في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي رفع أسعار الفائدة بقيمة 200 نقطة أساس، ليصل سعر الفائدة إلى 18.25% للإيداع، وإلى 19.25% للإقراض، وذلك استمرارا لسياسة رفع معدلات الفائدة لمحاولة السيطرة على التضخم المستورد، وبالرغم من إدراك معظم الاقتصاديين أن الأزمة ناشئة في الأساس على جانب العرض ( أي المتاح من السلع والخدمات المنتجة ) وليس بسبب فائض على جانب الطلب، لكن هذا القرار كان مدفوعًا بمحاولة استمرار جذب للأموال الساخنة للبقاء داخل مصر والحفاظ على مستويات فائدة مرتفعة كغيرنا من الأسواق الناشئة، رغم ما تمثله تلك السياسة من ضغوط كبيرة على الموازنة العامة للدولة وعلى القطاع البنكي، وعلى النشاط الاقتصادي بأكمله.
وفي مطلع أبريل/ نيسان الحالي اجتمعت لجان الخصوم والأصول بالبنوك “الأليكو”، لبحث مصير أسعار شهادات الادخار والقروض بعد قرار البنك المركزي الأخير، البنكان الوطنيان: ( مصر والأهلي )، طرحا شهادات ادخار ثلاثية بعائد 19% و 22 % متناقصة، ومن ثم استمرت باقي البنوك في تقديم شهادات ادخار، تدور حول نفس أسعار الفائدة بحد أقصى 22%، بالرغم من أن البنوك قد طرحت شهادات ادخار لمدة عام واحد بعائد 25% في يناير/ كانون الثاني الماضي، وذلك إثر تخفيض قيمة الجنيه للمرة الثالثة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى 30 جنيها للدولار الواحد بدلًا من 24 جنيها، وذلك في أعقاب توقيع اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي.
وبالرغم من تصريحات وبيانات بعض المسؤولين عن البنوك المصرية، عن وجود إقبال على الشهادات الجديدة التي تم طرحها بسعر فائدة من 19 % إلى 22 % لمدة 3 سنوات، خاصة وأنها تخاطب في الأساس أصحاب شهادات الـ 18% التي تم طرحها منذ عام مع بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، وانتهت مدتها في مارس الماضي، والتي تقدر قيمة المدخرات بها أكثر من 700 مليار جنيه، وبالتالي فإن اجتماع لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي، وقرار رفع أسعار الفائدة 2%، ثم تقديم البنوك شهادات جديدة تهدف جميعها استقطاب هؤلاء المودعين وأموالهم، فلا توجد حاليًا في الاقتصاد الوطني ما يمكن تقديمه من سلع وخدمات توازي الطلب أمام 700 مليار جنيه بأكملهم سيتم ضخهم في السوق.
وبالرغم من انتشار بعض الأخبار قبل اجتماع لجنة السياسات النقدية عن احتمالية طرح شهادات إيداع بفوائد 28 % و30 % وهي التي سارع المركزي المصري بنفيها، منعًا للتأثير النفسي شديد السلبية الذي سيطال السوق المصري لا محالة باعتبار أن احتمالات الاستقرار، والهدوء للاقتصاد الوطني ليست قريبة، إلا أن مؤشرات ومعدلات التضخم التي أعلن عنها المركزي المصري مؤخرًا، والتي تقدر مستوى تضخم أسعار المستهلكين بأكثر من 40% في فبراير/ شباط الماضي، باتت تمثل عامل ضغط على البنك المركزي والحكومة في آن واحد.
منذ بداية شهر مارس/ آذار الماضي وحتى الآن تصاعد سعر الدولار في السوق السوداء حتى وصل لـ 38 جنيها، وباتت التعاقدات الآجلة للمستثمرين تقدر سعر الدولار بحوالي 40 جنيها وأكثر، بالتزامن أيضًا مع حركة الطلب على الدولار، زادت بالمثل أسعار الذهب في السوق المحلي في ذات الفترة، كان أحد دوافع تلك الزيادات في تقديري هو تسرب بعض الأموال من القطاع البنكي ومن ودائع القطاع العائلي فيه، وتدفق تلك الأموال لحفظ قيمة أموالهم في ملاذات أخرى خارج القطاع البنكي.
قيمة العملة التي انخفضت وتراجعت بأكثر من 50% من 15 جنيها للدولار وحتى 31 جنيها للدولار الواحد “بالسعر الرسمي” خلال عام، بالإضافة لارتفاع قياسي في مستويات التضخم، أصابت كثيرًا من أصحاب الودائع والشهادات بالإحباط رغم تحقيقهم أرباحًا جيدة بنسبة 18% خلال عام، إلا أن ضريبة التضخم وانخفاض قيمة العملة أصبحت دافعًا لإعادة التفكير مرة أخرى أمام أصحاب تلك الأموال حول الملاذ الآمن لحفظ قيمة الأموال من التضخم واستثمارها بشكل يزيد من قيمتها.
في سياق متصل، أصبحت البنوك تطالب بعوائد تصل لـ 28% مقابل شراء أذون وسندات الخزانة المصرية، والتي عبرت بقوة عن تلك الرغبة في العطاءات الأخيرة التي قدمتها وزارة المالية، حيث لم تتمكن الحكومة من تغطية نسبة 0.5 % من الطرح الأخير، بواقع مليون جنيه فقط من عطاءات تقدر قيمتها بـ 3 مليارات جنيه، بما يمثل ضغطًا ورفضًا كبيرين من البنوك في الشراء عند فوائد 22% واحتجاز أموالهم عند تلك القيمة غير المناسبة مع انخفاض قيمة العملة ومعدلات التضخم الحالية.
الفارق بين حجم الودائع المنتهية في مارس/ آذار، وبين الودائع التي تم تجديدها، هو ما يمكن وصفه بـ “الأموال الحائرة”، فأصحابها يراودهم التفكير عن اختيارات أخرى للاستثمار، في ظل عدم تقديم شهادات ادخارية جذابة لهم، وانتظار مزيد من سياسة التشدد النقدي ورفع أسعار الفائدة، وهو في النهاية يضع البنك المركزي أمام اختيارين: أحلاهما مرا، إما ترك الأمور كما هي عليها وإعطاء رسالة إيجابية بكون الأزمة قاربت على الانفراجة، وبالتالي لا بد من تهدئة وتيرة رفع سعر الفائدة والعودة لمعدلات مقبولة، وتحمل في ذلك مخاطر عدم تمويل الدين الحكومي، وخروج الأموال من القطاع البنكي لترتفع أكثر أسعار الذهب والعقارات والعملات الأجنبية المتداولة في السوق السوداء.
وأما الاتجاه نحو الاختيار الثاني القاسي أيضًا، والذي يمثل رفع أكثر صرامة لأسعار الفائدة، وتقديم شهادات ادخارية أكثر جاذبية تغطي مستويات التضخم، وما يتبعها من مزيد من الجمود في النشاط الاقتصادي الإنتاجي لصعوبة التمويل، ومزيد من الضغوط على الموازنة العامة برفع تكلفة الاقتراض المحلي وما يتبعها من زيادة مستويات العجز، وزيادة الضغط على قيمة العملة، واهتزاز الثقة في موعد استقرار الاقتصاد المحلي، وضخ موجة جديدة من التضخم بعد نهاية تلك الشهادات الادخارية الجديدة.
وحتى نرى إجراءات جديدة في السياستين النقدية والمالية، تبقى أمامنا حقيقة وجود مئات المليارات من الأموال الحائرة في أيدي أصحابها الذين يحتاجون لاستثمارها، وتحتاجها الحكومة لتلبية احتياجاتها التمويلية، وتحتاجها البنوك لإقراض عملائها، ويحتاجها رواد الأعمال وأصحاب المشروعات والمصانع لتمويل دورات الإنتاج وتمكينهم من استمرار أنشطتهم بدلًا من الإغلاق والتوقف الكامل، فكيف تصل تلك الأموال الحائرة إلى الوجهة الصحيحة؟