كثيرة هي المشروعات القومية التي تقوم بها الدولة في الوقت الراهن، بعضًا من تلك المشروعات قد انتهى وبعضها لا زال في طور التنفيذ. وبعض تلك المشروعات حظي بالدعم الشعبي الكامل، وبعضه محل نقد شديد.

من المشروعات التي نالت رضا الكثيرين مبادرة حياة كريمة، وتكافل وكرامة، ونور الحياة، ومصر بلا غارمين، و100مليون صحة، وغيرها. وهي مشروعات اعتمدت على مخاطبة الشأن الاجتماعي، للكثيرين من الفئة الدنيا بشرائحها المختلفة. أي أنها ساهمت في رفع العبء عن كاهل الطبقة الدنيا، في مجال الإسكان والصحة وغيرها.

وعلى العكس كان هناك مشروعات طالت نقد كبير، كالقصور الرئاسية، والمزارع السمكية، وخدمات النقل والطرق، يكفي القول: أن مشروع المزارع ترافق مع ارتفاع أسعار الأسماك عدة أضعاف، ومشروع النقل والطرق ابتلع ترليونين اثنين من الجنيهات “2 ترليون جنيه”، وفقًا لتصريح رئيس الدولة في عيد الشرطة الماضي، وهو ما يوازى نصف إجمالي الدين الخارجي.

في الآونة الأخيرة برز مشروع قومي جديد في الأفق، هو مشروع دلتا مصر الجديدة، وهذا المشروع يقع في محيط أربع محافظات هي مطروح والبحيرة والفيوم والجيزة، وهو يهدف لاستزراع 2.2 مليون فدان، بما يضيف نحو 15% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في مصر المقدرة حاليًا بنحو 9.7 مليون فدان.

وينقسم المشروع إلى ثلاث مراحل: هي مشروع مستقبل مصر، وهو المشروع المنفذ أولا من الناحية الزمنية بقدرة 1مليون فدان منزرعة ومستهدفة، ويقع إلى جوار محور الضبعة، يليه المساحة المتبقية المخصصة لمشروعي جنة مصر، ثم مشروع مناطق محافظة البحيرة ووزارة الزراعة.

تكلفة المشروع إجمالا 160مليار جنيه، أي نحو 5 مليار دولار، وهو ضمن 500 مليار جنيه حجم المشروعات الزراعية المخطط لها في الوقت الراهن كمشروعات التنمية الزراعية في وسط وشمال سيناء 456 ألف فدان، وتنمية جنوب الوادي(توشكي)، 500 ألف فدان، ومشروع غرب المنيا والتوسع الأفقي في الوادي الجديد بحجم 650 ألف فدان، ومشروع الريف المصري الجديد 1.5مليون فدان، ومشروع شرق العوينات (230ألف فدان)، ومشروع البذور والتقاوي، وصوامع تخزين الغلال.. إلخ.

ويضم مشروع الدلتا الجديدة، إنشاء مجمعات صناعية كمحطات تعبئة وتغليف وتصنيع المنتجات الزراعية، ومحطات للإنتاج الحيواني (لحوم وألبان).

يبقى السؤال هل من عائد مجز لهذا المشروع الضخم؟

للإجابة عن هذا السؤال: نكون بصدد الحديث عن بعض السمات الإيجابية والسلبية للمشروع.

فبداية يرصد أساتذة الاقتصاد الزراعي أن ما ينتج من المتر المكعب الواحد من المياه بغرض الاستخدام الزراعي هو 10جنيهات، وما ينتج عن المتر المكعب بغرض الإنتاج الصناعي هو 100 جنيه. وبذلك يعتبر البعض أن هذا المشروع، في ظل ندرة وشح المياه في مصر، يعد إسرافًا وهدرًا كبيرًا للموارد المائية.

على أنه من جانب آخر فإن المُخططين للمشروع يبدو أنهم على دراية بمسألة شح المياه، إذ أن المُخَطط لمياه الري الخاصة بالمشروع، هو الري من الخزان الجوفي بغرب الدلتا، وهو خزان ملوحته تقدر ما بين 400- 900 جزء من المليون، وهي نسبة يعتبرها الخبراء جيدة لأغلب الزراعات الشجرية والخضروات. إضافة إلى ذلك فإن محطة الحمام تعتبر مصدرًا مهمًا للمشروع، لأنها ستوفر نحو 7.5 مليون متر مكعب يوميًا من المياه، تنتج عبر محطة معالجة ثلاثة، في طور التنفيذ والتشغيل قريبا، وتخص معالجة مياه الصرف الزراعي القادم من الدلتا القديمة، أي أنها تغطى 25% من مياه المشروع. وإذا ما أضيف إلى كل ما سبق المصدر الشرقي، المقدر بنهر صناعي طوله 170كم يستخدم روافع ومضخات ضخمة بسبب فروق المناسيب، وهو مسمى بترعة تحيا مصر، وتعتمد أيضا على معالجة مياه الصرف الصحي من مدينة 6 أكتوبر لاكتملت الصورة.

وبطبيعة الحال، فإن وسائل الري في المشروع ستعتمد على الري الحديث غير المسرف، عبر الري بالرش والتنقيط وخلافه، لاتضح أن مسألة الإسراف في المياه عبر الري بالغمر، ستكون محدودة للغاية. ورغم تلك الجهود، إلا أن خبراء جيولوجيين يرون أن هذا الكم المستهدف من المساحة المستصلحة (2.2 مليون فدان لن يحتاج أقل من 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا، وهو كم لا يتوفر إلا ثلثه في الوقت الحاضر!!

من جانب آخر، يرى البعض أن المحاصيل الزراعية الاستراتيجية والتي تهم مصر بالدرجة الأولى هي من الأهمية التي تجعل المشروع قادرًا على تعويض أية خسائر مالية، إذ أن مسألة الاستقلال السياسي للبلاد تجُب أية خسائر مالية للمشروع. هنا أيضًا يسعى منتقدو المشروع للحد بأكبر درجة من خسائره، وذلك برفضهم الكامل أن يقوم المشروع على زراعة السلع الاستراتيجية التي تسرف في المياه، كالذرة مثلا، وهؤلاء يرون أن منتجي السلع الاستراتيجية اليوم حول العالم أصبحوا من الكثرة التي لا تجعل القرار السياسي لمصر في معضلة، بمعنى أن تلك السلع أسواقها كثيرة، ومخاطر استغلالها من قبل الموردين شبة منعدمة،

ويضربون مثال على ذلك برخص ثمن القمح الذي أصبح لا يتجاوز رغم ظروف الحرب الروسية الأوكرانية الـ300 دولار للطن، ناهيك عن كثرة المنتجين في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا. وهؤلاء يرون أيضًا أنه من الأهمية أن تقوم مصر بزراعة المحاصيل النادرة ومرتفعة الأثمان، والمبكرة النضج، والأكثر احتياجًا وطلبا في الخارج، والأقل في استهلاك المياه. بعبارة أخرى، ينظر بعض خبراء الاقتصاد الزراعي إلى الدلتا الجديدة كمصدر من مصادر دخل للبلاد إذا ما استُغِلت بشكل جيد، وذلك بزراعة الأنواع مرتفعة الثمن من المحاصيل، والقادرة على التكيف مع التغيرات المناخية، ما يجعل العائد الاقتصادي من المشروع واضح، وقدرته على منافسة منتجاته الزراعية عالميًا واضحة أيضًا.

تأتي قضية أخرى، وهي قضية النقل والتسويق، وهنا ينظر البعض إلى أن هذا المشروع لا زال يتمتع بميزة نسبية عن غيره من المشاريع الزراعية. فمشرع جنوب الوادي في توشكي لا زال يتعثر بسبب بعد المسافة عن أسواق التصدير وأسواق الاستهلاك المحلي. ومشروع الـ 1.5 مليون فدان الذي بدأت به خطة التنمية الزراعية منذ خمس سنوات، مشروع فاقد للمياه بشكل كبير، لأنه قائم على منطقة حارة وصحراوية. وبمقارنة ذلك بمشروع الدلتا الجديدة، فإن هذا المشروع يتسم بقربه من الأسواق المحلية، والقدرة على التصدير عبر شبكات الطرق التي نشأت حديثًا. جدير بالذكر أن مشروع الدلتا الجديدة قريب من العديد من المواني البحرية والبرية والجوية، كميناء الإسكندرية والسخنة ودمياط ومطاري سفنكس وبرج العرب، وهو يربط المناطق الصناعية ببعضها مثل: مدينة السادات و6 أكتوبر وبرج العرب، وهو امتداد لمحافظات الدلتا وظهير مباشر لها.

من زاوية أخرى، يعتبر مشروع الدلتا مهم من زاوية الوفر الاقتصادية المتصلة بتشغيل مئات الآلاف من الشباب، كما أنها فرصة جيدة للغاية لتعويض الاستنزاف الذي استشرى منذ يناير 2011 بالبناء على الأرض الزراعية في الدلتا القديمة ووادي النيل، ما يجعل زيادة المساحة المنزرعة والمستصلحة ضرورية، لا سيما وأنها سترتبط بنشأة مجتمعات جديدة متكاملة، بالخدمات التعليمية والصحية وغيرها، وذلك عوضًا عن حال التكدس العمراني في الدلتا القديمة والوادي.

الأشهر القليلة القادمة، هي من سيكون الحكم الرئيس على هذا المشروع القومي الضخم، خاصة وأن كلمات النقد والتقييم لا زالت في طور البدء، إما بسبب عدم وضوح معالمه وعائده على أرض الواقع، وإما لمحدودية المصادر المخولة لها التقييم العلمي والموضوعي لمثل تلك المشروعات.