تسبب سباق دراما رمضان في حالة من الجدال على “السوشيال ميديا”، لم تكن أبدا على مستوى المسلسلات، التي جاءت أغلبها ضعيفة، وكان أفضلها دون المستوى، فكان تقييم النصف الأول من رمضان فنيا أقل من المتوسط.
تحولت مواقع التواصل إلى ميدان رئيسي للمنافسة، فقد نظمت شركات الانتاج حملات ترويجية للمسلسلات، ثم تحولت تلك الحملات الترويجية، إلى ما يشبه اللجان الإلكترونية، حسابات تدور في الفضاء الإلكتروني، تبحث عن أي كلمة عن المسلسل، وتدافع ببسالة عن صناعه، وتهاجم منتقديه بشدة.
اللجان الترويجية للمسلسلات ظهرت منذ عدة سنوات، ولكنها كانت فجة هذا العام، بسبب ضعف الأعمال.
يبدو أن أرقاما بالملايين تم إنفاقها على تلك الحملات، فلم يعد يتوقف الأمر على الشركات المنتجة، فكل ممثل يتعاقد مع شركة للترويج له ولأدواره، والهجوم أحيانا على منافسيه، والضغط على منتقديه، حتى وصل الأمر إلى رسائل التهديد.
أحيانا تتسبب حملات الترويج في أثر عكسي على عقول المتلقين، خاصة إذا كانت الحملة الترويجية تخالف واقع ما يراه المشاهدون، فيصبح ممثل كوميدي لا تسمح له إمكانياته سوى ببعض النكات السخيفة، أن يتحول إلى صانع البهجة، وتتحول فنانة لا تملك حظا من الموهبة أو القبول، إلى بطلة الدراما.
الدعاية هي جزء من مفهوم المصريين لمصطلح “ضبط الشغل”، وهي سلسلة طويلة من الإجراءات والأعمال، التي تخلو من الانتاج الحقيقي، ولا تساهم في العملية الإنتاجية بأي شكل، ولكنها تتطفل عليها، وتستحوذ على حصة من إيراداتها.
خلقت البيروقراطية المصرية، التي صنعتها دولة يوليو، ملايين من “ضباط الشغل”، شريحة واسعة من الموظفين، كتاب ومراجعين ومشرفين وموجهين.
على مستوى الشركات الحكومية والمؤسسات الإنتاجية، تحولت هذه الوظائف مع الوقت، إلى عبء كبير أثقل كاهل تلك المؤسسات، وأودى بها إلى خيارات الإفلاس والخصخصة.
بمرور الوقت وتراجع القطاع العام، تحولت الكتلة المنتجة الرئيسية إلى العمل غير المنتظم، سواء بالعمل ضمن مشاريع البناء والتشييد، أو في مشروعات صغيرة، لا تتحمل تكلفة وأعباء الرسوم الحكومية الناتجة عن تسجيل تلك الأنشطة.
خلال العقود الماضية تحمل العامل المصري فوق كاهله جبالا من الإنفاق الحكومي، الذي يسدد فاتورته ضمن ما يدفعه من ضرائب بشكل مباشر أو غير مباشر.
تضاعف الإنفاق الحكومي خلال السنوات الماضية، بالتزامن مع تراجع دور الدولة في أداء دورها الحقيقي لحماية المجتمع، اختل ميزان المسئوليات والصلاحيات بشكل كبير، فالحكومة التي تتوسع في صلاحياتها عبر تشريعات وقرارات تنفيذية، تتخلى تدريجيا عن مسئولياتها المجتمعية في توفير الدعم وضبط الأسواق، والحفاظ على سعر العملة، وتخطيط الاقتصاد.
يتحمل أجر العامل الذي يسكن بحي عشوائي في أحد ضواحي محافظة الجيزة، نصيبا من تكلفة البنية التحتية، التي ربما لن يستخدمها سوى نادرا، ويتحمل فاتورة إعلام لا يقدم له سوى دعاية حكومية، يشعر معها أنه في البؤس وحيدا.
“ضباط الشغل”، في بلادنا أكثر حظا من هذا العامل البائس، الذي يسدد ديونهم، بل ولديهم فرص للترقي الاجتماعي، لن تتاح له أبدا، وقد تمنحهم الصدفة، فرصا لقفزات وظيفية هامة، تفتح لهم أبواب السعادة، وفي المقابل ليس مطلوبا منهم سوى ترديد عبارات ” تم بتوجيهات السيد… وفقا لتعليمات معالي…”.
لا أنكر دور الدولة في توفير البنية التحتية وصناعة إعلام حكومي، وحتى صناعة الترفيه من دراما وسينما ومسرح، ولكن أن يكون بالقدر الذي يمكن تحمل تكلفته، وفي حدود تحقق الهدف المنشود، دون إسراف أو تفريط.
الأزمة الاقتصادية الحالية ألقت بمزيد من الضغوط والأعباء فوق ظهور المواطنين، ولا ينقصنا أعباء إضافية ليس لها هدف سوى الدعاية السياسية والترويج والتباهي، بمشروعات ربما لن نحتاج اليها على المدى القريب.
مفهوم العدالة الاجتماعية لا يعني توزيع معاشات اجتماعية، أو بناء شوادر للسلع الغذائية بأسعار مخفضة، ولكن توزيع عادل للحقوق والواجبات، للثروة والسلطة، فرص متساوية للتعلم والعمل والترقي.