في معظم المجتمعات، تعتبر الأقليات ضمن  أكبر المؤيدين للمحاكم المستقلة، حيث تحمي مؤسسات القضاء  الأقليات من تجاوزات سلطة  أجهزة  الدولة.

لكن لا يبدو الوضع كذلك في إسرائيل التي تعرف نفسها على أنها دولة “يهودية”، وفى المظاهرات الأخيرة ومشهد الاحتجاج،غاب المواطنون الفلسطينيونرغم أنهم يشكلون نحو 20% من سكان اسرائيل، فضلا عن كونهم أقلية تتعرض بشكل دائم للمخاطر.

جاءت التظاهرات الحاشدة في مواجهة مساعي الائتلاف اليميني بقيادة نتنياهو لزيادة سلطات حكومته في تعيين القضاة

جاءت التظاهرات الحاشدة على مدار الأسابيع الماضية، في مواجهة مساعي الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، نحو زيادة سلطات حكومته في تعيين القضاة. ونقض قرارات المحكمة العليا، والتي يرى فيها الإسرائيليون اليمينيون عقبة أمام التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة. وأيضا، معطلة لطموحاتهم في إعادة تنظيم المجتمع على أسس دينية وقومية.

وفى سياق غياب للفلسطينيين عن الاحتجاجات، يناقش الباحث يوسف منير، زميل المركز العربي في واشنطن، الموقف من الاحتجاجات ودور المحكمة العليا. من خلال تحليل نشره في  فورين بوليسي/Foreign Policy .

اقرأ أيضا: الاعتداءات على المسيحيين.. أزمة تلوح في الأفق داخل إسرائيل

يؤكد منير أن المحكمة العليا بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل، تشكل جوهر النظام الذي يدعم التفوق اليهودي. وبالتالي، فهي عقبة أمام مساواتهم السياسية، وقامت بأدوار  فى حفظ يهودية الدولة واستمرار نظام الفصل العنصري.

المحكمة “شريكة القمع”

في الأسبوع الذي أجبرت التظاهرات الجماهيرية نتنياهو على تأجيل تشريع الإصلاح القضائي، أحيا الفلسطينيون ذكرى يوم الأرض 30 مارس/ آذار، خلال العام 1976، عندما قتلت قوات الجيش والشرطة الإسرائيلية ستة فلسطينيين وجُرح ما يقرب من 100 آخرين خلال مواجهة رافضة لمصادرة أراضي الفلسطينيين.

توحد ذكرى يوم الأرض الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر في كفاحهم ضد المساعي الإسرائيلية لإبعادهم عن أرضهم.

يوضح منير ذلك من خلال استعراض مشهد إحياء الذكرى عام 2018 حين انطلقت مسيرة ضخمة في قطاع غزة حملت شعار “حق العودة”، ومثلت مناسبة للفت النظر حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين.

قبل بدء المسيرة، نشر وزير الدفاع الإسرائيلي 100 قناص على السياج حول الشريط المحاصر-غزة- وأصدر أوامر بإطلاق النار، فعليا قتل أكثر من 200 فلسطيني. وأصيب الآلاف، وفقد العديد منهم أطرافهم. وتفاخر حينها قناص إسرائيلي بإصابة وتفجير أقدام 42 فلسطينيا.

يقول منير: كانت المحكمة العليا ذاتها التي يحتج اليهود الإسرائيليون من أجل إنقاذها، هي الشريك الأكثر ولاءً للدولة في تمكين الانتهاكات، بما فيها هذا القمع العنيف ضد الفلسطينيين.

يضيف: وافقت المحكمة على استخدام الجيش للذخيرة الحية ضد المتظاهرين خلال عام 2018. كما لم ترفض أبدًا طلبًا من قبل السلطات الإسرائيلية باحتجاز الفلسطينيين دون محاكمة أو تهمة، واستخدام عمليات التعذيب.

وقالت جمعية “الحقوق المدنية في إسرائيل”: لصحيفة “هآرتس/ Haaretz، إن بعض قراراتها -المحكمة العليا- سمحت طيلة العقد الماضي للدولة العبرية بتنفيذ التطهير العرقي لمنطقة كبيرة بالضفة الغربية المحتلة.

أيضا، سمحت المحكمة بمصادرة ممتلكات الفلسطينيين في القدس الشرقية، وسحب الجنسية من الذين تعتبرهم غير موالين، كما تفصل بين المجتمعات اليهودية والفلسطينية داخل إسرائيل، وتسمح باحتجاز جثث المهاجمين الفلسطينيين المزعومين كأوراق مساومة سياسية.

تفرقة صارخة

بالنسبة للفلسطينيين، فإن الاحتجاج على الحكومة الإسرائيلية يمكن أن يكون حكماً بالإعدام. سواء كانوا مواطنين في إسرائيل أم لا.

لهذه الاعتبارات لا يهتم ولا يخاطر الفلسطينيون بحياتهم والمشاركة في الاحتجاج، لإنقاذ المحكمة التي تسمح لدولة الاحتلال بقتلهم.

يشير منير إلى ما وصفه بـ “بعض من أفضل الأدلة على هذه التفرقة الصارخة هذا الأسبوع”.

يقول: على الرغم من حشود اليهود الإسرائيليين الذين يملأون شوارع المدينة، ويغلقون الطرق السريعة، كان قمع الشرطة ضئيلاً مقارنة بحجم الاحتجاجات، حيث اشتمل على وسائل غير قاتلة.

بينما عندما قضى المصلون الفلسطينيون ليلتهم للصلاة في المسجد الأقصى كما هو معتاد خلال شهر رمضان- قامت الشرطة بضربهم بوحشية. وأصيب نحو 50 فلسطينيا في حملة القمع العنيفة واعتقل 350 فلسطينيا.

وفى ذات السياق، شنت إسرائيل الجمعة غارات جوية على غزة، وعلى مخيم للاجئين الفلسطينيين جنوب لبنان، ذلك ردا على صواريخ  نسبت إلى حركة حماس، اعتبرت بدورها كرد على تحركات قوات الأمن الإسرائيلية في الأقصى.

وفي غضون ذلك، انتهك المتعصبون الدينيون اليهود الحرم المقدس، دون رد فعل يذكر .

ويلفت منير  النظر  إلى أن أحد أسباب الصراع المستمر على السلطة بين مكونات الحكومة الإسرائيلية هو  افتقاد الدولة إلى دستور حيث “لم يتم تبني  ميثاق دستوري عند تأسيس إسرائيل عام 1948”.

أما عن أسباب ذلك فهو “يرجع جزئيًا إلى أن تقييد سلطة الدولة -من خلال تكريس حقوق متساوية مثلا- كان من شأنه أن يعرض  قدرة إسرائيل على تنفيذ أهم مشروع لها: استمرار احتلال فلسطين” للخطر .

لا يهتم ولا يخاطر الفلسطينيون بحياتهم والمشاركة في الاحتجاج لإنقاذ المحكمة التي تسمح لدولة الاحتلال بقتلهم

اقرأ أيضا: هل تعصف خطة الإصلاح القضائي بحكومة نتنياهو؟

استبعاد الحق في المساواة

كان أكبر محفز للجهود اليمينية لكبح سلطة المحاكم الإسرائيلية، هو تفسير المحكمة العليا لقانون الحقوق والحريات للعام 1992 – قانون كرامة الإنسان.

يقول منير: تعمد صانعو القانون استبعاد مبدأ المساواة، وكذلك حقوق أخرى هامة،  مثل حرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية.

لكن المحكمة العليا قررت، مع ذلك، تفسير بند “كرامة الإنسان”، على أنه يضمن الحق في المساواة.

يوضح: على الرغم من أن هذا يبدو  مكسب  للفلسطينيين، لكن المحكمة  وضعت شرط الأخذ فى الاعتبار “يهودية الدولة “،بعبارة أخرى، كانت قدرة المحكمة على قراءة المساواة كحق، مقيدة بمسألة ما إذا كان دعم المساواة سيتحدى الهوية اليهودية لإسرائيل.

لذلك، فإن النتيجة المنطقية والعملية لهذه الممارسة القضائية، هي أن فكرة المساواة تمتد على الأقل إلى المواطنين غير اليهود”، لكن، حتى هذه المكانة من الدرجة الثانية لا ترضِ القوميين الدينيين في إسرائيل، الذين ما زالوا يرون أن المحكمة تشكل عقبة في أجندتهم لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتحويل المجتمع الإسرائيلي إلى اتجاه أكثر تديناً”.

وضمن سياق مواقف المحكمة يشير  منير:  إلى تأييدها  القانون الأساسي لعام 2018، والذي عرّف إسرائيل على أنها “الدولة القومية للشعب اليهودي”، ولكن عندما اقترح الفلسطينيون من مواطني إسرائيل قانونًا دعا إلى “دولة جميع مواطنيها”، اعتبر الكنيست أنه “متطرف جدا”، بحيث لا يمكن تقديمه رسميًا، ووافقت المحكمة على ذلك.

إسرائيل لا يمكن أن تكون ديمقراطية

يقول منير: لا يفهم العديد من المراقبين -تماما- الأسباب الجذرية للاضطراب الإسرائيلي، لأنهم فشلوا في مواجهة واقع الدولة الواحدة الموجود للإسرائيليين والفلسطينيين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

يضيف: يظل المحللون محاصرين في شرك نموذج قديم للدولتين -يدفعون الفلسطينيين بعيدًا عن الصورة، ويرون إسرائيل في أسوأ الأحوال : ديمقراطية معيبة.

وحين  يوسعون نطاقهم ليشمل الفلسطينيين، كما فعلت العديد من منظمات حقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة بتسيلم الإسرائيلية، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش. تصبح جريمة الفصل العنصري ودور المحاكم الإسرائيلية في التحريض عليها جلية.

ويشير منير:  إلى أن المظاهرات التي هزت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة “هي إلى حد كبير صراع بين مؤيدي نسختين مختلفتين من الفصل العنصري. أحدهما يميني وصريح بطبيعته، والآخر يسعى إلى الاختباء وراء ورقة تين من الليبرالية”.

وأكد أنه “مهما كانت نتيجة هذه الاحتجاجات، فإن الدولة التي تعتبر المساواة تهديدًا وجوديًا لا يمكن أن تكون ديمقراطية أبدًا. سبب عدم مشاركة الفلسطينيين هو أننا عرفنا ذلك طوال الوقت”.