عندما فكر الإنسان في عالم ما بعد الموت للمرة الأولى، لم يفكر في مكان يشبه الجنة، بل فكر في مكان أقرب لجهنم، لكن دون تصورات معقدة أو تعذيب أبدي، أو حتى مكان يفصل فيه بين الأخيار والأشرار، بل هو مكان لجميع من ماتوا، فلم تكن مسألة الخير والشر من الناحية الأخلاقية قد تطورت في وعي الإنسان بشكل مبكر.

بحسب الكاتب “جورج بنوا” في كتابه تاريخ جهنم، فالإنسان عرف تحنيط الجثث قبل خمسين ألف سنة قبل الميلاد، مما يعني أنه منذ ذلك التوقيت على الأقل، لم يعد الموت يعني له النهاية، بل أن هناك عالما آخر ورائه، يستحق أن يتجهز من أجله.

إنسان ما قبل التاريخ لن يتخيل سماء أو فردوسا خلف الموت، بل لن يتخيله عالما منفصلا عن حياته اليومية على الأرض، الموت ليس إلا مجرد فاصل صغير، سيواصل فيه أنشطته الاعتيادية، لكن في هيئة شبحية، وأما الأرض نفسها ستكون كطيف أو صورة نيجاتيف لما كانت عليه في حياته.

كانت قبائل أستراليا الأصلية، بحسب عالم الاجتماع إميل دوركهايم، تؤمن أن الأموات يشكلون مجتمعا موازيا يواصل الصيد والسفر ومراقبة تصرفات الأحياء، بل وبإمكان أرواحهم أن تؤذيهم بسبب الغيرة من كونهم أحياء، وكان عليهم من أجل تجنب أذى هؤلاء الذين اكتسبوا قوى خارقة بعبورهم إلى العالم الآخر، مما جعله يعيش في حالة من المفاوضات المستمرة مع الموتى، الذين اكتسبوا مع الوقت قوة القداسة.

جهنم في الحضارات الشفاهية، التي سبقت الحضارات الشرقية الكبرى، كحضارات ما بين النهرين والحضارة الفرعونية وإيران والهند، كانت مجرد مكان كئيب، مظلم وبارد، يقع في الأغلب في حفرة تحت الأرض، ومصيرك فيه يتحدد بناء على مصيرك في الدنيا، إذا كنت في مكانة قوية ستستمر كذلك في العالم الآخر، وإذا كنت ضعيفا ستحتفظ بمكانتك نفسها، لم يكن هناك جنة للمستضعفين أو المساكين، لم يكن هناك ظالم أو مظلوم.

كان الجحيم في ذهن الشعوب الأصلية، لا يعتمد على الخير أو الشر، بل كان يعني النبذ من الجحيم نفسه، فمن لم يندمج مع الجماعة، وكان منعزلا عنها، لم يتمرن على طقوسها، أو يحترم تسلسل العلاقات الاجتماعية بها، كان يشرد بعيدا عنها في العالم الآخر.

كانت فكرة الخلاص أو الإدانة الفردية فكرة غريبة عن تلك المجتمعات، وهو أمر مفهوم نظرا لأن تضامنها أمام ظروف طبيعية واقتصادية بالغة الصعوبة كان هو سبيل نجاتهم الوحيد، لذا لم يكن الإنسان يواجه الجحيم منفردا، بل ضمن جماعة.

ولعل أول محاولة لتخيل الجحيم، ظهرت عن طريق الشامان، الذي عرفته قبائل سيبريا وآسيا الوسطى، وهو الكاهن أو العراف الذي يمتلك حسب معتقدات تلك القبائل قوى خاصة تسمح لروحه بمغادرة جسده في رحلة تستمر 3 أيام في حالة ما بين فقدان الوعي والنشوة والهلاوس والرؤى، لمرافقة روح الميت في الرحلة الخطيرة في العالم السفلي، والذي تقابله فيه الكثير من العقبات كالوحوش الضارية ونسر عظيم وبركة من نار ونهر مليء بالسيوف، وبنات سيد العالم السفلي اللائي يحاولن إغواء الشامان كي يضللنه عن مسعاه، وبعد أن ينحدر الشامان بالروح إلى أسفل جبل من عظام الشامانات الذين فشلوا قبله في مهمة عبور الجحيم، يهبط إلى حفرة إلى العالم السفلي، حيث يعبر برفقة الروح فوق جسر ضيق جدا بعرض شعرة، تحتها هاوية سحيقة.

هنا جهنم، ليست للخطاة أو المذنبين، بل للجهلة وقليلي الخبرة وغير المندمجين اجتماعيا، الذين في حاجة إلى خبرة الأسلاف المتصلين بقوى كونية من أجل عبور آمن.

عندما يعود الشامان من رحلته الروحية، يصف للأحياء ما رآه في العالم السفلي.

وفي شمال أوروبا عند الشعوب الجرمانية والإسكندنافية، لم يختلف جهنم كثيرا كمكان بدون تعذيب، يسمى “الهل”، ومنه تطورت كلمة Hell في الإنجليزية والقريبة من كلمة Holl بمعنى حفرة أو ثقب، وهو مكان جليدي مليء بالضباب، محاط بالأسوار، تهيم فيه أرواح الموتى من العاديين من الناس، الذين لم يموتوا في أرض المعركة نظرا لطبيعة تلك الشعوب المحاربة، أما المكان المميز لهؤلاء الذين حاربوا بكرامة، أو قتلوا وهم يحاربون، فيدعى الفالاهالا، حيث يستقبلهم أودين إله الحرب بنفسه، في قصره حيث يشاركونه الولائم والاحتفالات بل ومواصلة الحروب أيضا، رغم أنه مكان لتأكيد الشرف، إلا أنه لم يكن مكانا للراحة الأبدية.

حتى عندما تتوصل بعض شعوب أمريكا الوسطى كالمايا والإنكا لفكرة القيامة أو يوم يبعث فيه الأموات، وينتهي فيه العالم، فلن يروه كمكان يميز بين السعداء والأشقياء.

احتاجت فكرة جهنم لتتطور من مجرد مكان لجمع الموتى إلى مكان للعذاب، إلى أن يدخل الإنسان في طور الحضارة، حيث تطورت فكرة القوانين الأخلاقية التي يكون فيها للفرد أهمية أكبر ويتحمل فيها مسئولية واضحة عن أفعاله، لكنها أيضا كانت مشغولة بانتهاك القانون الأخلاقي ضد المجتمع، أكثر من إساءة الفرد لنفسه، ولم يكن هناك فارق بين عدالة الملوك وعدالة الآلهة.

كانت جهنم مثلا في حضارات ما بين النهرين، هي لمن انتهكوا قوانين شبيهة بشرائع حمورابي، حيث يُسأل المرء: إن كان قال كلاما يثير الفتن أو مهينا، هل استعمل ميزانا مغشوشا، هل اختلس مالا حراما؟ هل تجاوز العدالة؟

أغلبها أسئلة مشغولة بالقانون الاجتماعي الذي سنه الملك، الذي ألهمه الإله تلك القوانين التي تميز سكان الدولة كمواطنين، وتلزمهم بواجبات معينة للمحافظة على النظام الاجتماعي للدولة.

وكذلك شُغلت الحضارة الفرعونية بإعداد جحيم مماثل، لهؤلاء الذين لم يحترموا قواعد الأعمال الزراعية كالري وحدود الأملاك، وركزت أسئلة الحساب أمام محكمة أوروزيس، أن الميت: لم يغش في الكيل أو الميزان، لم يكن مهملا في عمله، لم يكن عاطلا عن عمد، لم يغتصب أرضا ليست له، لم يسد مجرى قناة، لم يتلف المحاصيل، وطبعا العبارة الأشهر في كتاب الموتى أنه لم يلوث ماء النهر.

أما في الديانة الهندوسية، وفي المعتقد البوذي، فحُدِد الشرير مستحق العذاب في الشخص الأناني الذي يُغلب رغبته في تحقيق الإنجاز والمجد الشخصي والثروة على مصالح الجماعة.

لم يأخذ مجرى الخير والشر شكله الواضح في تحديد مصير الإنسان في العالم الآخر إلا مع ظهور زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، والذي آمن بأن الكون خلقه إله واحد هو: أهورا مزدا، والذي يمثل الخير المطلق، لكن نظرا لحاجة زراداشت في تفسير الشر، فقد اقترح أن ذلك الإله الأزلي الحق، خالق السماء والأرض قد نشأت عنه روحان متعارضتان، روح خيرة وأخرى شريرة تمثل الشيطان، وأنه لم يتدخل في خيارات أي منهم سواء باختيار المثابرة على طريق الخير أو الإصرار على طريق الشر، الطريقان اللذان سيمثلان النموذج البدائي لاختيارات الإنسان.

هنا تتبدى حرية الإنسان في اختياراته الفردية كجوهر لفكرة الأخلاق، ومنها تأتي مسئوليته عن أفعاله، الحرية بحسب المعتقد الزرادشتي هي ما ستقوده إلى الاختيار، ويقع على عاتقه وحده مسئولية مكافحة الشر.