها يحمل لقب المعارضة لكن في حدود الهوامش المسموح بها من سلطة لا تحترم مؤيدا ولا معارضا، ومن يخرج من المعارضين عن الهوامش المسموح بها يلقى جزاءه.

في السبعين عاما من 23 يوليو 1952م حتى وقت كتابة هذه السطور، استند ظهر الرئيس إلى جدار الجيش، يصلب عوده ويقويه ويغنيه- إغناءً كاملا- عن الحصول على تصويت شعبي حقيقي، لا حاجة للرئيس، كل رئيس، إلى التصويت الشعبي الحقيقي، يكفيه التصويت الشكلي، يكفيه استيفاء الشروط المنصوص عليها في الدستور حتى تتوفر له الشرعية القانونية والدستورية اللازمة لمباشرة عمله كرئيس شرعي للبلاد. هذا الوضع يجعل من الرئيس رقما أوحدا في النظام السياسي، الرئيس هو الصوت، وما سواه مجرد أصداء، الرئيس هو الخيمة، وعمودها وما سواه عابرو سبيل، ورمال متحركة، الرئيس يحكم، والمؤسسات بين يديه مجرد أدوات، الرئيس فوق الحزبية، فوق السياسة، فوق الدولة، فوق الشعب، فوق التاريخ. الرئيس في السبعين عاما من حكم ضباط الجيش ظاهرة ميتافيزيقية متعالية فوق ما هو بشري، ولا حدود لها ولا قيود عليها- في مواجهة الشعب- إلا بانتهاء الأجل المكتوب.

سلطات وصلاحيات الرئيس فوق ما هو بشري، لكن أجل الرئيس محدود بحدود ما هو بشري، فعندما تأتي ساعة الأجل المقدور، لا يحفظ الدولة إلا الجيش أولا، ثم البيروقراطية الأمنية والإدارية ثانيا، ثم حياد الشعب، ثالثا. هما فقط من يحفظ انتظام المؤسسات، وسلامة البلاد، وتشغيل المرافق، واستتباب الأمن العام. الجيش، والبيروقراطية، وحياد الشعب ثلاثة من صمامات الأمان في لحظات فراغ السلطة، وفي لحظات الانتقال من رئيس انتهى لأي سبب من الأسباب إلى رئيس جديد.

حياد الشعب، أي شعب، فيما يخص مصيره ومصلحته ووجوده، ليس مؤشرا على حيوية من أي نوع، هذا الحياد مؤشر سلبي، هذه الحياد- للأسف الشديد- خلاصة الاستبعاد المقصود الذي لقيه، ومازال يلقاه الشعب من حكامه من ضباط الجيش، فمنذ تأسست الجمهورية، والضباط يعتبرون أنفسهم- باعتبارهم أبناء الشعب- يحكمون بالإنابة عنه ويحملون مسئوليته تطوعا منهم، ويقومون على أمره بدوافع الغيرة الوطنية، ومن ثم طلبوا منه السكوت، ثم فرضوا عليه السكوت، ثم لم يتورعوا عن التجسس عليه، ووضعه تحت المراقبة المشددة، وعقاب من يتكلم بغير المسموح به من كلام. حكم السبعين عاما تحت رايات الاستقلال، والوطنية نزع من المصريين حيويتهم السياسية، وجردهم من الثقة في قدرتهم وقتل فيهم فضائل الكفاح من أجل الحرية، وخرج بهم من السباق الإقليمي، والعالمي، حتى يكاد يصل بهم إلى مشارف الاضمحلال، ويبدأ اضمحلال الشعوب،عندما يشعرون أنهم باتوا غير مقنعين لأنفسهم، وغير مقنعين لغيرهم، يبدأ الاضمحلال عندما يفقد الشعب اقتناعه بذاته، وبأنه مؤهل وقادر على خوض سباق التقدم، والانتصار مع نفسه ومع غيره، يبدأ الاضمحلال عندما يقف شعب مع نفسه، ويتأمل أين هو من التاريخ؟ فيتشكك في أمسه القريب ويستريب من لحظته الحاضرة، ولا يدري كيف يواجه لحظته القادمة، التي تدهمه دون انتظار منها ودون استعداد منه.

أسوأ ما في حكم السبعين عاما، أنها نزعت ومازالت تنزع من المصريين حوافز الإقدام التاريخي، وهمة الإنجاز الحضاري، وروح السباق مع غيرهم من الشعوب، جمدت روح المباراة بما فيها من تدريب، واستعداد، وتخطيط، واتقان، وبناء قدرات، وثقة في النفس، وفرح بالحياة، وسعي للسعادة المشتركة، ورغبة في التحضر، والتمدن، والرقي، والتقدم، والانتصار، فلا تاريخ بلا حوافز، ولا إنجاز بلا همة، ولا همة بلا تحد، ولا تحد بلا كفاح، ولا كفاح بلا مواجهة شجاعة مع الواقع، ولا مواجهة دون حرية ينتزعها الأحرار من كل غاصب لها سواء كان الغاصب وطنيا، أم أجنبيا. عندما يأتي القهر للشعب من حكم وطني مستقل فهو يدمر فضائل الشعب السياسية، ومروءته الوطنية، وحبه للحياة العزيزة فيشق الشعب- تحت القهر- طريقه للاضمحلال، بعكس ما حصل في فترات الاحتلال، والقهر الأجنبي، فقهر الأجنبي المحتل الدخيل استفز المصريين، وحرك فيهم الغيرة الوطنية، واضطرهم لأن يستخرجوا من أنفسهم أحسن ما فيهم من فضائل العلم، والحرية، والفكر، والوطنية، والثقافة، والإقدام التاريخي الجبار، القهر الوطني في حكم الضباط اغتال حوافز التاريخ فانتهى بالاضمحلال، بينما قهر الاحتلال كان تحديا استجاب له المصريون على مدى ثلاثة أرباع قرن بكل مايشرفهم، ويفخرون به من ثورة العرابيين إلى ثورة 1919م إلى ثورة 23 يوليو 1952م، ثم بالتدريج ضعفت ثم خمدت في المصريين روح المبادرة، والإقدام، والحافز التاريخي الفعال، والمنجز، والمثمر. الفرق بين القهر الوطني، والقهر الأجنبي، أن القهر الأجنبي استفز في المصريين همة الصعود التاريخي، وأن القهر الوطني ساقهم نحو روح الاضمحلال.

السؤال الآن: كيف تخرج مصر من روح الاضمحلال؟ وكيف يستعيد المصريون غرائز السباق التاريخي؟ وكيف يخوضون مباراة الصراع على المستقبل؟

الجواب في نقل السيادة للشعب، بحيث الشعب ينتخب الرئيس في انتخابات حقيقية؛ يكون فيها المواطن صاحب السيادة شاهد عدل، وليس شاهد زور، وأن يكون الرئيس- بغض النظر من خلفية عسكرية أو مدنية- ذا حيثية بشرية لا ميتافيزيقية، ولا نصف إلهية، من الناس لا فوقهم، من البشر لا أعلى منهم، من الدولة لا فوقها، من التاريخ الواقعي لا من الأسطورة،  من الواقع لا مستعليا عليه، جزءا من العملية السياسية لا مترفعا عنها، جزءا من حزب جماهيري لا من قلعة محصنة وراء جدار، جزءا من الحياة اليومية لا في برج عال، وكل ذلك معناه أن يأتي لمنصب الرئيس من خلال حزب حقيقي، لا حزب كرتوني- كل أحزاب الرؤساء من 23 يوليو 1952م مجرد كراتين ورقية- ثم هذا الحزب الحقيقي وارد يفوز في الانتخابات بالأغلبية؛ فيكون الحزب الحاكم ثم من الوارد في انتخابات تالية يخسر الأغلبية، فيكون حزب معارضة حقيقي، يستعد من جديد؛ ليفوز بالأغلبية حتى يعود للحكم وهكذا.

المطلوب ليس نقل السلطة من شخص إلى شخص، ولا من عسكري إلى مدني، لكن المطلوب نقل السيادة من الجيش إلى الشعب، والشعب يعبر عن نفسه في تنظيمات سياسية علنية سلمية ديمقراطية اسمها الأحزاب، ثم الأحزاب تتنافس من خلال انتخابات نزيه عادلة حرة نظيفة، فمنها حاكم إلى حين، ومنها معارض إلى حين، وباستمرار هذه العملية لسنوات طويلة يتمرن الشعب على حكم نفسه بنفسه، ويتدرب على الديمقراطية، ويكتسب طبائع الحرية، ويتعالج على فترات طويلة من ميراث الاستبداد، وتتطور منظومة أخلاقه المدنية، وتتعمق قيمه الحضارية، ويسترد روح الكفاح،ورغبة الحياة، وهمة السباق من أجل المستقبل فينضو عن نفسه لباس الاضمحلال والتخلف.

***

الجيوش مؤسسات حرب، لا مؤسسات حكم، لكن الضرورات الواقعية في البلدان غير المستقرة، تسمح لها بفرص القفز على السلطة ربما مرارا وتكرارا في بعض البلدان، فالقفز على السلطة لضرورة مقنعة أو غير مقنعة أمر وارد، المشكلة في أمرين : أولهما: أن تتحول الضرورة المؤقتة إلى واقع دائم، فيستمر العسكريون في مزاولة السلطة كل يوم، تحت مبرر جديد لأجل غير معلوم ، ثم آخرهما: أن يزاول العسكريون السلطة بالفكر العسكري، الذي يمارسون به شؤونهم العسكرية التي مدارها على القتال، والتدريب على القتال، في كلا الحالين ينقلب تدخل العسكريين في الحكم من باب الضرورة إلى بابين لا ثالث لهما : باب الديكتاتورية ثم باب الفساد.

لذا فالحل الأمثل، هو أنه بمجرد أن تنتهي الضرورة التي تسببت في قفز العسكريين على السلطة، تبدأ اجراءات نقل السلطة من جديد إلى المدنيين، لكن من حيث الواقع، ربما تؤدي قفزة العسكريين على السلطة إلى نسف الطبقة المدنية القديمة، دون أن تتوفر الظروف الكافية لخلق، وتشكيل طبقة سياسية جديدة، تماما مثلما حدث قبل مائة عام في تركيا مع مصطفى كمال أتاتورك، وما حدث قبل سبعين عاما في مصر مع الضباط الأحرار، هنا في مثل هذه الحالات، يكون الحل الواقعي وليس الأمثل، هو أن يقرر العسكريون الذي يريدون الاستمرار في الحكم إلى مدنيين حقيقيين، يقطعوا صلتهم بالعسكرية، ويؤسسون أحزابا، ويخوضون الانتخابات، ويستمدون الشرعية من التصويت الانتخابي، ويجعلون السيادة للشعب وليس للجيش، ثم يسمحون بتشكل أحزاب معارضة، ثم يحتكمون دوريا  للإنتخابات العامة، على أن تكون انتخابات نظيفة نزيهة حرة وعادلة، حتى إذا حدث، وفاز حزب معارض، فإن الحزب الحاكم الذي يقوده عسكريون سابقون، يعترف بنتائج الانتخابات، ويرحب بنقل السلطة سلميا، ودون أدنى اضطراب للحزب الفائز، وينقل هو إلى صفوف المعارضة، وهكذا يتم نقل السلطة بالتدريج من الجيوش إلى الشعوب.

لماذا مصطفى كمال أتاتورك يحمل حتى اليوم والغد، وإلى يوم الساعة لقب مؤسس الجمهورية التركية الحديثة؟ بينما الرئيس جمال عبد الناصر معدود فقط ثاني الرؤساء وربما أشهرهم وأكثرهم أهمية لكن لم يحمل لقب مؤسس الجمهورية.

الفوارق بين الرجلين تكمن في السجلين العسكري والسياسي، ففي السجل العسكري انتصر أتاتورك ثلاث مرات كضابط حرب، انتصر ضد الانجليز في معركة جاليبولي وأنقذ استانبول من الاحتلال 1915م، ثم انتصر ضد الروس في حلب 1916م ثم انتصر ضد اليونانيين في الأناضول 1921م حتى حمل لقب ” الغازي “، بعكس الرئيس جمال عبدالناصر الذي لم يحالفه النصر في أي حرب سواء في حرب 1948 م أو حرب 1956م أو حرب اليمن 1962م أو حرب 1967م. ثم في السجل السياسي أسس أتاتورك أولا: حركة الدفاع عن حقوق الأناضول، وهي حركة عسكرية سياسية حرر بها تركيا من احتلال الحلفاء، وغزو اليونان بما استحق معه لقب ” أتاتورك أي أبو الترك “، ثم فصل بين العسكري والسياسي، ثم أسس حزب الشعب الجمهوري، وحكم من خلاله حتى مات 1938م ثم خلفه رفيق كفاحه عصمت أينونو، ولقب أينونو اكتسبه من اسم معركة حربية انتصر فيها على القوات اليونانية، ثم بعد أن انضمت تركيا إلى الأمم المتحدة، بدأ أينونو يقود تحولا كبيرا نحو الديمقراطية، وقال: كلمته الشهيرة التي استوحيت منها عنوان هذا المقال، قال : تركيا ليست ديكتاتورية لكن ينقصها أحزاب معارضة، وبدأ يفتح وهو العسكري السابق نوافذ التحول الديمقراطي فرفع القيود التي رافقت سنوات الحرب العالمية الثانية، وبدأت المعارضة تعمل في حرية، حتى وقعت الواقعة في انتخابات 14 مايو 1950 م، وهنا أنقل عن المستشرق الأشهر المتخصص في تركيا برنارد لويس في ص 378 وما بعدها من كتابه ” ظهور تركيا الحديثة ” قوله : ” في 15 فبراير 1950 م، وبعد مناقشات طويلة، تمت الموافقة على مشروع قانون انتخابي جديد، وافق عليه حزب الشعب الجمهوري الحاكم، والحزب الديمقراطي المعارض، وبعد وقت قصير بدأت الأحزاب حملاتها الانتخابية، ولكل منها حق متساو في الإذاعة، واستخدام القاعات العامة، والتسهيلات الصحفية كافة، تحدث حزب الشعب عن الإصلاح الزراعي، وعن الفرص الممكنة للقطاع الخاص، ووعد بمزيد من الديمقراطية . وشن الحزب الديمقراطي هجومه على حزب الشعب لبطشه، ووعد بالمزيد من الحرية السياسية، وتخفيف قبضة الدولة، ووعد بالمزيد من الفرص للقطاع الخاص، وضمن حق العمال في الإضراب، كما كان الحزب الديمقراطي يتبنى نموذجا مخففا من العلمانية في مقابل العلمانية الصارمة لحزب الشعب“.

ويقول برنارد لويس: في 14 مايو 1950 م ذهبت تركيا إلى صناديق الاقتراع، أدلى ما يقرب من ثمانية ملايين ونصف المليون بأصواتهم، فاز الحزب الديمقراطي المعارض بأغلبية كاسحة، وخسر حزب أتاتورك الحاكم خسارة فادحة، وبعد 27 عاما سمح حزب الشعب الجمهوري لنفسه أن يكون مهزوما في انتخابات حرة، ونزيهة، وحقيقية، واعترف بالانتخابات، وسلم السلطة سلميا للمنتصرين. ثم يتساءل برنارد لويس: لماذا فعل الحزب ذلك مع كل سلطاته الهائلة من سيطرة، وقمع وتفوق دون منازع لفترة طويلة بلغت سبعة وعشرين عاما؟  ويجيب: بأن الرئيس الثاني للجمهورية التركية كانت لديه الرغبة في كسب الغرب، لذا بدأ في التخفيف من القبضة الاستبدادية مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، ثم سبب آخر، هو نمو الاتجاهات الليبرالية الديمقراطية بين الشعب التركي، مع سخط قطاعات كبيرة من صرامة العلمانية، التي انتهجها حزب الشعب في العشرينيات، والثلاثينيات من القرن العشرين، ثم من قوانين الإصلاح الزراعي، التي أسخطت الإقطاعيين حين صادرت أراضيهم، ولم تكسب مودة الفلاحين، إذ لم توزع عليهم الأراضي، واحتفظت بها الدولة كأملاك عامة، ثم هناك الرغبة في التغيير لمجرد التغيير، فسوف يمل المواطنون من أي حزب يستمر في الحكم منفردا لفترة طويلة، حتى لو كان حزبا من الملائكة، ثم هناك الطبقات الوسطى الناشئة من التجاريين، والصناعيين الذين لم يكونوا على وفاق مع “التوجهات الاشتراكية لحزب أتاتورك ” .وينقل برنارد لويس: عن مؤرخ تركي قوله: انتخابات 1950م هي أعظم ثورة بيضاء في تاريخ تركيا، تحققت دون إراقة دماء، ودون أن تعبأ بأي عقبات تقف في طريق تقدمها. ثم يقول: إن انتصار المعارضة كان مفاجأة لجميع الناس، فلم يكن الأتراك، ولا الأجانب يعتقدون أن حزب الشعب الجمهوري الحاكم، الذي كان يتمتع بفترة طويلة باحتكار السلطة، سوف يسمح لنفسه أن يُهزم بسهولة، أو أنه في حال هزيمته سوف يُفسح المجال – بهدوء – للمنتصرين، كانت الانتخابات نزيهة، ومنظمة وهادئة، ولم تقع أي حوادث أو اضطرابات، وتم نقل السلطة كما يحدث في أعرق الديمقراطيات وأكثرها أمانا.

في ص 317 وما بعدها من كتابه ” النظام السياسي في عالم متغير ” يرصد عالم السياسة الأشهر صمويل هنتنجتون، مسيرة التحول من العسكريين إلى المدنيين في سطور موجزة، فبعد أن يتحدث عن كيف حصل التحول من عسكري إلى مدني في المكسيك، ينتقل للحديث عن تركيا فيقول: في تركيا حدثت أيضا عملية تمدين مماثلة، وإن لم تكن ناجحة تماما مثل نجاح المكسيك، ففي 1924م تمت إقالة رئيس الأركان من مجلس الوزراء، وتقلص عدد الضباط السابقين في المناصب المدنية، وفي 1920 كان الضباط يشكلون 17% من عضوية البرلمان، انخفضت إلى 12% عام 1943م، ثم انخفضت إلى 5% عام 1950م، وفي 1938م انتقلت الرئاسة بعد وفاة أتاتورك إلى عصمت أينونو، الذي جاء مثله من الجيش، لكنه زاول السياسة المدنية عشرين عاما قبل أن يصير رئيسا، ثم في عام 1948م لم يكن في مجلس الوزراء ضابط عسكري واحد، ثم في عام 1950 م فاز حزب المعارضة بالحكم، واعتلى السلطة بهدوء، ثم بعد ذلك بعشرة أعوام أخذ هذا الحزب، يطبق سياسات فيها قمع للشعب، وبطش بالمعارضة مما أثار استياء الجيش، وقرر الجيش باسم التقاليد الأتاتوركية التدخل في السياسة، يعني انقلاب عسكري، وأقام نظام حكم عسكري قصير الأمد، وأجرى انتخابات حرة ونظيفة 1961م، وسلم السلطة للحزب الفائز، ثم تكرر انقلاب عسكري آخر 1980م ثم محاولة فاشلة في 2016م.

هذا السجل السياسي يجعل من أتاتورك، ونائبه ثم خليفته عصمت أينونو من بناة الدول، وكبار الزعماء في السياسة  مثلما كانوا من كبار القادة العسكريين في ميادين القتال، بعكس التجربة المصرية، فلم يكن الرئيس نجيب غير قناع لباقي الضباط، ثم لم يكن الرئيس عبدالناصر غير واحد من اثنى عشر ضابطا، كل ميزته أنه تفرغ لهم حتى أكلهم، لم ينشئ علاقة عمل صحية مع واحد منهم، بما في ذلك المشير عبدالحكيم عامر الذي وضعه في الجيش، أو الرئيس السادات الذي اتخذه نائبا له، فقد بلغ صراعه مع عبدالحكيم ذروته، ولم يحسمه غير ضياع البلد بكامله في نكسة 1967م ثم لم يترك شيئا للسادات يسير عليه غير استيكة مسح بها السادات كل مابناه عبدالناصر، الفرق بين أتاتورك وعبدالناصر، وهما معا – من كبار القادة الذين صنعوا الشرق الأوسط المعاصر – أن أتاتورك بنى نظاما يستمر ويدوم، ويقبل التطوير، والبناء عليه، بينما الرئيس عبدالناصر بنى نظاما من نوع مختلف تماما، نظام الشخص الحاكم، لا نظام الحزب الحاكم، ولا نظام الحكم الدائم، الرئيس عبدالناصر، وضع أسس نظام محوره الأول والأخير، هو شخص الحاكم، وهذا هو تراث عبدالناصر، الذي حافظ عليه كل خلفائه رغم أنهم اتبعوا سياسات نقيضة لسياساته، كل الضباط من بعده حافظوا – بأمانة وإخلاص – على هذا الجانب الاستبدادي من تراثه ثم زادوا عليه حسب قناعات كل واحد منهم، نظام الشخص الحاكم يزول بزوال الشخص، ولهذا كل نظام مع زوال الرئيس الذي بناه، ويبدأ كل رئيس الرحلة من نقطة الصفر فلا يحافظون إلا على الصلاحيات المطلقة للرئيس، وهي القاعدة التي أرساها الرئيس عبدالناصر، وهي التي تجعل من السبعين عاما حقبة استبدادية تسلطية واحدة.

***

السؤال: هل يقبل العسكريون في مصر فكرة التخلي عن الأحزاب الكرتونية التي تصنعها الأجهزة الأمنية؟ وهل يقبلون تحدي تأسيس أحزاب حقيقية؟ وهل يقبلون خوض انتخابات عادلة لا مزورة ولا مفبركة؟

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.