يبدو أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين سيصبح السمة المميزة للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين. حيث يشعر صانعو السياسة والمحللون بالقلق من مستقبل  يمزقه مشهد  الانقسامات إلى كتل متنافسة فى ظل جغرافيا سياسية متبدلة.

الحقيقة القاسية هي أن المنافسة غالبًا ما تتحول إلى صراع. تخلل القرن الماضي نوبات دورية من العنف، الحرب العالمية الأولى والثانية، الحرب الكورية، حرب فيتنام، وأخرى  بين إسرائيل والدول العربية، غزو الصين للهند وفيتنام، وغيرها من صراعات مسلحة .

مسئولون صينيون وروس وجنوب إفريقيون خلال التدريبات البحرية في خليج ريتشاردز- جنوب إفريقيا- فبراير/ شباط 2023

وخلال  حقبة الحرب الباردة، صعد  خطر الدمار النووي جراء المواجهة  بين موسكو وواشنطن وأشعل  التنافس بينهما صراعات ساخنة اتخذت شكل  حروب بالوكالة حول العالم.

وفي ظل نموذج أحادي القطب، تتولى خلاله الولايات المتحدة القيادة، اندلعت حروب الإبادة الجماعية الشرسة في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، وغزت الولايات المتحدة العراق وأفغانستان.

اقرأ أيضا: الصدام المباشر بين روسيا والغرب هو الطريق الوحيد للمفاوضات

في تحليله حول مستقبل الحكم والعلاقات الدولية وسط المنافسة الأمريكية- الصينية، يشير بالاهاري كوسيكان، الممثل السابق لسنغافورة بالأمم المتحدة، في مقاله المنشور في فورين أفيرز/Foreign Affairs، إلى أن الحرب في أوكرانيا والتنافس بين الولايات المتحدة والصين “تتوافق مع الأنماط الراسخة لسلوك الدولة”.

يقول التحليل: إن حالات عدم اليقين والمخاطر التي تشكلها. مثل احتمالية خروج الحوادث عن السيطرة والتصعيد النووي، يمثُل  “المجهول المعروف” حسب توصيف وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد.

ونجحت معظم الدول في اجتياز المراحل السابقة من المنافسة بين القوى العظمى، بل ونما وازدهر الكثير منها في ظل تلك الظروف القاسية. إذ ظلوا هادئين ومارسوا الحصافة المعقولة.

إزدواجية المعايير تقوي موقف روسيا

يشير بالاهاري إلى أن معاناة أوكرانيا مدهشة، هى  الحرب الأولى في أوروبا منذ حروب البلقان في التسعينيات. بينما كانت المآسي المماثلة الآن، حقيقة يومية لعدة عقود في جنوب الكرة الأرضية.

يقول: من الواضح أنه لم يتم اعتبار جميع انتهاكات النظام العالمي الحالي، غير مقبولة أو تعامل بنفس الجدية.

نادرًا ما تتم مناقشة  قضايا العرق واللون في العلاقات الدولية، لكن لم يغب عن اهتمام الكثيرين في الجنوب العالمي أنه في أوكرانيا -ولأول مرة منذ حروب البلقان في التسعينيات- يقتل البيض بيضا آخرين.

قد لا يكون هذا هو العامل الأكثر أهمية الذي يؤثر على المواقف تجاه حرب أوكرانيا في الجنوب العالمي، لكنه عامل مهم .

تفسر  المعايير المزدوجة سبب ضعف الدعم المقدم لأوكرانيا في العديد من بلدان الجنوب العالمي، انتبه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير/ شباط. إلى ذلك وقال قد لا يكون للجنوب العالمي دور كبير في ساحة المعركة في أوكرانيا.

ولكن مع استمرار الحرب، إذ تآكل الدعم السياسي والدبلوماسي من دول الجنوب لأوكرانيا، لذلك يصبح من الصعب على الدول الغربية إبقاء روسيا معزولة.

ويشير إلى أنه لسوء حظ أوكرانيا، فإن حربها مع روسيا هي في الحقيقة عَرض جانبي للولايات المتحدة “لقد أوضحت واشنطن أنها لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع، لأن مثل هذا التدخل قد يؤدي إلى تصعيد نووي خطير”.

وأوضح أنه، في الواقع، أوكرانيا هي قضية من الدرجة الثانية بالنسبة للولايات المتحدة.

القضية الأولى هي الصين. فكما قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بصراحة، إن الولايات المتحدة تريد استخدام أوكرانيا لإضعاف روسيا حتى لا يتمكن الكرملين من غزو دولة أخرى. ومع ذلك، لم يتم التعبير عن رغبة الولايات المتحدة في جعل الدعم القوي لأوكرانيا درسًا مهمًا لبكين.

الولايات المتحدة تريد استخدام أوكرانيا لإضعاف روسيا حتى لا يتمكن الكرملين من غزو دولة أخرى

اقرأ أيضا: ديون العالم النامي.. أزمة تحتاج إلى واشنطن وبكين معا

مبالغات

يلفت بالاهاري إلى أن الجغرافيا السياسية لأشباه الموصلات المتطورة مثال على  تشابك وتعقيد اعتماد الدول الكبرى على بعضها البعض .

في سلسلة توريد أشباه الموصلات المملوكة للولايات المتحدة وحلفائها وأصدقائها، مثل اليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان. تستهلك الصين حوالي 40% من جميع الرقائق المصنوعة في جميع أنحاء العالم.

لذلك، في إطار ضرورات وقيود هذا الاعتماد المتبادل المعقد، يتطلب عصر المنافسة الحالي سياسات تم إنشاؤها بأحكام دقيقة بدلاً من قرارات ثنائية.

يقول: التكافل لا يمحو إمكانية الحرب. لكن هذا النوع الجديد من الاعتماد المتبادل المعقد يرفع إلى حد كبير تكاليف الصراع، ويقلل -إلى جانب الردع النووي- من احتمالية شن الحرب كأداة للسياسة.

وأشار إلى أنه “إذا وضعنا جانباً مسألة ما إذا كانت الصين لديها القدرة على استبدال نظام جديد بالنظام الحالي، فليس من مصلحتها فعل ذلك”.

وأكد أن الصين هي المستفيد الرئيسي من الاقتصاد العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة. لذلك “قد ترغب بكين في إزاحة الولايات المتحدة من مركز الاقتصاد العالمي، لكن هذه مسألة مختلفة عن الرغبة في رميها عن الطاولة تمامًا”.

ولفت إلى أن “سلوك الصين في شرق الصين وبحر الصين الجنوبي وفي جبال الهيمالايا -حيث قام جيشها بشكل استفزازي بمطالبات الأراضي- هو بالتأكيد عدواني وانتقامي في هواجسها الإقليمية. لكن وصف الصين كقوة مراجعة تسعى إلى قلب النظام الدولي كليًا هو مبالغة في تقدير القضية”.

بنفس القدر من المبالغة، يتم تقدير الفكرة القائلة بأن تنافس واشنطن مع بكين، والحرب الحالية في أوكرانيا، هما جزء من صراع أكبر بين الديمقراطية والسلطوية.

الشرق الأوسط.. تصحيح خطأ

حاليا، لم يعد هناك أي سبب لتحمل الأمريكيين أي عبء أو دفع أي ثمن لدعم النظام الدولي.

كانت الأولويات الرئيسية لكل إدارة أمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة محلية في الأساس، ذلك مع  استثناء  سياساة إدارة جورج دبليو بوش المترتبة على  هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، والتي قادت إلى مغامرات غير حكيمة في الشرق الأوسط.

ومنذ ذلك الحين، حاول كل رئيس تصحيح أخطاء بوش، من خلال فك الارتباط عن تشابكات الشرق الأوسط، قطع الرئيس جو بايدن أخيرًا العقدة في أفغانستان بداية من العام  2021.

فك الارتباط  “هذه الخطوة القاسية غالبًا ما يتم تصويرها بشكل خاطئ مع انسحاب الولايات المتحدة من العالم. ولكن من المفهوم بشكل أكثر دقة أن الولايات المتحدة تعيد تعريف شروط تعاملها مع العالم. مرة أخرى، هذا ليس جديدًا تمامًا”، وفق بالاهاري.

ويشير مندوب سنغافورة السابق بالأمم المتحدة إلى حقبة تاريخية وسياسات مشابهة

“قبل نصف قرن، صححت الولايات المتحدة الخطأ الذي ارتكبته في فيتنام. يحدث تحول الآن إلى دور مماثل في الشرق الأوسط، حيث من غير المرجح أن تتدخل الولايات المتحدة مرة أخرى بقوات برية واسعة النطاق.

لكن الأسطول الخامس للبحرية الأمريكية لا يزال في البحرين، والقوات الجوية الأمريكية لا تزال في قطر والإمارات”.

وأكد أنه، عاجلا أم آجلا، سيحدث تحول مماثل في أوروبا أيضًا “ربما يتأخر، ولكن لن يحول مساره بسبب الحرب في أوكرانيا”.

ويشير إلى أنه “بالنسبة لتلك البلدان التي تلبي توقعات الولايات المتحدة، يبدو أن بايدن مستعد للذهاب إلى أبعد من أي من أسلافه لتزويدهم بالأدوات لتحقيق المزيد من الأهداف المشتركة”.

ويضرب مثالا الشراكة الأمنية الثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، والتي مكنت أستراليا من الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهي المرة الأولى منذ أكثر من 60 عامًا التي تشارك فيها الولايات المتحدة مثل هذه التكنولوجيا.