تجمع جلود ودهون الدواجن التي تتناولها أسرتها وتقطعها لقطع صغيرة وتسخنها على النار من أجل تحويلها إلى بديل للسمن صالح للطهي، بعدما ارتفع سعر كيلو السمن في بعض الأنواع إلى 105 جنيهات لـ400 جرام فقط.

تضيف منى عبد الهادي، معلمة التربية الرياضية، التي تواجه ارتفاع الأسعار الذي لا يتوقف، بطرق وعادات غريبة، لم تكن تتوقع أن تفعلها في السابق لـ “مصر 360” أنها اشترت “قلاية” كهربائية بالتقسيط رغم ارتفاع سعرها من أجل تقليل استهلاك زيوت القلي بعدما سجلت الزجاجة 50 جنيهًا لـ 700 مللي، كما تزيد من كمية المياه المستهلكة في طهي الدواجن وتخزن الشوربة في أكياس صغيرة، لإعادة استخدامها في إنتاج طعام جديد لا يتضمن اللحوم بأصنافها.

تجارب جديدة

دفع ارتفاع مستوى التضخم، الأسر المصرية، للبحث عن وسائل للتكيف مع ارتفاع الأسعار، امتدت لسلوكيات لم تكن متخيلة قبل عدة سنوات في مقدمتها انتشار ثقافة تدوير الطعام المتبقي، واستغلال متبقيات اللحوم كمدخلات إنتاج، لأصناف أخرى تعوض عن شراء المزيد.

في وسائل المواصلات خصوصًا القطارات العادية، لا يتحدث المواطنون حاليًا إلا عن أسعار السلع، ومقارنة الماضي بالحاضر والترحم على “زمن الرخص”، يفكرون في كيفية التكيف مع الأوضاع الجديدة، يتشاركون الهموم والتجارب, بين السيدات تحديدًا باعتبارهن المعنيات أكثر بميزانية الأسرة.

لم يعد إلقاء الطعام أو تركه يفسد, رفاهية حاليًا في ظل ارتفاع مستوى الأسعار
لم يعد إلقاء الطعام أو تركه يفسد, رفاهية حاليًا في ظل ارتفاع مستوى الأسعار

لم يعد إلقاء الطعام، أو تركه يفسد، رفاهية حاليًا في ظل ارتفاع مستوى الأسعار، وباتت الكثير من الروابط النسائية على مواقع التواصل الاجتماعي متخصصة في تقديم نصائح غريبة؛ للتعامل مع بقايا الطعام حتى وصل لفكرة تدوير قشور الفاكهة بغليها، وتحويلها إلى “جيلي”، أو تحويل قشور الموالح إلى مخللات.

وشهدت أسعار الدواجن ارتفاعات قياسية، على مدار الشهور الماضية بسبب نقص الأعلاف، وتوقف العديد من المزارع عن العمل، ليتراوح سعر الكيلو الأبيض حاليا بين 80 جنيها و90 جنيها للكيلو حسب المنطقة، بينما سجلت اللحوم ارتفاعات أعلى ليتراوح سعر الكيلو بين 250 و300 جنيه، حسب المنطقة.

خلط اللحوم بمكونات إضافية

سماح محمد ربة منزل، اتبعت أساليب مشابهة فبعد ارتفاع أسعار قطع الدجاج “البانيه”، لمستوى 200 جنيه للكيلو لجأت إلى فرمه في الخلاط، وإضافة بعض المكونات إليه في مقدمتها البطاطس المهروسة، من أجل مضاعفة كميته، حتى يكفي أسرتها المكونة من أربعة أفراد.

تكرر سماح الأمر ذاته مع اللحوم الحمراء، فبدلًا من استهلاكها قطع، تقوم بفرمها وإضافة فول الصويا، والبنجر إليها لمضاعفة الكمية لأربعة أضعاف، أو إضافة الأرز إليها، والاحتفاظ بأي متبقيات طعام مطهية، ومنها الأرز في أكياس صغيرة لتجميدها، وإعادة إضافتها على الطعام الجديد، واعتبرت أن تلك الوسائل هي الوحيدة، التي يمكنها عبرها التعامل مع ارتفاع الأسعار في ظل ثبات راتب زوجها عند 4000 جنيه.

تمثل النماذج السابقة حال الكثير من الأسر المصرية حاليًا، والذي تعكسه أيضًا لغة المبيعات في السوق، فمعدلات الطلب على اللحوم البلدي تقلصت بنسبة تقارب %50؛ بسبب القفزات المتتالية مؤخرا في أسعارها بالسوق المحلية، بعدما ارتفع سعر الكيلو منها ليسجل 270 جنيهًا في المتوسط، حسب المنطقة، ونسبة الدهون في الكيلو الواحد.

في محال الجزارة، يزيد الطلب حاليًا على العظام التي يطلق عليها البعض “مواسير” مع تزايد استهلاكها من قبل البعض، فمن لا يستطيع أكل اللحم على الأقل “يشرب شوربتها”.

أساسيات ورفاهيات

أصبحت التوابل بكثير من المنازل حاليًا “ملح وكمون”، وتم التغاضي عن الباقي مع وصول أسعار بعضها لمستويات قياسية مثل: الحبهان الذي يتراوح سعر الكيلو منه بين 1000 و1200 جنيه، والفلفل الأسود الذي يتراوح سعر الكيلو بين 500 و1075 جنيهًا حسب النوع.

تقول عائشة محمد: (أربعينية تبيع مناديل بالقطار)، إن الأٍسعار قلصت في وجهها كل الحلول فحتى “البيض الكسر”، (بيض به شروخ بسيطة أو كسور في قشرته الخارجية) الذي اعتادت على شرائه بسعر أرخص من نصف الطازج أصبح مكلفًا وعليه طلب.

فكرة الاستعانة بالبيض المكسر، أو الذي تقترب صلاحيته من الانتهاء، انتقلت لبعض المحال التجارية الصغيرةالتي تعتمد عليه في عمليات التصنيع حاليًا، والتي أصبحت تشتريه هي الأخرى، من المزارع مباشرة؛ لتقليل تكاليف التنفيذ، وبدأ بعضها يستغني عن الحلقات الوسيطة، ويشتري مستلزمات إنتاج من المنتجين مباشرة.

“ما تحتاجه الأساسيات يحرُم على الرفاهيات”، أصبح شعار غالبية الأسر حاليًا، فشهر رمضان الحالي، كان “مقياس اختبار” لمحاولات الأسر المصرية التكي مع مستويات الأسعار، فحجم مبيعات “الياميش”، تراجعت بنحو 40% عن المعتاد من كل عام، وتبدل الطلب إلى التمور الجافة، التي ارتفعت مبيعاتها بنسب أعلى من المعتاد باعتبارها أرخص ما يمكن تناوله في الشهر الكريم.

العمل والأجور

لم تتوقف تأثيرات الأسعار على المواطن العادي, بل امتدت إلى أصحاب المشروعات المتوسطة، والصغيرة التي لديها تعامل مباشر مع الجمهور فتقليص الاستهلاك، انعكس عليها في المقام الأول.

محمد أبو عمر, وهو اسم الشهرة صاحب مطعم للأسماك، قال: إنه اضطر للتكيف مع ارتفاع مدخلات الإنتاج وتقليل الطلب، بتدوير العمالة بحيث يعمل النصف 15 يوما، والباقي يحصل على إجازة في الفترة ذاتها، والعكس للحفاظ على الحد الأدنى من الدخل للجميع.

يضيف أبو عمر أن معدل الاستهلاك تراجع إلى النصف، ولديه عمالة ليست دائمة لكن ظروفها صعبة، كطلبة جامعات ينفقون على أنفسهم وعائلاتهم، وليس أمامه سوى تقليل الدخل للجميع ومحاولة امتصاص جزء من ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج المستمرة خاصة الأرز والزيوت.

سجلت أسعار الأرز الشعير في مصر، زيادات جديدة ليسجل الطن عريض الحبة 20 ألف جنيه، و19 ألف جنيه للطن رفيع الحبة، بينما يباع أقل كيلو حاليًا بسعر 25 جنيها للكيلو، بينما بلغ سعر زيوت القلي متوسط 65 جنيهًا، كما ارتفعت أسعار الخضراوات الأساسية التي لا غني عنها لأي مطعم.

اضطر أبو عمر حاليًا، للتوقف عن استخدام الزيت العادي، ولجأ إلى عبوات زيوت بلاستيكية زنة 10 لترات تصل إليه من شركات تنقي زيوت “رقائق البطاطس”، التي تستخدم الزيوت مرتين بحد أقصى، من أجل تقليل تكاليف الزيوت بنسبة 50%، مؤكدًا أن عروضا كثيرة تأتيه من مصانع مجهولة للزيوت المعاد تدويرها، لكنه يرفضها رغم مساهمتها في تخفيض التكلفة بنسب أكبر.

توقفت مطاعم الحلويات عن سياستها المتبعة بالتبرع بالمنتجات التي مر عليها أكثر من يوم، للمحتاجين، وباتت حاليًا تبيعها بسعر أقل أو تقيم عروضا عليها، كما قلل البعض الكميات المعتادة يوميا لمواكبة الحالة الشرائية.

محمود عبد السلام سائق تاكسي، يقول: إن الإقبال من الزبائن تغير في ظل رغبة الجميع بتقليل أعباء الحياة، وعدد كبير من الذين اعتادوا على التعامل معه بصورة شهرية، لنقلهم صباحا من منازلهم للعمل أو اصطحاب أطفالهم للمدارس توقفوا عن فعل ذلك، لتوفير جزء من فاتورة الاستهلاك الشهري.

الخبير الاقتصادي نادي عزام
الخبير الاقتصادي نادي عزام

التضخم .. أزمة عالمية

يقول الخبير الاقتصادي نادي عزام إن العالم كله يعاني من مستويات التضخم المرتفعة، وليس في مصر فقط، والجميع يحاول التكيف مع الأزمة المركبة التي جاءت نتيجة تداخل جائحة كورونا مع اختناق سلاسل الإمداد، والحرب الروسية الأوكرانية، والتي فرضت أعباء على الدول الكبرى، وزادت بوتيرة أصعب على الدول الناشئة.

في الولايات المتحدة لجأ المواطنون إلى زراعة الخضراوات في الحدائق، بدلاً من نباتات الزينة والتسوق في سلاسل متاجر البقالة التي تقدم كوبونات خصم بقيمة 5 دولارات أمريكية على 30 دولارًا، والتوقف عن تناول الطعام في الخارج وتجميد المتبقي من الخبز والفواكه، وتقليل استهلاك اللحوم أسبوعيًا، واستبدال سيارات الدفع الرباعي بأخرى موفرة للوقود.

في الكثير من الدول الأوروبية حاليا، يبحث الجميع عن تقليل النفقات، ووصل الأمر إلى قص الشعر، أو ممارسة التمارين في المنزل بدلًا من صالة الألعاب الرياضية، وتناول القهوة والطعام قبل العمل لتقليل التكاليف، فالنفقات الصغيرة عندما تتراكم تؤدي إلى الكثير من التوفير.

يضيف عزام أن مستويات التضخم المرتفعة لا يصاحبها ارتفاع بمستوى الدخول ما يفرض عبئا على المواطن في كل مكان في العالم، الجميع يبحث عن التعاطي مع ارتفاع الأسعار بتقليل النفقات غير الضرورية، أو التغيير في سلة الغذاء المعتادة أو البحث عن مصادر دخل إضافية.