قامت الدنيا، وأعتقد بأنها لم تقعد بعد في إسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية، على إثر تقدم الحكومة اليمينية الإسرائيلية بمشروع قانون للحد من صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، وقد تعالت أصوات المتظاهرين للمطالبة بوقف تمرير ومناقشة هذا القانون، إلى الحد الذي اضطر معه وزير الدفاع الإسرائيلي لمطالبة رئيس الوزراء لسحب هذا المشروع، واهم ما يجب لفت الانتباه إليه أن هناك وعيا لدى المخاطبين بأحكام القانون داخل هذا الكيان على أهمية استقلال السلطة القضائية.
إذ يمثل استقلال السلطة القضائية دعامة أساسية للديمقراطية، وفي الديمقراطيات، يُنظر إلى القضاء بوصفه حارسًا لحريات المواطنين وحقوقهم، وجدارًا في مواجهة شَطط السلطة التنفيذية. وقوام استقلال القضاء في انتفاء أيّ تأثير أو أيّ تدخّل مباشر أو غير مباشر في عمل السلطة القضائية وإجراءاتها المتصلة بتحقيق العدالة.
أما استقلال السلطة القضائية ذاتها فالمقصود به أن تكون مستقلة بذاتها، مثلها مثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن ثم تخضع لمبدأ المشروعية في الوجود والأحكام، وهو الأمر الذي يعني وجود تشريعات تضمن لها الحيدة والنزاهة. وعمومًا، يكمن المعنى في استقلال القضاء وسلطته في التحرر من أي ضغوط، وأولها تلك الصادرة عن السلطة السياسية. ولا حاجة إلى القول بأنّ انسجام النصوص القانونية ومعايير الديمقراطية تكمله أعمال القضاء، ومن هنا يظل وجود سلطة قضاء مستقلة ضمانة أساسية لاستقرار الدول والمجتمعات، وحجر أساس في مفهوم سيادة القانون. ولا يتأسس الأخير إلا في ظل قضاء مستقل ونزيه، ينشط في وظيفة الفصل في القضايا، بما فيها تلك التي تكون الدولة أحد أطرافها. والحال أنه لا يتصور حياد القاضي في المنازعات بين الدولة والمواطنين، سواء في المحاكمات الجنائية أم القضايا الإدارية، إلا بتحقق عناصر الاستقلال القضائي والنزاهة. وبهذا المعنى يُ فهم القضاء المستقل بوصفه عنصرًا رئيسًا من عناصر الرقابة الفاعلة على أداء أجهزة الحكومة للوظائف العامة، وأداة ضرورية لفرض سيادة القانون وتعزيزها، تضمن فاعلية الهياكل السياسية وخضوعها للمساءلة.
وفي الأصل تقوم دولة القانون على احترام مبدأ المشروعية و الذي يقتضي خضوع الجميع حكاما و محكومين للقانون وفقا لتدرج قواعده، و لضمان احترام السلطات العامة لمبدأ المشروعية فإن النظم القانونية الحديثة تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات إضافة إلى ضرورة وجود رقابة فاعلة على أعمالها مما يقتضي وجود سلطة قضائية مستقلة تمارس الرقابة على أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان احترامهما لمبدأ المشروعية، و تمارس السلطة القضائية الرقابة على أعمال السلطات العامة الأخرى بطرق متعددة تختلف من دولة لأخرى، و ذلك بحسب اختلاف الأنظمة السياسية ومدى استقلال السلطة القضائية في كل بلد.
وقد استقر العمل في النظم السياسية المعاصرة على زيادة الاهتمام بمبدأ استقلال السلطة القضائية، بحسبه مبدأ دستوريا أصيلاً يرتبط ارتباط وثيق الصلة بمضمون الحقوق والحريات كافة، علاوة على كونه يمثل تطبيقاً لمفهوم دولة القانون، وقد أولته جميع المواثيق والاتفاقيات الحقوقية، الدولية منها أو الإقليمية، عنايتها بما يضمن حسن تطبيق ذلك المبدأ، وحسن القيام به.
وقد أوردت الأمم المتحدة مجموعة من المبادئ بشأن استقلال السلطة القضائية، جاء فيها أنه يجب أن تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية، ويجب أن تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفقا للقانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب، كما أنه لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها، في الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر. ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة، وفقا للقانون، بتخفيف أو تعديل الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية.
ولم يقف الأمر عند حد الاتفاقيات الحقوقية، بل قد أوردته معظم دساتير العالم كنصوص بداخله، ومن ثم فقد بات مبدأً دستورياً عالمياً، كما أن قضاء المحاكم الدستورية قد أقر ذلك المبدأ كقيمة دستورية، ومن بين تلك الأحكام ما جاء بحكم المحكمة الدستورية العليا المصرية في الحكم رقم 31 لسنة 10 دستورية، والصادر بجلسة 7 /12/ 1999، والذي جاء فيه “وحيث إن تنظيم العدالة وإدارتها إدارة فعالة مسألة وثيقة الصلة بالحرية وصون الحقوق على اختلافها، وكان الدستور قد كفل للسلطة القضائية استقلالها وجعل هذا الاستقلال عاصما من التدخل في أعمالها أو التأثير في مجرياتها باعتبار أن القرار النهائي في شأن حقوق الأفراد وواجباتهم وحرياتهم هو بيد أعضائها، وكان هذا الاستقلال يقوم في مضمونه على أن تفصل السلطة القضائية فيما يعرض عليها من أقضية في موضوعية كاملة، وعلى ضوء الوقائع المطروحة عليها، ووفقا للقواعد القانونية المعمول بها، ودون ما قيود تفرضها عليها أي جهة أو تدخل من جانبها في شئون العدالة بما يؤثر في متطلباتها، لتكون لقضاتها الكلمة النهائية في كل مسألة من طبيعة قضائية، ولتصدر أحكامها وفقا لقواعد إجرائية تكون منصفة في ذاتها وبما يكفل الحماية الكاملة لحقوق المتقاضين”.
وأرى أن استقلال السلطة القضائية يضمن حسن سير مرفق العدالة في نواحيها كافة، وهو الأمر الذي يجب أن يخرجها من تحت وصاية أو ولاية أي سلطة أخرى، ولا يكون هناك أي علاقة بالسلطات الأخرى سوى ما ترتضيه المبادئ الدستورية، وبما يضمن حسن سير مرافق الدولة، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال قبول الحد من السلطة القضائية، أو جعلها تحت وصاية أو رعاية السلطة التنفيذية بأي حال من الأحوال، لأن ذلك لن يعود سوى بتبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية، وهو من الأمور المخالفة لأصول الأشياء وللطبائع الدستورية، وبالتالي يجب ان تقف العلاقة عند حد التنسيق اللازم فقط لتسيير الأمور وحسن التعاون بين السلطات، دونما التغول على السلطة القضائية بأي حال من الأحوال وجعل مصائر الأمور فيها تسير حسب هوى ورغبة السلطة التنفيذية، الأمر الذي يجب معه أن يكون استقلال السلطة القضائية استقلالاً حقيقياً لمفهوم سلطة القضاء، بما يضمن حسن سير العدالة وعدم تبعيتها لغيرها من السلطات بما يؤثر بالقطع على حسن سير العمل والإخلال بسيادة القانون وخضوع الدولة للقانون، أما عن مصر سيكون للحديث بقية في المقال القادم.