في أول عهدي بالصحافة، في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، قال لي من عمل في سكرتارية مكتب رئيس الوزراء زكريا محيي الدين بين عامي 1965 – 1966، إن رئيس الوزراء طلب من أمانة مكتبه مسودة لخطاب شكر يوجهه للرئيس جمال عبدالناصر يشكره على ثقته فيه وتكليفه بالمهمة، ويعد بعمل كل ما يستطيع لخير البلاد، ثم انتهى المكتب من كتابة مسودة خطاب الشكر، ثم عرضوها على رئيس الوزراء، ثم استدعاهم إلى مكتبه، وقال لهم: “طلبت خطاب شكر من رئيس وزراء مكلف لرئيس جمهورية كلفه، لم أطلب خطاب تمجيد لشخص الحاكم، كفاية صناعة أصنام”.

ثم قال لهم في مناسبة أخرى “إن الرئيس جمال عبدالناصر استهدف من تأسيس الاتحاد الاشتراكي ما لم يستهدفه من التنظيمات السابقة عليه، سواء هيئة التحرير أو الاتحاد القومي، اللذين كان الهدف منهما تنظيم وحشد وتعبئة الجماهير خلف حكم الضباط الأحرار، بينما الهدف من الاتحاد الاشتراكي مختلف، والهدف هو أن يكون قوة شعبية توازن قوة الجيش”.

ساعتها، فهمت أن قوة شعبية موازنة للجيش تعني قوة جماهيرية تسند ظهر الرئيس عبد الناصر في صراعه المكتوم مع المشير عبدالحكيم عامر الذي استقل بالجيش بعيدا عن الرئيس. ثم دارت الأيام وقرأت في ص 307 من صمويل هنتنجتون – النظام السياسي في مجتمعات متغيرة – ترجمة حسام نايل – دار التنوير للطباعة والنشر، أن الرئيس جمال عبد الناصر سعى لتزويد الاتحاد الاشتراكي بمجموعة لا تزيد عن أربعة آلاف عضو، ستكون بمثابة الحزب الحاكم داخل البلاد، واستهدف عبدالناصر من التنظيم الجديد دعم عملية انتقال السلطة سلميا وضمان استمرار خططه السياسية في حالة حدوث أي شيء له”.

ثم في ص 308 يقول هنتنجتون عن التنظيمات السياسية التي أنشاها عبدالناصر “لم يكن بمقدورها إنجاز الوظائف المطلوبة من المؤسسات السياسية، صحيح أنها ضمت إليها كل الناس، لكن ظلت السلطة متركزة في أيدي مجموعة قليلة، ضمت كل الناس بصفتهم أفرادا لا بصفتهم قوى اجتماعية، لم تكن هذه التنظيمات أدوات صالحة تستطيع من خلالها القوى الاجتماعية المسيطرة توسيع نطاق سلطتها وتعديلها وإضفاء الشرعية عليها”. اقتباس بتصرف محدود في الصياغة.

ثم يقول في ص 8 كذلك “الضباط الأحرار رفضوا الاعتراف بأنهم حزب سياسي في طور النشوء، فأضاعوا على أنفسهم الفرصة لإضفاء طابع مؤسسي على دورهم، وبدلا من تحويل مجلس قيادة الثورة إلى جهاز مركزي في بنية سياسية جديدة، قاموا بحله عام 1956، حين اُعلن الدستور الجديد، وانتُخب عبد الناصر رئيسا للبلاد، وفي مخيلتهم أن الوثائق والاستفتاءات الشعبية تخلق مؤسسات”. انتهى الاقتباس.

ثم في ص 309 يقول “ونتيجة لهذا لم ينشأ أي تنظيم في مصر ييسر حدوث تغييرات في التركيبة الاجتماعية للنخبة الحاكمة الجديدة، يُقال إن عبد الناصر تطلع إلى أن يستبدل بالجيش من حيث هو مصدر القيادة العليا في الحكم تحالفا أقرب إلى مجموعات مدنية من بين طبقات المهنيين والمثقفين، وكانت المشكلة هي إدخال عناصر جديدة – يقصد في دائرة الحكم – دون إثارة استياء الجيش، والتنظيم الحزبي وسيلة من وسائل أداء هذه الوظيفة”.

مشكلة التنظيمات السياسية التي أنشأها الضباط من هيئة التحرير 1953 حتى حزب مستقبل وطن 2014 أنها تضم كل الناس ومن ثم يخرج منها كل الناس ومن ثم هي جراب الحاوي فيه كل شئ وليس فيه أي شئ هي قربة مخرومة لا تمسك ماء ولا تروي ظمأ سهلة التأسيس والانتشار ثم سهلة السقوط والانهيار، لعب مؤقتة، يزهد فيها الجميع، بمجرد أن ينتهي الغرض منها، وهو خدمة من في السلطة بالذات في تزوير وفبركة الانتخابات والاستفتاءات العامة، هي – في التحليل الأخير – قوة مشاة شعبية وظيفتها تخريب العملية السياسية.

لكن بعد سبعين عاما أو أكثر من حكم العسكريين دون أحزاب حكم حقيقية ودون أحزاب معارضة حقيقية، مع إيثار الديكورات الحزبية الكرتونية، فإن البدء في الطريق الطويل من نقل الحكم – بصفة جادة – من العسكريين إلى المدنيين يلزمه التفكير – بصوت عال – في كيف تنتقل السلطة دون المرور باضطرابات من النوع الذي ينال من صلابة الدولة وتماسك المجتمع واستقرار الناس وأمانهم؟ مع ضرورة ملاحظة الفارق الكبير بين الضباط بعد 23 يوليو 1952 والضباط بعد 3 يوليو 2013، في المرة الأولى كانوا مدفوعين بروح ثورية متوثبة لتغيير كل شيء، بينما في المرة الأخيرة مدفوعون بروح تقليدية محافظة أقرب ما تكون إلى ثورة مضادة شاملة ضد الجميع، ضد كل ما سبقها من من ثورات بما في ذلك ثورة 23 يوليو 1952 نفسها، ثم هي مضادة لكل القوى الاجتماعية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ثم هي حالة خاصة فيها توليفة من كل تراث سياسي سلبي سبق ومر على المصريين، هي حالة غير متصالحة مع أي طيقة من طبقات الشعب المصري، فعندها اعتقاد أنها مكلفة بإعادة بناء الدولة من جديد والحفاظ على استمراريتها ولو كان ثمن ذلك التضحية بالشعب، ضباط ما بعد 3 يوليو 2013 يضعون الدولة ومصلحتها في حالة تضاد وتناقض مع الشعب ومصالحه.

ثم يلزم إدراك نقطة مهمة هي أن المدنيين أنفسهم في حالة من الشقاق الاجتماعي فيما بينهم، شقاق واسع وعميق، يشمل كل شيء من قضايا الدين حتى قضايا الدولة، سيولة مدنية ليس فيها مناطق صلبة يمكن الوقوف عليها بأمان، فلا أفكار متبلورة، ولا تنظيمات متماسكة، ولا أليات مستقرة للتوافق والتفاهم وتسوية الخلافات وردم الفجوات وتقريب وجهات النظر.

هذا الشقاق الاجتماعي سابق على دولة الضباط سواء القدامى أو الجدد، ولا يصح القول إنهم من أنشأوه، هم وجدوه، واستفادوا من وجوده مرتين، في القفز على السلطة ثم الاستمرار فيها، ثم من خلال قفزهم على السلطة ثم استمرارهم فيها سعوا ويسعون لوأد أي بديل مدني جاد من أي فكر ومن أي طبقة ومن أي اتجاه، فطالما بقيت التنظيمات المدنية هشة، وطالما ظلت القيادات المدنية الضعيفة كلما ظلت الفرص متاحة أمام العسكريين للقفز على السلطة ثم الاستمرار فيها.

مع الإشارة إلى أمرين: أولهما أن حكم الضباط في 23 يوليو 1952 كان حركة إصلاحية بينما حكم الضباط في 3 يوليو 2013 حركة رجعية محافظة، وثانيهما أنه لا فرق بين الأقدمين والمستجدين في التعامل مع المجتمع السياسي والطبقة السياسية فكلاهما ضرب السياسة في مقتل وشوه المجتمع السياسي وخرب وجرف الطبقة السياسية، وعندما قال الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في تسعينيات القرن العشرين إن الرئيس الأسبق حسني مبارك جرف مصر فهو في الحقيقة صادق لكنه لم يصدق للنهاية فيقول إن التجريف الفعلي بدأ مع حكم الضباط وما يزال مستمرًا قبل مبارك وبعده.

***

الحل ليس في خروج عاجل غير آجل للعسكريين من الحكم، الحل في خروج مؤسسي منظم على مدى زمني كاف لتنضج مؤسسات الحكم والمعارضة في سياق سليم وأجواء مواتية، خروج منضبط يكفل الانتقال من نظام الشخص الفرد الحاكم بالإنابة عن الجيش من عبد الناصر حتى السيسي إلى نظام الحزب الحاكم بصورة حقيقية، حزب حاكم يؤسسه العسكريون أنفسهم، يمارسون من خلاله السياسة بشخصيات قيادية منهم تترك الجيش، حزب سياسي يعمل في الشارع بأدوات العمل الحزبي والجماهيري، مع الفصل التام والكامل بينه وبين الجيش كمؤسسة حرب وقتال ودفاع وأمن قومي، كذلك مع الفصل التام بينه وبين كافة أجهزة الدولة السيادية والأمنية والبيروقراطية، حزب بمعنى كلمة حزب، له أفكار وبرامج وتنظيم وتمويل وقنوات تواصل مع الجماهير ويعد المرشحين لكافة الانتخابات ويخوض الانتخابات دون تزوير ودون تدخل من أي جهاز رسمي في الدولة، الحل الذي يسميه صمويل هنتجتون في ص 317 من كتابه “تأسيس معادل سياسي فاعل أمام الجيش”، وهو الحل الذي فكر فيه وحاوله جمال عبد الناصر في السنوات الأخيرة من حكمه لكنه لم يوفق فيه ولم يهتد إلى وجه الصواب فيه، فكان قد اعتاد على وضعه كرئيس فوق الدولة وفوق الشعب وفوق الأحزاب وفوق الواقع وفوق التاريخ ذاته، رئيس ميتافيزيقي نصف ألهي في نهاية المطاف، وهو الوضع الذي استراح إليه وورثه عنه خلفاؤه من ضباط الجيش حتى لو ساروا على عكس نهجه وانحيازاته الاجتماعية والسياسية، فسياسات السادات ثم مبارك ثم السيسي ليست أكثر من انقلاب متدرج على سياسات عبدالناصر مع الاحتفاظ بديكتاتوريته واستبداد حكمه.

هذا الخروج المنظم المؤسسي عبر تشكيل حزب حقيقي يكسب ويخسر، يحكم ثم يعارض، هو ما حدث في أنجح ثلاث تجارب في المكسيك ثم في تركيا ثم في كوريا الجنوبية، فقد أسس العسكريون أحزابا حقيقية، وفصلوا بين الجيش والسياسة، وفصلوا بين الحزب وأجهزة الدولة، ولم يزوروا الانتخابات، وقبلوا أن يخسروا، ورحبوا بنقل السلطة للفائز، وبهذا حدث بالتدريج الانتقال من حكم عسكري إلى مدني ومن ديكتاتوريات إلى ديمقراطيات صاعدة يجرى فيها تداول حقيقي على السلطة.

التحول لم يخل من عقبات، والتطور لم يتم دون انتكاسات، وفي لحظات كثيرة حدثت توترات عنيفة بين المكونات المدنية والعسكرية في عملية التحول، لكنها – في النهاية – كانت تمرينا عمليا للطرفين، التمرين للعسكريين على تقبل فكرة الاكتفاء بالثكنات وترك الحكم للمدنيين، ومن أراد منهم السياسة يلزمه ترك العسكرية، ثم الانخراط في المدنية، ثم ممارسة السياسة كمواطن لا كجنرال، ثم تمرين المدنيين على مسؤوليات الحكم دون ما يشتهرون به من: فساد وتربح واستفادة من مغانم السلطة، ثم ما يشتهرون به من شقاق وتمزق وإدمان لعبة الصراع على السلطة.

في ص 317 يقول صمويل هنتنجتون “أسس الجنرالات في المكسيك الحزب المكسيكي الثوري المؤسسي، وأسس الجنرالات في تركيا حزب الشعب الجمهوري، كلا الحزبين أسسهما جنرالات سياسيون، وجاءت قيادة الحزبين من صفوف الجيشين المكسيكي والتركي، ثم بالتدريج اكتسب الحزبان – بصورة أوضح في المكسيك وبدرجة أقل في تركيا – وجودهما المؤسسي باستقلال عن المجموعات التي أسستهما في البداية، وفي الحزبين كان العسكريون من ذوي الطابع المدني، ثم بالتدريج حل قادة مدنيون محل القادة العسكريين، وبهذا استطاع كلا الحزبين، باعتبارهما تجمعين سياسيين منظمين جيدا، تأسيس معادل سياسي فاعل أمام الجيش”.

ثم يتحدث عن كيف نجحت عملية الانتقال من عسكري إلى مدني في المكسيك، يقول “ففي المكسيك، انتقلت قيادة الحزب العليا، من العسكريين إلى مدنيين عام 1946″ – أضيف من عندي أن العسكريين كانت لهم الكلمة العليا في المكسيك من مطلع القرن التاسع عشر يعني حوالي قرن ونصف وهم المسيطرون – ثم ، والكلام هنا يعود لصمويل هنتنجتون، بحلول 1958 لم يزد عدد العسكريين عن سبعة من إجمالي تسعة وعشرين حاكمًا للولايات، ولم يزد عدد العسكريين عن وزيرين من إجمالي ثمانية عشر وزيرًا في مجلس الوزراء، ثم مع الستينيات من القرن العشرين أصبحت الغلبة للمهنيين المدنيين، فهؤلاء أصبحوا هم صناع السياسة الحقيقيون، وأصبح الجيش ذاته تحت سيطرتهم، يحكمون دون استشارة الجيش إلا في القضايا التي تخص القوات المسلحة، وأصبح في مقدور هؤلاء المهنيين المدنيين أن يعارضوا وجهات نظر الجيش – كما حدث مرارا – في شأن قضايا تخص القوات المسلحة”. انتهى الاقتباس.

ثم عن كيف حدث الانتقال من عسكري إلى مدني في تركيا يقول “في تركيا حدثت أيضا عملية تمدين مماثلة، وإن لم تكن ناجحة تماما، عبر ألية الحزب الحاكم، فأُقيل رئيس الأركان من مجلس الوزراء عام 1924، وتقلص في المناصب الساسية عدد العسكريين السابقين، ففي عام 1920 كان الضباط يشكلون 17% من البرلمان، ثم في 1943 باتوا يشكلون 12%، ثم في عام 1950 باتوا يشكلون 5% فقط، وفي عام 1938 مع وفاة مصطفى كمال أتاتورك انتقلت القيادة سلمياً إلى رفيقه عصمت أينونو الذي جاء من الجيش لكنه اشتغل عشرين عاما في السياسة المدنية، ثم في 1948 تشكل أول مجلس وزراء يخلو تماما من العسكريين السابقين، ثم في عام 1950 جرت انتخابات حقيقية فازت فيها المعارضة، ورحب الحزب الحاكم بنتائج الانتخابات “انتهى الاقتباس.

الذي أود إضافته هنا، أن ترويض العسكريين في البلدين استغرق زمنا طويلا، ففي المكسيك تواصل وجودهم وانقطع عدة مرات على مدار القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، هم سبقوا عسكر تركيا في القفز على السلطة ثم سبقوهم في الخروج منها. كذلك الأمر في تركيا استغرق زمنا طويلا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من قرننا هذا الـ 21، أي ما يقرب من قرن ونصف قرن في كلا البلدين، ولو صح قياس الحالة في مصر عليهما لأمكن القول إن مصر في منتصف الطريق بين حكم العسكريين وحكم المدنيين، بشرط أن يحكم العسكريون من خلال حزب حاكم حقيقي لا من خلال أحزاب كرتونية ليست أكثر من واجهات شكلية لحكم الجيش وهيمنة المؤسسات السيادية والأمنية والبيروقراطية، أحزاب كرتونية تعمل أوعية للفساد والاستبداد، لو جرب العسكريون المصريون الوصفة المذكورة، والتي حاولها عبد الناصر في أواخر عهده – لكان ذلك بداية الطريق الطويل لإصلاح ما أفسدوه على مدى أكثر من سبعين عاما، أزاحوا الطبقات السياسية القديمة ولم يسمحوا بتأسيس طبقات سياسية جديدة، ألغوا أحزابا حقيقية، ثم سمحوا بأحزاب كرتونية، لم يسمحوا أبدا باستفتاءات غير مزورة ولا بانتخابات غير مفبركة.

وكانت النتيجة أن مصر خسرت تحت قيادتهم سبعين عاما لم تنجز فيها أي مؤسسات سياسية حقيقية تكفل حكما رشيدا وتضمن تداول السلطة وتحدث التغيير دون إلحاق الأذى والاضطراب بالدولة والمجتمع. فخلاصة السبعين عاما: مصر تقف بائسة بلا قيادات حقيقية تفرزها الجماهير وبلا أحزاب حقيقية يلتف حولها الشعب، مصر ليس فيها غير الجيش وهو العمود الفقري للبلد ثم البيروقراطية الأمنية والإدارية وهي جهاز تشغبل للمرافق العامة، لكن ليس فيها مؤسسات سياسية ولا فكر سياسي ولا قيادات تملأ عين الشعب، وإن وجدت القيادات تم وأدها على الفور إما بالتهميش وإما بالاعتقال.

***

تركيا والمسكيك عرفت الكفاح من أجل الحكم الدستوري مثلنا – هنا في مصر – في القرن التاسع عشر، غير أنه في القرن العشرين تركيا سبقت 1908، ثم المكسيك لحقت 1917، ثم مصر 1923. المكسيك عبرت القرن العشرين وقد ودعت إلى الأبد الانقلابات العسكرية، تركيا جربت في النصف الثاني من القرن العشرين جربت أربعة انقلابات، ثم في 2016 جربت محاولة انقلاب فشلت وربما تكون الأخيرة وربما لا تكون، فالأزمات الاقتصادية فيها تتصاعد، ودائما كانت من مبررات الانقلابات، مصر محكومة منذ منتصف القرن العشرين بضباط من الجيش، انقطع حكمهم عامين بعد ثورة 25 يناير 2011، ثم عاد أشد وأعتى مما سبق، يهرس كل نبتة مدنية في مهدها بلا تمهل حتى تبزغ وترى وجه الشمس.

المكسيك قريبة الشبه منا في مصر، فقد خضعت ثلاثة قرون للاستعمار الإسباني من مطلع القرن السادس عشر حتى مطلع القرن التاسع عشر، الفترة ذاتها انحجبت مصر عن النور ثلاثة قرون تحت الحكم العثماني. وجه شبه آخر بيننا وبين المكسيك أن غزو نابليون لمصر 1798 كان بداية خروج من مصر من الحكم العثماني كما بداية العصر الحديث، كذلك كان غزو نابليون لإسبانيا أواخر 1808 نقطة انطلاق الكفاح المكسيكي للاستقلال عن إسبانيا عبر الكفاح المسلح 1815.

لكن وجوه الشبه بيننا وبين تركيا أكبر، ليس فقط أكبر من وجوه الشبه بيننا وبين المكسيك، لكن بيننا وبين أي دولة عربية بما في ذلك الشام وشمال أفريقيا، رغم أننا – في مصر ننأى بدوافع وطنية عن تاريخنا العثماني، لكنه حقيقة ضخمة يصعب إنكارها، ثم بحقائق التاريخ فإن تطور الحركة الدستورية والقومية في تركيا هو الأقرب إلى تطور الحركة الدستورية والقومية في مصر، استانبول والقاهرة هما قلب الشرق الأوسط في القرنين التاسع عشر والعشرين، فحكم محمد علي باشا وسلالته على مدى قرن ونصف هو – في التحليل الأخير – حكم عثماني وسلالة عثمانية وتوجهات عثمانية رغم كل ما يُفال عن الاستقلال بعضه أو كله عن استانبول ، وحنى بصرف النظر عن الحكم العثماني لثلاثة قرون ثم حكم محمد علي باشا وسلالته قرناً ونصف قرن، فإن ارتباط مصر وتركيا أقدم من ذلك كله، ففيما عدا الدولة الفاطمية 969 – 1171 فإن مصر على مدى ألف عام ظلت كما يقول أكمل الدين إحسان أوغلو في كتابه ” الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي ” – دار الشروق – 2011 “منذ العهد الطولوني 868 – 905 حتى عام 1952 لا يخلو حكم مصر من حاكم تركي الأصل أو حاكم نشأ وتربى على مفهوم الدولة التركية وثقافتها”.

ثم يقول “النزعة التجديدية عند محمد علي باشا مُستلهمة من تجارب التحديث التي جرت في استانبول عاصمة الدولة العثمانية، إلا أن القاهرة فاقت استانبول في أمر الجيش والمطبعة، إذ تقدمت القاهرة على استانبول وحققن نجاحا باهرا، نجاح محمد علي باشا قوبل بتقدير عظيم في كافة أنحاء العالم بما في ذلك استانبول مع شيء من الحسد والغيرة”. انتهى الاقتباس.

تركيا سبقت في مسعى التحديث على النمط الأوروبي، فمع مطلع القرن الثامن عشر تزايدت دعوات الإصلاح الإداري والعسكري والسياسي على النمط الأوروبي، بالذات بعد بطرس الأكبر في روسيا 1672 – 1725، وبدأت تباشير الإصلاح مع السلطان أحمد الثالث وقد حكم بين 1703 – 1730، حيث بدأ ما حاوله محمد علي باشا في مصر بعد ما يقرب من قرن من الزمان، بدأ في استدعاء الخبراء من فرنسا وفي إرسال البعثات إلى أوروبا، وأدخل المطابع بالحروف العربية – بعد جدل فقهي واجتماعي عنيف – عام 1727، ثم توقفت على فترات متقطعة لما يقرب من 45 عاما ولم تنتظم في عملها إلا عام 1783، وكانت استانبول سمحت بالمطابع بغير الحروف العربية في وقت مبكر جدا من اختراع المطابع في ألمانيا 1447، فسمحوا لليهود الفارين من الاضطهاد الكاثوليكي في اسبانيا بمطابع بالحروف العبرية، كما سمحوا لليونانيين بمطابع بحروف لغتهم، كما سمحوا للسفارة الفرنسية في استانبول بمطبعة 1786، ثم تأسست مطبعة عربية في عام 1808، تسبق مطبعة بولاق في مصر 1820، كما تسبق مطبعة في تونس 1859.

عندما أعلنت مصر إفلاسها 1876 كانت تركيا قد سبقت وأعلنت إفلاسها 1875، وعندما تم عزل الخديو إسماعيل 1879 كان قد تم عزل السلطان عبدالعزيز للأسباب ذاتها، كانت مالية الحكومتين في القاهرة واستانبول في عجز عن سداد ما عليها من التزامات دولية ثم في عجز عن دفع مرتبات الموظفين المدنيين ثم عن دفع مستحقات الضباط والجنود.

وفي التوقيت ذاته كانت تنشط في البلدين حركة قوية من أجل الحكم النيابي لتمثيل الشعب والدستور لوضع القيود على سلطة الخديو في القاهرة والسلطان في استانبول.

مصر حصلت على استقلالها الشكلي 1922 بينما بزغت تركيا الحديثة المستقلة – غير العثمانية – 1923. مصر اضطرت لعقد اتفاقية 1936 من باب الاحتياط لمخاطر الحرب العالمية الثانية التي كانت كل الدلائل تشير إليها، وكذلك فعلت تركيا 1939. ثم تركيا سبقت إلى الإصلاح الزراعي 1946 ثم إلى تداول السلطة 1950 وهو ما لم تأخذه حكومات ما قبل 1952 بعين الجدية، فتطورت تركيا سلميا، بينما وقعت في مصر ثورة 23 يوليو 1952، فاستمر تواصل النظام في تركيا، بينما وقعت قطيعة تاريخية حادة في مصر، رفضت مصر قبل وبعد حكم الضباط الانضمام للأحلاف العسكرية الغربية بينما تجاوبت تركيا من باب العداء التاريخي مع روسيا، على غير ما تهوى النخب المصرية، فإن التطور السياسي للحركة الوطنية في مصر وتركيا يظل هو الأقرب والأوثق، وبالذات الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في كلا البلدين، فتاريخ تركيا الحديثة مثل تاريخ مصر الحديث مداره على مركزية دور ومكانة الجيش في النظام السياسي.

***

السؤال: ما أوجه الاستفادة هنا في مصر من مسيرة التطور التاريخي التي قطعتها تركيا من تدخل الجيش في السياسة من 1876 حتى 2016 مقارنةً بتدخل الجيش في السياسة في مصر من 1881م حتى 2023م وإلى ماشاء الله؟.
الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.