في مصر كما في بلدان أخرى هناك جدل حول “أولوية الحقوق”، وما إذا كانت اقتصادية أم سياسية، وهناك تيار رسمي وغير رسمي يرى أن الأولوية يجب أن تكون للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأن الحقوق المدنية والسياسية تأتي في مرحلة لاحقة، ومرتبة ثانية.

والحقيقة أن هذا التوجه تبنته عادة نظم ذات طبيعة اشتراكية، في حين أعطت مصر في الستينيات أولوية للحقوق الاقتصادية، ودافعت عن العدالة الاجتماعية، رأت أنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية قبل بناء مجتمع الكفاية والعدل، ومواجهة سيطرة رأس المال على الحكم، وفي هذا الإطار أسست لنظام ذوب الفوارق بين الطبقات، وحقق العدالة الاجتماعية، وطبق مجانية التعليم، وتوسع في الخدمات الصحية العامة والإسكان الشعبي، وبدت الصورة واضحة أن النظام يحقق الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية في مقابل تأجيل الحقوق السياسية، والديمقراطية.

والحقيقة أن التحولات التي شهدتها مصر منذ عهدي السادات ومبارك، تمثلت في التحول نحو نظام السوق الرأسمالي، وبدأ انسحاب الدولة من القيام بأدوار اجتماعية كانت تقوم بها في الستينيات، في مقابل التحول نحو نظام التعددية المقيدة، وإعطاء هامش سياسي، وديمقراطي طوال تلك الفترة.

وقد عادت مصر وتبنت في السنوات الأخيرة توجها يقول إنه يعطي الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على حساب الحقوق السياسية والمدنية، ودخل الحكم في مواجهات كثيرة في الداخل والخارج؛ ليثبت أهمية تصوره، واعتبر أن حق السكن، والتعليم، والصحة من حقوق الإنسان، وليس فقط الحقوق السياسية، وأنه يجب أن يهتم بها الجميع؛ لأنها تمثل أولوية في بلد فقير مثل مصر.

واللافت، أن الحديث المتكرر عن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية حاليا جاء في ظل نموذج بعيد تماما عن النموذج الاشتراكي الذي طبق في الستينيات، وكان لديه مبررات لكي يدافع عن مقايضة الديمقراطية بالحقوق الاقتصادية (مع خلافنا مع هذه المقايضة)، في حين أن الوضع الحالي شهد زيادة في أعداد الفقراء، حتى وصلت نسبة من هم تحت حد الفقر إلى حوالي ثلث السكان، وزادت الديون الخارجية حتى بلغت حولي 170 مليار دولار.

ورغم إيجابية بعض البرامج الاجتماعية مثل: برنامج 100 مليون صحة إلا أن وضع منظومة الصحة بدا مخيفا، فهناك استقالات وهجرة سنوية لحوالي نصف عدد الخريجين من كليات الطب، وهو رقم لم تعرفه مصر طوال عهودها الجمهورية والملكية، كما أن تقليل الإنفاق على المستشفيات العامة جعل حالة كثير منها مزريا من حيث الأدوات الطبية والخدمة المقدمة للمرضى، كما تراجع الانفاق على برامج تنظيم الأسرة في وقت تشكو فيه الحكومة من زيادة عدد السكان الذي تقول: إنه يلتهم خططها التنموية، وفي نفس الوقت لا تقوم بالحد الأدني من واجبها لمواجهة هذه الزيادة.

وقد عرفت مصر برنامج تكافل وكرامة لمواجهة الفقر، وهو بلا شك برنامج جيد حتى لو لم يصل لكل الناس، إلا إنه بقي محدود الأثر، ولم ينجح في مواجهة الفقر الذي يحتاج لسياسات جديدة، وأولويات في التنمية تختلف عما هو مطبق في الوقت الحالي.
وبدت مفارقة الوضع الحالي، أن مصر تتحدث عن أولوية في مجال لم تحقق فيه أي نجاح يذكر، بحيث يمكن مقارنته بما حققته بلدان مثل: الصين وكوبا في مجال الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، وفي مجالات الصحة، والتعليم، ومحاربة الفقر، والأمية.
أما التعليم فلازلت مصر في وضع متأخر جدا، فنسبة الأمية تبلغ الثلث خلف كل البلاد العربية، ماعدا اليمن والسودان، وأن بلدانا عربية غير نفطية مثل دول المغرب العربي بلغت نسب الأمية فيها أقل من مصر، كما تدهور التعليم الجامعي، والأساسي، وتراجع حضور مصر الثقافي، وقوتها الناعمة من ثقافة، وفنون، وأدب، وصحافة.

أمر مدهش أن تكون إخفاقات الحكومة الأساسية في الجوانب الاقتصادية، وأن تتعرض لنقد من الخارج لسوء أدائها الاقتصادي ربما أكثر من السياسي، ويكون هناك كلام مباشر عن ضرورة خروج شركات مؤسسات الدولة من السوق، والمنظومة الاقتصادية، ومع ذلك لازال هناك تمسك بالحديث عن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية التي لم تحقق فيها أي نجاح يذكر في حين أن في يدها، وبسهولة نسبية أن تحقق نجاحات، أو انفراجات في مجال الحقوق السياسية.

يروج البعض لفكرة أن الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية هي أولوياتنا الأولى، وكأنه اكتشاف، في حين أن معظم دول العالم تعتبرها من الأولويات، جنبا إلي جنب مع الحقوق السياسية، وأن مصر أقرب لتحقيق نجاحات حقيقية في ملف الحقوق السياسية أكثر من الملف الاقتصادي، والاجتماعي الذي شهد تدهورا كبيرا، ومطلوب بالطبع عدم تجاهله؛ لأنه أحد ركائز التنمية.
إن الهامش السياسي الذي عرفته مصر طوال عهودها السابقة، التي لم تكن جميعها نظم ديمقراطية، سمح لها أن تمتلك صحافة مؤثرة، وجدلا فكريا وسياسيا جعلها مركز إشعاع ثقافي، وحضاري في المنطقة كلها، وذلك بجهد قليل في الملف السياسي، وقضايا احترام حقوق الإنسان.

لا يجب وضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة الحقوق السياسية والمدنية، فكلاهما يكمل الآخر، ولا يمكن لبلد أن تتقدم، وهي في حالة إخفاق اقتصادي وسياسي.