كانت إسرائيل عند النشأة، مجرد وعاء بغرض إلقاء يهود العالم فيه للتخلص منهم، حيث لم يتمكنوا عبر التاريخ من الاندماج في المجتمعات المتقدمة، وظلوا محصورين في الجيتو الذي لا يغادرونه، ولا يُدخِلون غيرهم إليه.

كان المرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري يرى أن آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني، لم يكن متعاطفًا مع اليهود حين منحهم وعده الشهير في 1917 بإنشاء وطن قومي خاص بهم في فلسطين، لكنه كان يسعى بالأساس إلى التخلص منهم، حيث لم ينصهروا كمواطنين يدينون بالولاء للدول التي يحملون جنسياتها، ولكن كان ولاؤهم فقط لدينهم، وهم بهذا المفهوم قد حولوا أنفسهم بأنفسهم إلى شعب عضوي منبوذ، كان لا بد أن يختفي إما عن طريق الدمج أو الطرد أو الإبادة كما في الحالة النازية(1).

يقول الدكتور المسيري عن اللورد آرثر بلفور: “لكننا إذا درسنا مواقفه وسلوكه السياسيين لاكتشفنا تلازم صداقته الظاهرية لليهود ومعاداته الحقيقية لهم. ففي عام 1905 نجد أنه تبنى وناصر مشروع الاستيطان الصهيوني في شرق إفريقيا، ولكنه في الوقت نفسه أيَّد قانونًا، يقيد عدد اليهود المسموح لهم بدخول إنجلترا كمهاجرين. إن بلفور كان ينظر لليهود باعتبارهم جماعة معادية أدى وجودها داخل الحضارة الغربية إلى بؤس وشقاء استمر دهرًا من الزمن، إذ أن تلك الحضارة لا تستطيع طردهم أو استيعابهم، وولاء اليهود للدولة التي يعيشون فيها -حسب تصور بلفور- ضعيف إذا ما قورن بولائهم لدينهم وعرقهم وهذا يعود لطريقة وجودهم وعزلتهم. إن موقف بلفور من اليهود هو موقف مُعادٍ لهم فهو يراهم شعبًا لا جذور له، ولا ولاء محدد له ولذا يجب توطينهم خارج الحضارة الغربية”(2).

انتهزت الحركة الصهيونية هذا الأمر فاستغلته لصالحها ونشأت دولة إسرائيل كنموذج للترانسفير الذي تسعى هي بذاتها لتسويقه -معكوسًا- في الحالة الفلسطينية مُستخدمةً ثلاثة مسارات متوازية ما زالت حتى الآن تعمل بها، المسار الأول: ويقوم على الإبادة الفعلية للفلسطينيين كسكان أصليين وقد تجلى هذا الأمر في 1948 وما بعدها، والمسار الثاني: ويقوم على تشتيت الفلسطينيين في مجتمعات العالم بشكل متفرق مع علمهم التام بقدرة الفلسطينيين الإنسانية على التكيف والاندماج في تلك المجتمعات بالتجنس؛ أملًا في نسيان الأجيال الثالثة والرابعة من المهاجرين الفلسطينيين لقضية العودة، فما كان من الأخيرين إلا أن خيبوا آمال الصهاينة، فاندمجوا تمامًا في المجتمعات التي هُجِروا إليها، وفي نفس الوقت لم يفقدوا هويتهم، بل وظلوا محتفظين بمفاتيح بيوتهم بالأرض المُحتلة في رمزية تاريخية استثنائية للتمسك بأمل العودة (النائبة الأمريكية الفلسطينية الدكتورة رشيدة طليب مثالًا)، أما المسار الثالث: والذي مازال يلقى صعوبات جمة لأسباب متنوعة فقد تمثل في سعى الصهاينة لطرد الفلسطينيين جميعًا، وتسكينهم بدولة تؤَسَس لذلك الغرض خارج حدودهم التاريخية.

من الأهمية بمكان أن نشير في هذا السياق إلى أن الحركة الصهيونية هي حركة لا دينية في الأساس، وهذا يفسر عدم تناقض اليهود العلمانيين من الرعيل الأول معها، بل وذوبانهم فيها إن لم يكن تأسيسها قد تم على أيديهم، لكن بمرور الزمن وبِرَسمٍ من التفاهمات بين الجماعات المتفرقة من المؤسسين، صبغت الحركة الصهيونية دولتها بالطابع الديني لسببين أساسيين: عززا من وحدة المجتمع الإسرائيلي حينها في جيتو كبير، أولًا: لضمان استمرار الدعم الخارجي المالي سواء من أثرياء اليهود في العالم، أو من خلال الابتزاز الدائم لمجتمعات ناصبتهم العداء في الماضي (تعويضات الهولوكوست مثالًا) بالإضافة إلى الدعم السياسي المصحوب بإمدادات تسليحية هائلة لضمان التفوق العسكري باعتبار أنها -حسبما كانت تُرَوِج عند النشأة- أداة للحضارة الغربية الأوروبية الحديثة في مواجهة التخلف والجهل والعصبية، وثانيًا: لتحويل طبيعة الصراع في الذهنية الجمعية للمجتمعات المحيطة بها، من كونه صراعًا حضاريًا إنسانيًا ضد العنصرية إلى صراع ديني، لا يهم سوى أطرافه فقط دون تعاطف من المجتمع الدولي فيسهل بذلك تسويغ، وتمرير عملية الاحتلال من ناحية، وتفريغ حركة المقاومة الفلسطينية من محتواها الوطني الوحدوي من ناحية أخرى.

وهذا ما تحقق بالفعل في النصف الأخير من سبعينيات القرن الماضي، ثم ترسخ في ثمانينياته وتسعينياته بالانزواء التاريخي للمنظمات الفلسطينية العلمانية كفتح والحركة الشعبية والحركة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بعد اختفاء قياداتها التاريخية بالوفاة أو بالاعتزال، وبعدما تحولت كوادرها (فتح تحديدًا)، من حركات مقاومة نضالية إلى قيادات بيروقراطية في هيكلِ كيانٍ يفتقر لأدوات السيادة في ضوء شرعية أوسلو -التي بدأت مبتورة، ثم ماتت سريريًا- في مقابل صعود حركات دينية كحماس، والجهاد الإسلامي في إطار ما أُطلِق عليه حينها بالصحوة الإسلامية، وهو ما أفضى إلى “تديين” الصراع بدلًا من إبراز طبيعته العنصرية.

ولعل ما يفعله نتنياهو حاليا بهجماته المنحطة على المسجد الأقصى، ليس سوى تأكيد على اختزال الصراع في سياقه الديني فقط، حيث يقوم متدينون أصوليون يهود أفرادًا أو من قوى الأمن بالهجوم على المسجد الأقصى كرمز ديني إسلامي، ليقوم متدينون أصوليون مسلمون كحزب الله، وحماس والجهاد الإسلامي وحدهم بالرد، فتترسخ الصورة الذهنية للصراع باعتباره نزاعًا بين أنصار دين وأتباع دين آخر.

مرت تحت جسر التاريخ مياه كثيرة، توسعت فيها إسرائيل جغرافيًا وترسخت مؤسساتها دستوريًا، وتنامى نفوذها حركيًا على المستوى الإقليمي، في شكلٍ خرج عن السياق الذي نشأت في إطاره، بحُكم التأثير المُتبادل في تطور أحداث ذلك التاريخ حتى وصلنا إلى اللحظة التي نشهد الآن أحداثها المثيرة بشوارع تل أبيب وغيرها. المسألة في تقديري ليست متعلقة -في ظاهرها- بقضية استقلال القضاء، ولا بأسلوب حكم نتنياهو ولا حتى بتحالفاته السياسية، بل بالتغيرات الجوهرية في تركيبة المجتمع الإسرائيلي التي وجدت في تلك القضايا مجالًا للتعبير عن حاجتها لخطاب جديد، يطرح رؤية غير تقليدية لمجتمع يعاني وطأة الاغتراب في عالم صار مختلفًا بشكل جوهري عن عالم النشأة الأولى.

لم تعد الأدوات القديمة تعمل بنفس الدرجة من الكفاءة والفعالية، فنظرية عزل النفس أو اعتزال المجتمع الدولي داخل الجيتو في التراث اليهودي، والتي تجد لها معادلًا في بعض أنماط تراث الآخرين من أطراف الصراع، صارت غير متوائمة مع تطور أحداث التاريخ المتلاحقة.

إجمالًا ودون الدخول في تفاصيل إحصائية مُعقدة، يمكننا القول: أن العلمانيين قد صاروا يشكلون نحو 40% من المجتمع الإسرائيلي، بينما يشكل الأصوليون نحو 60% منه، وقد ساهمت الهجرات الأخيرة في ميل الكفة العددية لصالح الأصوليين إذ شهد العام الماضي فقط وصول مهاجرين بلغ عددهم نحو 70 ألفًا كان أغلبهم من روسيا وأوكرانيا مقابل نحو 28 ألفًا في عام 2021 حسب آخر التقارير الرسمية. في المقابل ورغم التكتم الرسمي الشديد، تشير استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات إسرائيلية خاصة إلى تزايد شديد في رغبة شريحة عُمرية هامة جدًا (من 18 عامًا فما فوق) للهجرة للخارج، وقد أرجعتها تلك المؤسسات إلى تصاعد الخطاب الأصولي، ووصول أصحابه إلى مراكز صناعة القرار بشكل صار واضحًا، مع وصول نتنياهو وحلفائه (إيتمار بن جفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما) لسدة الحكم.

مع بداية الاحتجاجات الجارية، نشرت جريدة جيروزاليم بوست تقريرًا في غاية الأهمية بعنوان “حركة جديدة تدعو الإسرائيليين للمغادرة وإنشاء مجتمعات الدياسبورا (الشتات)”(3). جاء بالتقرير على لسان مؤسس الحركة موردخاي كاهانا وهو رجل أعمال إسرائيلي-أمريكي أنه وبعد سنوات من تهريب اليهود من مناطق الحرب في اليمن وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا إلى إسرائيل، قد قرر أخيرًا مساعدة الإسرائيليين على الوصول إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ عارضًا عليهم العمل في مزرعته بنيوجيرسي ليقول: نصًا حسبما ورد بتقرير الجريدة “أرى صواريخ إيرانية مصوبة بدقة نحو إسرائيل، وهو ما قد حدث بالضبط عند تدمير الهيكل الثاني منذ ألفي عام”، ثم أضاف: أنه كان قد تلقى عشرات الطلبات من رجال أعمال إسرائيليين صغار يعملون في مجال التكنولوجيا ويرغبون في نقل أعمالهم بأكملها لأمريكا لينهي كلامه بعبارة تحمل دلالات بالغة الأهمية: “إن الشعب اليهودي لم يعرف قط كيف يدير دولته ومُقَدَرٌ له أن يعيش في الشتات” (The Jewish people never knew how to rule their own land and are destined to live in the Diaspora).

ولعل دعوة كاهانا في عمومها وبالأخص ما يتعلق منها بما قاله: بشأن قَدَر الشعب اليهودي للعيش بالشتات على وجه الخصوص قد تأثرت -بدرجةٍ ما- بفهمٍ يختلف في طبيعته عن دعوة الأصولية الصهيونية المزعومة بتشجيع العودة إلى أرض الميعاد، إذ يقول الدكتور المسيري: “بل إن العودة الجماعية لم تكن مطروحة أساسًا على المستوى الديني. فالدين اليهودي، في إحدى صوره، يؤمن بأنه في الوقت الذي يحدده الرب وبطريقته، وعندما يصبح الإنسان مؤهَلًا للتحرر المطلق، فسوف يعاد اليهودي إلى أرض فلسطين.

ولكن حلم العودة لن يتم على أيدي الأفراد وإنما على يد المشايخ (أي المسيح – المُخَلِص اليهودي). بل إن التلمود يقرر في بعض نصوصه، أن أي شخص يهودي يعود إلى فلسطين بغرض الاستيطان وليس بغرض التعبد يخالف بذلك الوصايا الربانية، ويرتكب جريمة الدحيكات هاكتس، أي التعجيل بالنهاية (بدلاً من انتظار إرادة الإله).”(4)

بنظرة متكاملةٍ تأخذ في الاعتبار كل من الإحصاء الأخير لتعداد العلمانيين مقابل الأصوليين من ناحية، ودعوة موردخاي كاهانا المتصاعدة للمغادرة من ناحية أخرى، سنكون أمام موقفٍ من اثنين: إما أن يستجيب نتنياهو وحلفاؤه بطرح خطاب جديد، يدفع صوب العلمنة بشكل أكثر جدية بما قد يتيح مناخًا مُلائمًا لتغييرٍ في أسس العيش، ومن ثم التعايش بما قد يدفع إلى فرصة حقيقية للسلام، وإما أن يتنامى يأس العلمانيين بسبب الفشل الذريع لنتنياهو وحلفائه في تحديث المؤسسات، وتأمين الأوضاع الأمنية -رغم التفوق الصهيوني على مستوى الردع الاستراتيجي من زاوية التقدم التكنولوجي والفني في التسليح- مع غلاء الأسعار الذي ازدادت حدته بدفعٍ من تأثيرات الأزمة الأوكرانية، فيحدث تغيير في التركيبة الاجتماعية من خلال الهجرات المعكوسة بالخروج من الجيتو، لتنخفض نسبة العلمانيين اليهود مقابل ارتفاع نسبة الأصوليين مما سيدفع بالصراع في الإقليم لمستوى أكثر تشددًا وتعقيدًا ودموية.

الصفحة 67 من كتاب “الصهيونية والحضارة الغربية” للمرحوم د. عبد الوهاب المسيري الصادر في 2003 عن دار الهلال.
الصفحة 53 من المصدر السابق
https://www.jpost.com/diaspora/article-724628
الصفحة 24 و25 من المصدر الأول.