تبدو خطوات إعادة تأهيل النظام السوري وضمه إلى “الحاضنة العربية” ماضية على قدم وساق خلال الآونة الأخيرة. وما بين أهمية عزله عن النفوذ الإيراني والاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار الاقتصادية، تتصدر الحُجج التي ما عاد يُنازعها حُجة دمويته وفساد أركان حكمه.
ولكن فيما يتعلق بجزئية التعاون الاقتصادي تحديدًا -والتي مازالت مُعطلة بفعل العقوبات الغربية- تظهر الحاجة لفهم طبيعة بنية النظام السوري الاقتصادية، والمتحكمين في مفاصله ممن يديرونه خلف واجهات من رجال الأعمال المُروَضين والخاضعين لشبكة نفوذ عائلة الأسد الكبيرة.
وهنا، يبدو التمييز بين شقين أمر هام.
شق الاقتصاد غير الشرعي الذي يهيمن عليه شقيق الرئيس، ماهر الأسد، وفرقته الدموية (الفرقة الرابعة) حيث تجارة الكبتاجون والسيطرة على سوق المعادن والخردة والإتاوات الداخلية والحدودية؛ كأداة لترضية العسكريين، والهيمنة وجلب التمويل (لتفاصيل أكثر يمكن الإطلاع على الورقة البحثية “الدويلة السورية الموازية: الفرقة المدرعة الرابعة“).
وشق آخر، يتجسد في الاقتصاد “الشرعي” -مجازًا- الذي يديره مجموعة من رجال الأعمال المقربين للسلطة، والذي تتحكم في مفاصله “السيدة الأولى” أسماء الأسد.
منذ عام 2020، نجحت أسماء الأسد شيئا فشيئا في الاستفادة من تخصصها المهني المبكر بالعمل في التمويل وعمليات الدمج والاستحواذ، ونسجت من خلاله طبقة اقتصادية جديدة تتبع أوامرها وتدير شركاتها من الباطن، وتتغلل أكثر فأكثر في مناحي العمل الخيري والإغاثي.
وخلف تلك الرحلة الطويلة المليئة بالتحولات والتخلص من الخصوم، تكشّف بوضوح القناع الحقيقي لـ”وردة الصحراء” التي أضحت “سيدة الجحيم الأولى“.
من هي أسماء الأسد؟
باختصار، عملت أسماء كمصرفية في بنك “جي بي مورجان” المرموق في لندن التي ولدت وتعلمت فيها، لأب يعمل كطبيب قلب وأم دبلوماسية في سفارة سوريا، قبل أن تتعرف على طبيب العيون بشار الذي سيرتقي لاحقًا -فيما لم يكن مخططًا له- لرئاسة سوريا خلفًا لوالده حافظ.
كانت بداية أسماء صعبة في دمشق، حيث أعاقت حماتها -أنيسة مخلوف- ذات الحضور الهائل، دورها بعد أن سعت لقصره على الأمومة. كما لم تنل ثقة العائلة العلوية التي نظرت إليها باعتبارها امرأة سُنية تهدد مكانتهم المستقبلية.
لاحقًا، كرست أسماء نفسها لمبادرات غير مثيرة للجدل سياسيًا في السياحة والثقافة والتعليم. وفي عام 2007، أنشأت الأمانة السورية للتنمية، وهي منظمة غير حكومية رفعت من مكانتها وأصبحت مستقبلًا، أداةً أساسيةً للنظام أثناء الحرب.
قبل الثورة السورية التي تحولت لحرب أهلية، نظرت النخبة الدمشقية والدبلوماسيون الغربيون إلى أسماء على أنها شخص “يمكنه التحدث إلى بشار بطريقة منطقية”، كما يقول أندرو تابلر، وهو مسئول سابق في الحكومة الأمريكية. اعتقد الكثيرون أنها ستمارس هذا التأثير لتهدئة رد فعل زوجها على الاحتجاجات في 2011. لكن هذا الافتراض كان في غير محله، بحسب تقرير لـ”فاينانشيال تايمز” ركز على الدور الاقتصادي لصاحبة الـ47 عامًا.
تراجعت أسماء عن المشهد العام خلال أسوأ فترات الصراع، حيث عذّب وقتل نظام زوجها مئات الآلاف من الأشخاص، وطرد الملايين من منازلهم. وبحلول عام 2016، مع عودة قوات الأسد للسيطرة على جزء كبير من سوريا، خرجت أسماء بكامل قوتها.
لم يكن التوقيت مصادفة، فقد ماتت حماتها القوية في ذلك العام. وقبلها سافرت بشرى، شقيقة بشار، إلى الإمارات مع مقتل زوجها عام 2012. وقد كانت الأم والشقيقة من أشد خصوم أسماء داخل العائلة الأسدية، وفق ما تشير إليه “الإيكونوميست“.
وساعدت معركة علنية خاضتها مع سرطان الثدي في عام 2018 في التقريب بينها وبين بشار. وبعد فترة وجيزة، عهد بشار إلى زوجته بأجزاء من محفظة الدولة الاقتصادية.
مع حالة الانهيار الاقتصادي والتراجع الضخم للعملة والعقوبات الغربية، أجبرت الأوضاع المعقدة النظام على اتخاذ إجراءات جذرية عززت قبضة أسماء شبه الكاملة على الاقتصاد، وفقًا لخبراء سوريين ورجال أعمال وأشخاص على دراية بعمليات النظام، تحدثوا مع “فاينانشيال تايمز”.
ما قبل السيطرة الاقتصادية
اليوم، أصبحت أسماء أقوى وأكثر نفوذًا من أي وقت مضى، بعدما مضت برحلتها في طرق متعرجة وملتوية حتى تفرض سيطرتها على هذه الأرض المدمرة. وقد وصفت الحكومة الأمريكية أسماء بأنها من بين “أسوأ المتربحين من الحرب السورية صيتًا”.
لكن رغبة أسماء في السيطرة كانت تعود لسنوات ما قبل الحرب.
إذ بعد عقود من التخطيط المركزي والقيود المفروضة على عمليات الاستيراد، رغبت أسماء بتحديث سوريا، فأبهرت زوجها بالمصطلحات المالية ودفعت نحو انفتاح القطاع المصرفي على الشركات الخاصة والأجنبية.
وعن ذلك يخبرنا أحد خبراء الاقتصاد السوريين الذي يتمتع بصلات جيدة معها، فيقول: “كانت تريد أن تحوّل دمشق إلى دبي في هذه المنطقة، وإلى ملاذ للتهرب الضريبي بعيدًا عن القيود المالية”.
هددت الإصلاحات الاقتصادية مصالح بعض كبار المتنفذين في سوريا.. لهذا كان على مخططاتها أن تتروى وتنتظر.
بناءً على ذلك، اتجهت أسماء إلى الأعمال الخيرية عبر الأمانة السورية للتنمية عام 2007. وأخذت توظف سوريين يتحدثون اللغة الإنجليزية ويعيشون في الخارج، إلى جانب موظفين سابقين لدى الأمم المتحدة وأبناء دبلوماسيين ما جلب تمويلًا أوروبيًا كبيرًا لدعمها لتنفيذ مشاريعها الحضرية والثقافية.
كما استعانت بشركات علاقات عامة غربية لتلميع صورتها، واستضافت برلمانيين أوروبيين ومشاهير. سمير العيطة الذي عمل مستشارًا لدى وزارة المالية يقول: “كانت الكثير من القرى تفتقر إلى شبكة صرف صحي ملائمة وإلى الكهرباء، ثم أتت هي ومستشاروها وأخذوا يتحدثون عن الريادة والمجتمع المدني، والتنمية المستدامة”.
بفضل كادرها وقدرة أسماء على فتح الأبواب المغلقة ونقاط التفتيش أيضًا، وبحلول عام 2017، أصبحت المزيد من الأموال التي ترسلها الأمم المتحدة تمر عبر الأمانة، وفاقت في ذلك أي منظمة سورية أخرى.
“بوصفها رئيسة الأمانة السورية، فقد جنت أسماء ما هو أكثر من مجرد ثروة، إذ عبر استقطابها للمساعدات الأممية، طورت أسماء شبكة محسوبيات واسعة شملت أمراء حرب سوريين”، تقول “الإيكونوميست”.
وقال أيمن عبد النور، مستشار الأسد المنشق “بعد عام 2016، أصبحت أسماء شخصية مختلفة وشاركت في جميع الاجتماعات والحكومة والمنظمات غير الحكومية”.
كيف فرضت سيطرتها الاقتصادية؟
بدأت عملية التغيير في سبتمبر/أيلول 2019 عندما استُدعي العشرات من رجال الأعمال إلى فندق شيراتون في دمشق، وطُلب منهم إيداع دولارات أمريكية في البنك المركزي للمساعدة في استقرار الليرة السورية وإلا لن يتم الإفراج عنهم، وبحسب بعض الروايات، كانت القيمة الإجمالية للودائع “تتجاوز مئات الملايين”.
ويقال إن هذه المصادرة الممنهجة للأصول قد تم التفكير فيها خلال اجتماعات “المجلس الاقتصادي السري” للقصر الرئاسي الذي ترأسه أسماء، كما يشير خبراء سوريون ومصادر مٌطلعة. على عكس اللجنة الاقتصادية الرسمية التابعة للحكومة، فإن هذه اللجنة غير معروفة خارج بوابات القصر وتنفذ عمليات مصادرة الأصول الأكثر سرية للنظام.
لكن آخرين يقولون إن المجلس هو مشروع أسماء القريب إلى قلبها، بالنظر إلى خلفيتها في مجال التمويل. ويقول رجل أعمال سوري مخضرم يعرف عائلة أسماء”الأخرس”: “إنها مؤثرة جدا [عليه]”.
سعت أسماء إلى استبدال الواجهة المالية العلوية بواجهة تتمحور حول أبناء عمومتها، وفق ما تذكره “Syrian observer“. وفي عام 2020، ظل النظام قائمًا على الأسرة. لكن حدث تغيير جذري في تركيبته.
إذ استطاعت أسماء تدمير الإمبراطورية الاقتصادية والاجتماعية والطائفية لعائلة مخلوف -والمتجسدة في رامي مخلوف ابن خال الرئيس والذي استحوذ على نحو نصف الاقتصاد السوري قبل الحرب- والسيطرة الكاملة عليها وتفتيت ما تبقى منها في سعيها لمشروعها الخاص.
تسيطر أسماء الآن على جمعية مخلوف الخيرية وشبكة رعايتها العلوية الواسعة، مما يوسع سيطرتها على قطاع المساعدات. ووضعت ثاني أكبر شركة للهواتف النقالة تحت الحراسة القضائية، وعيّنت أعوانها في مجلس إدارة تلك الشركة.
تقول صحيفة “عرب ويكلي“: “أصبحت الأسر العلوية ومعيشتهم وخبزهم اليومي يعتمد على رحمة مؤسسات الأمانة السورية للتنمية التي تسيطر عليها مباشرة أسماء، بعد أن كانوا تحت سيطرة عائلة مخلوف منذ سبعينيات القرن الماضي”.
تركت أسماء النشاط الاقتصادي “القذر” لماهر الأسد وأبعدته في المواجهة الناجحة التي خاضتها ضد رامي مخلوف وجماعته. بالإضافة لذلك، تمكنت من فرض سيطرة أقربائها المباشرين وأحد أشقائها على الأقل، على عدد من القطاعات الاقتصادية.
بعد كف يد رامي مخلوف -ورحيل شقيقة بشار ووفاة أمه- لم يعد أمام أسماء سوى القليل من المنافسين الكبار ضمن الدائرة المقربة. كما أصبح أقرب مستشاريها يشغلون أرفع المناصب في مكتب الرئيس.
حوّلت أسماء نفسها إلى موقع قوة ملحوظة، وفقًا لمقابلات “فاينانشيال تايمز”. وهي الآن تتحكم في بعض المحركات الرئيسية في الاقتصاد السوري المنهك، كصانعة سياسات ومستفيدة على حد سواء، مما يساعد على توطيد قبضة الأسرة على بلد في حالة خراب دموي.
تقول إحدى قريباتها: “لكي يتم إنجاز أي عمل جديد اليوم، تأخذ أسماء [وطاقمها] جزءًا”.
يمكن تحسس بصمات أصابعها عبر قطاعات متعددة من الاقتصاد السوري، بما في ذلك العقارات والبنوك والاتصالات، وإن كانت محجوبة وراء ستار من الشركات الوهمية والمناطق الحرة والحسابات الخارجية المملوكة لشركاء مقربين.
والبداية كانت نظام البطاقات الإلكترونية الجديد لتوزيع المواد الغذائية الذي أدخله النظام مؤخرًا، فالشركة المسئولة عن البطاقات مملوكة لابن عمها مهند الدباغ، الذي يمتلك حصة 30% رسميًا.
يرتبط بها كذلك، ياسر إبراهيم، الذي توقع عليه الولايات المتحدة عقوبات. إذ يعمل مستشارًا اقتصاديًا لبشار كما أنه عضو المجلس الاقتصادي “السري” الذي تترأسه أسماء.
ومن الأسماء الأخرى المقربة، خضر علي طاهر، صاحب أكبر شركة لبيع الهواتف بالتجزئة وتكنولوجيا المعلومات في سوريا “إيماتل”، وعضو المجلس الاقتصادي للقصر. ويعتقد الكثيرون أنه يدير الشركة التي تم إطلاقها عام 2019 نيابة عنها؛ فـ”إيما” هو لقب الطفولة لأسماء في لندن.
يقول أحد رجال الأعمال السوريين: “كل سوريا الآن هي (تخص) أسماء… هذه الأسماء التجارية لم يسمع بها أحد من قبل، ومعظمهم من البلطجية، وهم أشخاص ليسوا من عائلات معروفة”.
تأمين الإرث
قاعدة القوة الرئيسية لأسماء هي الأمانة السورية للتنمية ويديرها زميلها المقرب وكبير مساعديها سابقًا والذي يجلس الآن في المجلس الاقتصادي للقصر فارس كلاس. تضم الأمانة السورية للتنمية 14 شركة تابعة وبرامج تمويلية.
يقول المحللون وخبراء الإغاثة إن تجربتها في إدارة المنظمة غير الحكومية قبل الحرب سمحت لها بصياغة نظام مساعدة إنسانية فاسد بشكل منهجي في البلاد، مع وجود شبكتها في جوهرها. وقالت مصادر سورية وعمال إغاثة إن العلاقة كانت سافرة لدرجة أن أسماء ستستضيف اجتماعات في مكتبها بالقصر الرئاسي للتفاوض بشأن عقود المنظمات غير الحكومية الدولية.
الأمم المتحدة تدفع أيضًا ملايين الدولارات -12.3 مليون دولار في عام 2021، وفقًا لتحليل لأحدث بياناتها- للموظفين للبقاء في فندق “فور سيزونز” بدمشق.
نظريًا، يمتلك غالبية أسهم الفندق رجل أعمال يدعى سامر فوز. وقد عوقب من قبل الولايات المتحدة بسبب علاقاته المالية مع النظام. لكن أربعة رجال أعمال سوريين وخبيرين وأحد أقارب فوز يدّعون أن جزءًا من أرباحه ينتهي في جيب أسماء.
ويروي متعاونون سابقون مع النظام بأن بشار سعيد لنجاح زوجته على المستوى المالي، وممتن لها لما قدمته من مساعدة، فقد أنهكه التعب بعد عقد كامل من الحرب، كما أنه ضعيف بالاقتصاد. ولهذا تحولت أسماء إلى كبيرة مستشاريه الاقتصاديين.
يقول معهد الشرق الأوسط بواشنطن “يبدو أنها -أي أسماء- الآن مصممة أكثر من أي وقت مضى على تأمين إرثها، إذا كان ابنها حافظ سيرث البلاد التي حكمها جده”، حيث يعيش 90% من سكانه تحت خط الفقر.